الحضانات في الأزمة: أيّ رعاية لأطفالنا؟


2023-09-29    |   

الحضانات في الأزمة: أيّ رعاية لأطفالنا؟
رسم رائد شرف

“أنا بعد لي صار للطفل بالصيف مستحيل حط بنتي بحضانة” تقول إحدى الأمّهات اللواتي هزّتهنّ حادثة تعنيف طفل في حضانة بمنطقة الجديدة، بعد أشهر من الحادثة. فالخوف لا يزال يسيطر على كثير من الأهالي الذين اهتزّت ثقتهم في نوعية الرعاية التي تقدّمها الحضانات لأطفالهم. ولم يخفف توقيف المربّية المعنّفنة من هذا الخوف، لإدراك الأهالي أنّ ما من رقيب على هذه المؤسسات.

فصحيح أنّه بعد حادثة “الجديدة”، أجرت وزارة الصحة بمعاونة إحدى المنظمات الدولية مسحًا لجميع الحضانات المرخّصة في لبنان، وتمكّنت لغاية اليوم من إقفال 100 حضانة، وإنذار عدد كبير منها بضرورة تسوية أوضاعها ضمن مهل محدّدة. إلّا أنّ هذه الخطوة جاءت كردة فعل فورية على الحادثة وليست حلًا مستدامًا. فالوزارة المسؤولة عن إعطاء التراخيص ومراقبة هذه المؤسسات بموجب المرسوم 12286/2004، تواجه صعوبات عدّة تحول دون قيامها بدورها الرقابي، منها انخفاض عدد المراقبين التابعين للوزارة إلى ثلاث 3 مراقبين في كل قضاء (26 قضاء و8 محافظات)، بسبب قرار “وقف التوظيف” والتعاقد في الإدارات والمؤسسات العامة (وفق المادة 80 من القانون رقم 144 تاريخ 31/7/2019 المتعلّق بالموازنة العامّة للعام 2019). يضاف ذلك إلى ما يعانيه المراقبون الحاليون من انخفاض قيمة رواتبهم التي لم تعد تسدّ بدل مواصلات زيارة واحدة لحضانة واحدة.

من جهةٍ ثانية يواجه اصحاب الحضانات مشاكل وصعوبات عدّة تتعلّق بنقص في الموارد البشرية والمالية، ما يؤثر سلبًا على نوعية الخدمة.

من هنا ولأنّ تأمين السلامة والأمان في الحضانات هو عنصر أساسي لا يمكن أن يتحقق من دون مظلّة رسمية وخطط مستدامة وواضحة من قبل الوزارة المعنيّة، ولا يمكن للبرامج المؤقتة القائمة على الهبات من سدّ هذا الكمّ من المعوقات لفترة طويلة، فإنّ قطاع الحضانات اليوم يعوم على أرضية “مهزوزة”، وهو قابل للانهيار في أي لحظة. وهذا ما يفسّر تكرار الحوادث بين الحين والآخر، حيث تهبّ الوزارة والمنظمات للتحرّك بعد كل حادثة، ويهمد العمل والرقابة بعد خمودها، ففي العام 2015 قضى الطفل عمر نتيجة الإهمال في حضانة في طرابلس والطفل إيليو في حضانة في عجلتون.

إلّا أنّ الخدمة التي تقدّمها الحضانات ليست حاجة “فردية” بل حاجة “مجتمعية عامّة”، لها أثرها المباشر في تأمين بيئة حاضنة للأطفال وبالتالي مساعدة النساء على الخروج لعملهنّ. وتؤدّي الحضانات والحاضنات دورًا أساسيًا في تنشئة الأطفال في أهم المراحل العمرية (0-5)، من هنا لا يمكن التعامل مع الحضانة على أنّها مشروع “استثماري لصاحبه وحسب”، بل هي مؤسّسات رعائية تربوية تحتاج لدعم من الحكومات والوزارات للاستمرار، وإلّا فمصير القطاع الفوضى واللجوء إلى منازل غير مرخّصة ونساء غير مختصّات بالتربية.

وقد عرّفت المادة الأولى من المرسوم 12286/2004 دور الحضانة بأنّها مؤسسات للرعاية المتكاملة، تستقبل الأطفال من عمر 40 يومًا ولغاية 3 سنوات، وتعمل على تلبية حاجاتهم ومتطلّباتهم من خلال رعايتهم والاهتمام بهم وتنمية شخصيتهم جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، موفّرة لهم البيئة الصحية السليمة والتنشئة التربوية اللازمة، ضمن ساعات محدّدة من النهار تحدّد بقرار إنشاء الدار.

في هذا التحقيق سنلقي الضوء على واقع الحضانات في لبنان وعلى الإجراءات التي اتّخذتها الوزارة لمنع وقوع حوادث خطيرة مع الأطفال، إضافة الى دور نقابة أصحاب دور الحضانات في ذلك.

الثقة في الحضانات مهزوزة

“أنا على طول مردّدة حط بنتي بالحضانة بس بعد لي صار بالصيف ما بفكر بالموضوع”، هذا ما تقوله رنا في اتصال مع “المفكرة”، هي التي على الرغم من الوضع الاقتصادي السيئ تفضل البقاء في المنزل لتربية طفلها، على إرساله إلى الحضانة والذهاب بدورها للعمل. فهي تعبّر بأنّ ثقتها في الحضانات ودورها الرعائي اهتزّت بعد حادثة تعنيف الطفل التي انتشرت خلال الصيف.

بدورها هيفاء التي ترفض رفضًا قاطعًا إرسال ابنتها إلى الحضانة، وجدت الحل في التعاقد مع مربّية خاصّة لابنتها، تقوم برعايتها وتعليمها في المنزل، وتشير إلى أنّ الراتب الذي تتقاضاه المربّية يوازي بدل تسجيل ابنتها في الحضانة وربما أقلّ.

وإذا كانت رنا وهيفاء قد وجدتا حلولًا بديلة، إلّا أنّ الكثير من الأمّهات لا يملكن إلّا خيار اللجوء إلى الحضانة، من بينهنّ حنان التي تقول إنّها على الرغم من مخاوفها الكبيرة إلّا أنّها لا تملك عصا سحرية فهي بحاجة للذهاب إلى العمل، ولا تملك دائرة أمان خاصّة بها حيث يمكنها ترك طفلتها.

بدورهم أصحاب دور الحضانات، مثل معظم المؤسسات في لبنان، يعانون من تردّي الأوضاع وانعكاسه السلبي على خدماتهم، وتعتبر صاحبة إحدى الحضانات أنّ هامش ربحها بات ضئيلًا جدًا نظرًا لارتفاع الكلفة التشغيلية، وبالتالي لا بدّ أن ينعكس ذلك على التقديمات والخدمات. من جهة ثانية تؤكد صاحبة الحضانة نفسها أنّ المعاناة الكبرى تكمن في تأمين طاقم العمل من حملة الشهادات والاختصاصات، حيث كان للهجرة وانخفاض قيمة الرواتب أثره السلبي، وبات المتوفّرون هم من خرّيجي المعاهد.

زيارات مراقبي الوزارة شبه معدومة

تعتبر باميلا منصور، رئيسة دائرة الأم والطفل في وزارة الصحة، أنّه بعد حادثة حضانة الجديدة، قامت الوزارة بالتعاون مع لجنة الإغاثة الدولية IRC بحملة رقابة تشمل جميع دور الحضانات في المحافظات والأقضية، وكانت النتيجة لغاية اليوم إقفال 100 حضانة. وسوف تستمر الحملة سنة، يتمّ خلالها الاستعانة بطلاب الجامعات وتدريبهم للحظ المخالفات، حيث سيتم إقفال الحضانات سيّئة الحال، والحضانات التي تحتاج إلى بعض التحسينات تعطيها الوزارة مهلًا لتحسين وضعها.

وبحسب منصور فإنّه رغم الظروف السيّئة التي تمرّ بها الوزارة، إلّا أنّها لم تكتف بالتفرّج بل حاولت الاستعانة بالمنظمات الدولية والعالمية وحتى المحلية لضبط الوضع قدر المستطاع، وأنّه لولا  تقديمات هؤلاء لكانت الحضانات متروكة، “نحن عم نمشّي القطاع بالتي هي أحسن”.

وتوضح منصور أنّ الرقابة الفعلية يجب أن تكون من صاحب الحضانة والحاضنات ذاتهنّ، فالرقابة من قبل وزارة الصحة العامة تقتصر على زيارتين في العام الواحد، الأولى للكشف على الرخصة وإعطاء الإنذارات والمهل اللازمة لتصحيح الوضع، والثانية للتأكد من تنفيذ المطلوب. كذلك يتوجّب على أصحاب الحضانات، بحسب منصور، تجديد الرخصة ورقيًا كلّ سنتين، الأمر الذي تعتبره منصور نوعًا من الرقابة. وكانت الوزارة قد أصدرت  تعميمًا بضرورة توزيع كاميرات في الغرف وتمكين الأهالي من الولوج إليها.

وتضيف منصور أنّ الرقابة لا تقتصر على الزيارات الميدانية المباشرة فحسب، بل هناك معايير أخرى للرقابة تحاول الوزارة اعتمادها منها تصنيف الحضانات على نسق المستشفيات والمطاعم، بحيث تقوم الحضانة بمراقبة ذاتها بذاتها لتحسين خدمتها، على سبيل المثال عندما يسعى المطعم للحصول على شهادة “ايزو” فهذا بمثابة شهادة للمطعم بجودته والتزامه المعايير العالمية. كذلك فرض البطاقات الصحية على الموظفين هو نوع من الرقابة، وغيرها من برامج ودورات كلّها آليات تساهم من تطوير الحضانة ورفع معاييرها. 

يشار إلى أنّه بحسب القانون، فإنّه عند فتح حضانة جديدة، يتقدّم صاحبها إلى وزارة الصحة بخرائط للحصول على الموافقة المبدئية، وعند الانتهاء من التجهيزات يتمّ الكشف على المكان وبناء على ذلك يمنح الرخصة.

ويتم تجديد الرخصة ورقيًا من دون كشف ميداني، كل سنتين، تقدّم خلالها أوراق التأمين والتعاقد مع الطبيب وتقدم أيضًا  ملفات الموظفات. وخلال هذه السنتين، يفترض أن ينفّذ المراقبون زيارات دورية لمراقبة دور الحضانة، ولكن هذه الزيارات بدأت تخف تباعًا منذ العام 2012 وتراجعت بشكل كبير بعد الأزمة، بحسب أصحاب دور تواصلت معهم “المفكرة”. وبحسب صاحبة إحدى الحضانات، يمكن القول إنّ هذه الزيارات “الرسمية” باتت اليوم شبه معدومة، وتستعيض الوزارة عنها بالتعاون مع الجمعيات المحلّية.

دور الجمعيات المحلّية

وتوضح منصور أنّ الوزارة بدأت في السنوات الأخيرة تتعاون مع الجمعيات المحلّية لدعم أصحاب الحضانات ومساعدتهم في تلبية المعايير، حيث هناك ما يشبه الخريطة لدور الحضانة توزّع على الجمعيات المحلية التي تحاول تقديم الدعم من خلال البرامج التدريبية. لكن الثغرة تكمن في أنّ ليس جميع الحضانات توافق على تلقّي الدعم أو المساعدة، وهذا ما توضحه مسؤولة البرامج الصحية لدى مراكز الهيئة الصحية الإسلامية المتعاونة مع وزارة الصحة، عليا السبلاني، في لقاء مع “المفكرة”. وتقول السبلاني إنّ تقديمات الهيئة ليست ملزِمة لجميع دور الحضانة الواقعة ضمن نطاق خدماتها، فهناك دور حضانة لا توافق على تلقي المساعدة والدعم من الهيئة، وهي إمّا تذهب إلى جمعية أخرى أو تكتفي بما ينصّ عليه القانون (تجديد الرخصة كل سنتين).

وتضيف السبلاني أنّ من ضمن برامج الهيئة مشروع يعنى “بالسلامة العامّة لدور الحضانات”، تقوم الهيئة من خلاله بتقديم الدعم لدور الحضانات المرخّصة في مناطق الضاحية والبقاع والجنوب.

المشروع بدأ في العام 2016 بعيّنة صغيرة وتوسّع حاليًا ليشمل معظم دور الحضانة التي تريد التعامل والتعاون مع الهيئة، حيث تم تدريب فريق يقوم بتصنيف أوّلي ونهائي، ثم متابعة وضع الحضانات وتحسين نقاط الضعف.

وتضف السبلاني أنّ دور الحضانة هي مؤسسات خاصّة لا تلقى أي دعم خارجي، من هنا فهي بحاجة دائمًا إلى إجراء عمليات تحسين وصيانة للحفاظ على سلامة الأطفال، وتضيف أنّ للرقابة دور أساسي في إلزام صاحب الحضانة بالحفاظ على المعايير. من هنا تساعد الهيئة أصحاب الحضانات في المضيّ بمسارها التطوّري وتوجيهها لتطبيق معايير الترخيص، ومتابعة العاملين من خلال برامج تدريبية وتربوية لتطوير مهاراتهم وكفاءاتهم، بخاصّة أنّهم في تبدّل مستمر بعد جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي هجّرت الأخصائيين من البلاد. وتؤكد أنّ عملها هو تحت إشراف وزارة الصحة وأنه لا يمكنها سحب أي تراخيص من أي حضانة بل تقوم مهمّتها على مواكبة حضانتها للحفاظ على معاييرها.

تأثير الأزمة على الدور

بدورها نقيبة أصحاب دور الحضانة، هنا جوجو، تشير في اتصالٍ مع “المفكرة” إلى أنّ النقابة تسعى جاهدة لدعم أصحاب دور الحضانة وتقديم المعونة والمشورة اللازمة لهم، وأنّ النقابة بعد حادثة “الجديدة” أجرت زيارات ميدانية لعدد من المناطق لتوعية الأهل على كيفية اختيار الحضانة وضرورة الانتباه إلى أنّها مرخّصة، وأنّ النقابة بالتعاون مع جمعية “حماية” تنفّذ برامج توعية لجميع العاملين في القطاع لمناهضة العنف ضدّ الأطفال.

توضح جوجو أنّ دور الحضانة تتأثّر بجميع المتغيّرات التي تحدث في البلاد، بالأزمات الاقتصادية والأمنية والمعيشية وحتى بظروف الطقس، ما يؤثر على ثبات دخلها بشكل عام. كذلك كان للأزمة الاقتصادية الأخيرة تأثير مباشر وغير مباشر على عمل دور الحضانة، بعد هجرة أصحاب الكفاءات والخبرات إلى الخارج، حيث باتت دور الحضانة تعاني حتى لإيجاد ممرضة أو أصحاب الشهادات الجامعية. وتضيف أنّه لا يكفي أنْ تكون العاملة أمًا، بل يجب أن تكون صاحبة خبرات واختصاص لتقدّم الرعاية النفسية والتربوية للطفل، من هنا الأفضلية لحملة شهادات “التربية الحضانية، التربية الابتدائية، والممرضات”. كذلك كان لارتفاع التكاليف التشغيلية اليومية والسنوية تأثيره السلبي، منها ارتفاع أسعار اشتراكات الكهرباء والمياه والمواد الغذائية والتربوية، إضافة إلى بدل بوليصة التأمين عن كلّ طفل، والطبيب المشرف وغيره. كلّها تكاليف تضاعفت وباتت عبئًا على كاهل أصحاب الحضانات.

وتضيف جوجو أنّ دور الحضانة هي بمثابة صرح تربوي، تقوم بتنشئة الأطفال ورعايتهم، لذا لا بدّ من أن يكون للدولة التفاتة ودعمًا لهذه الدور، وكانت النقابة قد طالبت الحكومات إعفاء دور الحضانة من رسوم البناء والكهرباء والمياه أو أن تتمّ مراعاتهم برسوم مخفّضة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات عامة ، حقوق الطفل ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني