الحقّ في المؤاخذة العادلة في المنازعة الجبائية: معاليم تسجيل البيوع العقارية نموذجاً


2021-10-20    |   

الحقّ في المؤاخذة العادلة في المنازعة الجبائية: معاليم تسجيل البيوع العقارية نموذجاً
رسم عثمان السالمي

تصدر سنوياً مئات عديدة من قرارات التوظيف الإجباري المتعلّقة ببيوعات عقارية التي تستند إلى تقدير إدارة الجباية أنّ ثمن البيع المصرَّح به يقلّ عن الثمن “الحقيقي”، وعليه، يتعيّن على الأطراف، خصوصاً المشتري، دفع معلوم تسجيل “تكميلي” يعادل الفارق بين معلوم التسجيل المدفوع على الثمن التعاقدي والمعلوم المُنطبِق على الثمن النظري الذي ترى إدارة الجباية أنّه الحقيقي. وفي أغلب الملفّات، تكتشف الإدارة “النقص” في القيمة عبر مقارنة ثمن البيع المنصوص عليه في العقد بثمن بيع عقارات مجاورة أو مشابهة بلغ إليها العلم بها من خلال تسجيل عقود أخرى في فترات قريبة نسبياً. ويكون عدد كبير من تلك القرارات موضوع منازعات تتعهّد بها المحاكم، غالباً ما يُحكَم فيها إمّا بتأييد قرار التوظيف الإجباري وإمّا بالحطّ من المبلغ الموظَّف وفق ما يقرّره الخبراء الذين يتمّ انتدابهم للتثبّت من التقدير. ويبدو هذا التوجّه في انسجام تامّ مع مقتضيات الفصل 48 من مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية الذي يُمكّن الإدارة من الاعتماد على “القرائن القانونية والفعلية” لتقدير الضريبة المُستَحَقّة، كما يظهر خادماً للمصلحة العامّة لما فيه من تكريس لحقّ الدولة (إدارة الجباية) في أن تصحّح التصاريح وتوظّف الأداء في صورة وجود “نقص” في الثمن المصرَّح به مع تطبيق العقوبات الجبائية التي تستتبع ذلك وبخاصّة خطايا التأخير.

 

تقوم المراجعة الجبائية على التنقيب والتدقيق في موارد المُطالَب بالأداء، وتعتمد بالتالي إجراءات تحقيقية اتّهامية تؤول إلى تسليط قرار توظيف إجباري على الشخص مع خطايا جبائية ذات طبيعة عقابية أو تعويضية، بما يفترض إخضاعها إلى قواعد المحاكمة العادلة. لكن، بمجرّد رفع الطعن بالاعتراض أمام المحكمة، يصطدم المُطالَب بالأداء بجدار أوّل يتمثّل بامتناع الإدارة عن تمكينه من الاطّلاع على العقود التي اعتمدتها في التنظير. فيتساءل أيّ شخص عادي قام ببيع ملكه في ظروف هو أدرى بها من إدارة الجباية وبثمن ظهر له معقولاً ومناسباً أو حتّى مغرياً عن المبرِّر المنطقي للتعامل معه كما لو كان متحيِّلاً. أمّا توظيف الأداء في هذه الحالة، لمجرّد أنّ شخصاً آخر باع عقاراً له بعض الشبه مع عقاره بثمن أرفع، يدعو إلى التساؤل عن صحّة أنّ النظام القانوني عموماً يقوم على مبدأ سلطان الإرادة وقرينة البراءة.

 

  • جَحْدُ عناصر التنظير

ترفض إدارة الجباية بشكل آلي طلبات المطالَبين بالأداء الاطّلاع على نسخ عن العقود التي اعتمدتها في التنظير واكتشاف فارق بين قيمة ما صُرِّح به في العقد موضوع المراجعة وثمن المِثْلِ الذي اعتمدته لـ”تصحيح” القيمة. وتستند في ذلك إلى مقتضى الفصل 15 من مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية الذي يحجر عليها تسليم نسخ من العقود المسجَّلة أو مضامين من الدفتر المخصَّص لإجراء التسجيل أو استخراج كشف من المنظومة الإعلامية في العقود المسجَّلة إلّا للمتعاقدين أو خَلَفِهم. كما تجد سنداً لموقفها في قانون حماية المعطيات الشخصية[1] الذي يحجر إحالة تلك المعطيات للغير.

 

إلّا أنّ هذه الحجج التي تبدو منطقية لا تمنع إدراك أنّ التمسّك بهذا الموقف يؤدّي إلى نتائج غير منطقية أحياناً، وأنّه يتعارض مع مبادئ دستورية ثابتة.

 

  • مدى منطقيّة موقف الإدارة: إمكانيّة تحصيل عقود التنظير عن طريق سلطة جبائية أجنبية

يسمح مبدأ حماية السرّ المهني الجبائي ببعض الاستثناءات، منها إمكانيّة مدّ سلطات جبائية أجنبية بنسخٍ من العقود والكتائب المُوْدَعة لدى السلطة الجبائية التونسية بموجب اتّفاقية مُبرَمة في الغرض بين الدولتين لمقاومة التهرّب الضريبي. إذ تستطيع السلطة الجبائية الأجنبية الحصول على نسخ من العقود والكتائب الموجودة تحت يد الإدارة الجبائية التونسية بموجب اتّفاقية دولية. والأصل أنّها ستستخدمها لمراجعة الوضعيّة الجبائية لأحد أطراف تلك المعاملة، لكن لا  لا مانع من استخدامها للتنظير مع معاملات أخرى تهمّ أطرافاً أخرى إذا كانت قوانين تلك البلاد تسمح بذلك. وعليه، يستطيع المُطالَب بالأداء المقيم في الخارج أن يحصل على نسخ عن عقود مبرمة بين أطراف آخرين عبر آليّة التعاون الدولي، في حين لا يمكنه الحصول عليها مباشَرة من إدارة الجباية التونسية. علاوة على ذلك، بإمكان الغير، في بعض البلدان، أن يتحصَّل على نسخ عن العقود والكتائب بموجب قوانين النفاذ إلى الوثائق والمعلومات العمومية.

 

  • ماذا عن احترام مقوّمات التحقيق الجبائي المنصف (المؤاخذة العادلة)؟

إنّ احترام حقّ الدفاع ومبدأ المواجهة من مقوّمات المؤاخذة العادلة. وقد نصّت الاتّفاقية الأوروبّية لحقوق الإنسان والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب[2] على ذلك، كما كرّسه الدستور التونسي حقّاً أساسيّاً في الفصل 108. بالتالي، يمكننا القول إنّ امتناع الإدارة عن تمكين المُطالَب بالأداء من الاطّلاع على العقود التي اعتمدتها للتنظير رغم مطالبتها بذلك بصفة صريحة فيه مساسٌ بحقّ الدفاع. ويُذكَر هنا أنّ إدارة الجباية، التي تتمسّك بالفصل 15 من مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية، تعتبر أنّ حتّى لو كان هذا الفصل مخالفاً للدستور ليس للقاضي الجبائي أن يبتّ في دستوريّته من عدمها، لأنّ الجهة الوحيدة المُخوَّلة ذلك هي المحكمة الدستورية، التي لم تُركَّز بعد.

 

في مواجهة هذا المأزق القانوني، يقدّم الفصل 15 نفسه الحلّ. فهو ينصّ على عدد من الاستثناءات لمبدأ حصانة السرّ الجبائي، منها صورة صدور أمر من القاضي المختصّ الذي يمكّن القاضي الجبائي – حمايةً لحقوق المُطالَب بالأداء – أن يأمر الإدارة بناءً على طلب المُطالَب بالأداء بتقديم نسخ من العقود التي اعتمدتها للتنظير وبالتالي إتاحة الاطّلاع عليها للمُطالَب بالأداء المعترِض على التوظيف الإجباري. ويجوز أن يصدر هذا الأمر عن الدائرة المتعهِّدة بالاعتراض على قرار التوظيف الإجباري بدون الحاجة إلى اللجوء إلى القضاء الاستعجالي أو قاضي الأذون على المطالب في إطار إجراء مستقلّ.

 

  • مبدأ سلطان الإرادة وقرينة الصحّة والسلامة والمطابقة للقانون والبراءة: فكأنّ التحيّل الجبائي قرينة لا تقبل الدحض ؟

كما يرى المختصّون في القانون الجبائي والإدارة الجبائية أنّ من حقّ الإدارة الطبيعي أن “تعدّل” التصاريح الجبائية بناء على “القيمة الحقيقية”، كذلك يرى المختصّون في القانون المدني أنّ بنود التعاقد تحدّدها الإرادة الحرّة وأنّه لا يمكن أبداً أن تشكّل ممارسة حرّيّة التعاقد خطأً يترتّب عليه توظيف الأداء رأساً، مع ما يستتبع ذلك من تسليط عقوبات ذات طبيعة جزائية أو شبه جزائية، تتمثّل في خطايا التأخير على “معلوم التسجيل التكميلي” وما يرتبط بالبيع العقاري من معاليم أخرى، خصوصاً المعلوم لفائدة إدارة الملكيّة العقارية والخطّية المُوظَّفة في صورة السهو عن ذكر مصدر انجرار الملكيّة.

 

مبدأ سلطان الإرادة هو المبدأ الجوهري في القانون المدني والقانون التجاري وحتّى في القانون الدولي الخاصّ والعامّ، وهو يعني حرّيّة التصرّف. ويُفهَم من ذلك أنّ التحيّل الجبائي fraude fiscale لا يتمثّل في ممارسة حرّيّة التعاقد، إذ أنّ القول بذلك يهدم المبدأ من أساسه، بل يتمثّل في افتعال وضعيّات غير حقيقية ووهمية لمغالطة إدارة الجباية.

 

لذلك ينبغي التمييز بين صورة المُطالَب بالأداء الذي ارتضى بيع ملكه، عقاراً كان أم منقولاً، بثمن يرى هو شخصياً أنّه ثمنٌ معقولٌ ومناسبٌ لجميع ظروف الحال، الموضوعية والذاتية (كأن يبيع الشخص ملكه في ظرف استثنائي تعترضه فيه صعوبات، أو ضرورات عائلية عاجلة استوجبت منه توفير مبالغ مالية فوراً لمجابهة ظرف طارئ كمرض أحد أفراد العائلة، أو التعرّض إلى خطر السجن من أجل إصدار شيك بدون رصيد. أو كأن تكون هناك علاقة مميَّزة بين البائع والمشتري تبرّر البيع له بثمن تفضيلي، كما إذا كانت للمشتري أفضالٌ على البائع فأراد ردّ الجميل له، أو كأن يكون البيع من شقيقٍ لشقيقه)، والذي لا مأخذ عليه ولا حقّ للإدارة في انتقاد خياراته مهما بدت لها غير منسجمة مع منطق السوق، من جهة، وصورة المُطالَب بالأداء الذي يبيع ملكه بثمن معيَّن يتمّ تحديده رضائياً لكنّه يعتمد الاحتيال أو تقنية التوليج la simulation المنصوص عليها في الفصل 26 من مجلّة الالتزامات والعقود لمغالطة إدارة الجباية حول حقيقة الثمن، وذلك بالكذب في ما يتعلّق بهذا الثمن وذكر ثمن منخفض في العقد مقارنة مع الثمن المتَّفَق عليه والمدفوع حقيقةً، بغية تخفيض الضرائب والمعاليم والأتاوى، من جهة ثانية.

 

تجدر الإشارة إلى أنّ الدولة نفسها تتولّى في كثير من الحالات بيع عقاراتها أو أملاك أخرى أو كرائها لبعض فئات الناس بثمن يقلّ بكثيرٍ عن ثمن السوق، مراعاةً للظرف الخاصّ بتلك الفئة، بينما تبيع أملاكاً مماثلة لغيرهم بثمن السوق. ومثلما يحقّ للدولة أن تتصرّف في ملكها بهذه الحرّيّة والمرونة (باستثناء صورة الفساد والمحسوبيّة) فللخواصّ حرّيّة لا تقلّ عن ذلك في التصرّف في أملاكهم، ومن غير المعقول أن يقرّ القانون المدني هذه الحرّيّة فيحوّلها القانون الجبائي إلى خطأ موجِب للعقاب.

 

كما لا يمكن اختزال إثبات الكذب بمجرّد إثبات وجود فارق بين الثمن الذي باع به الخاضع للأداء المعترِض ملكَه إلى الغير وثمنِ بيع تحصّل عليه بائعٌ آخر لملكٍ مُشابهٍ أو مجاورٍ، لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة، والأصل الصحّة وسلامة النيّة، وعلى من يدّعي خلافه الإثبات وهذا يمثّل أصل قرينة البراءة وسندها.

 

ويتبيّن ممّا سبق أنّ إدارة الجباية تبالغ في تفسير الفصل 6 من مجلّة الحقوق والإجراءات الجبائية الذي يمنحها إمكانيّة تصحيح التصاريح بالاستناد إلى القرائن القانونية والفعلية المتمثّلة في مقارنات مع معطيات تتعلّق باستغلالات أو مصادر دخل أو عمليّات مماثلة. فالتصحيح يشترط حسب المدلول اللغوي والاعتيادي للمصطلح أن تكون هناك معلومة خاطئة وغير صحيحة وغير حقيقية في العقد، أي أنّ ما تمّ تدوينه في العقد لا يطابق الحقيقة. بعبارة أخرى، إذا كان الثمن المدوَّن في العقد هو الثمن الحقيقي الذي اتّفق عليه الأطراف حقيقةً وتمّ دفعه حقيقةً فلا سند ولا مبرِّر لتصحيح ما هو صحيح أصلاً. أمّا عمليّة التنظير فلا تدلّ بذاتها على وجود كذب في العقد، بل هي من القرائن الفعلية/الواقعية présomptions de fait (وليست من القرائن القانونية مناط الفصول من 480 إلى 485 من مجلّة الالتزامات والعقود) التي يمكن أن يُستدَلّ منها على أنّ الثمن المذكور في العقد يقلّ عن الثمن الحقيقي، وهي بطبيعتها قابلةٌ للدحض بأيّ شكل من الأشكال. كما إنّ اعتماد هذه القرينة الفعلية لا يكفي لتصحيح الثمن، بل يجب أوّلاً، أن تعلن الإدارة الجبائية أنّ الثمن المصرَّح به كاذبٌ وغير صحيح، وأنّع أقلّ من الثمن الحقيقي الذي تمّ دفعه. ويجب عليها ثانياً، إثبات كذب أطراف العقد بحجج ومؤشّرات. ثمّ يمكنها ثالثاً، اعتماد القرائن الفعلية ومنها عمليّة التنظير بعمليّات مشابهة لإثبات الثمن الحقيقي، علماً أنّ التنظير لا يكفي ولا يمكن أن يكفي لإثبات الكذب بل يجب أن يترافق مع حجج وبراهين ومؤشّرات أخرى على إخفاء جزء من الثمن تُستمدّ من معطيات أخرى تتعلّق بمعاملات الطرفين وبالمبالغ المدفوعة بطرق ملتوية. وفي غياب كلّ ذلك لا تصلح القرينة الفعلية المُستمَدَّة من عمليّة التنظير لشيء.

 

وهكذا يكرّس التوظيف الإجباري للأداء في مثل هذه الحالة ضرباً من الدكتاتوريّة الجبائية، حيث تعتقد الإدارة الجبائية أنّها مخوَّلة أن توجّه حياة الناس واختياراتهم وأن تفرض عليهم كيفيّة التعامل في ما بينهم في حين تقوم الحياة الاجتماعية على اعتبارات فردية تهمّ الناس وتقود سلوكهم. كما لا يمكن معاقبة الناس جبائياً إلّا إذا كان ما يقودهم هو الهاجس الجبائي والرغبة في التهرّب من دفع الضرائب ومن المساهمة في الأعباء والتكاليف العامّة. أمّا مَن يمارس حياته بشكل طبيعي ويقيم علاقاته الاجتماعية وخياراته الاقتصادية والانسانية والمهنية والعائلية على اعتبارات عادية فلا يصحّ أن يُسلَّط عليه سيف الجباية، بالقليل أو الكثير. ذلك أنّه لا يجوز للإدارة أن تطالب شخصاً بضريبة على دخل أو ثمن أو جزء من ثمن لا وجود له إطلاقاً.

 

في الختام، نرى أنّ الدور الطبيعي للقاضي الجبائي هو حماية الحرّيّات والحقوق، تطبيقاً لأحكام الفصل 49 من الدستور، فيمنع الحدّ غير المبرَّر من حرّيّة المشتري في اقتناء العقار أو المنقول الذي يروق له وبالثمن المتَّفق عليه بين أطراف العقد، ويحصر مجال تطبيق النصّ الجبائي في صور التحيّل الجبائي والتوليج.

 

نشر هذا المقال في العدد 22 من مجلة المفكرة القانونية، تونس. لقراءة العدد انقروا على الرابط:

الجباية غير العادلة

 

 

[1] القانون الأساسي التونسي عدد 63 لسنة 2004 المؤرَّخ في 27 جويلية 2004.

[2] تمّت المصادقة على هذا الميثاق من قبل الجمهوريّة التونسية سنة 1983.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، الحق في السكن ، مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني