الجُذور الفكريّة والتاريخيّة لــ”يسَار المُوالاة” في تونس


2023-06-07    |   

الجُذور الفكريّة والتاريخيّة لــ”يسَار المُوالاة” في تونس

يشعرُ المرء بافتتان خاص أمام شعار “المساندة النقدية”، الذي يَرفعه قطاع واسع من اليسار التونسي لتبرير موقفه الموالي لنظام قيس سعيّد وسياساته. ومصدر هذا الافتتان، ليس الشعار في ذاته، بل ذلك العقل الديالكتيكي الجبّار الذي نحَتَه، جامعاً بين المُساندة والنقد في شعار واحد، قاصداً تحقيق تلك المعادلة التي خلّدها المثل العربي: “لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي”.

ظهَرَت “المساندة النقدية” كمصطلح وتكتيك وشعار في أدبيات الحزب الشيوعي الفرنسي، ومنه تسرّبت إلى اليسار التونسي باكراً، قبل حتى أن تنالَ البلاد استقلالها. وتحوّلت منذ ذلك الوقت إلى مظلّة يختفي تحتها قطاع من اليسار، أحزاباً وأفراداً، لتبرير الولاء للسلطة، إمّا طمَعاً في مكاسب أو خوفاً من العقاب. وانعكَست سلباً على تماسك تنظيمات اليسار، التي كانت وما زالت تعاني من مشاكل هيكلية. حيث كانَت سبباً رئيسياً في انقسامات كثيرة عاشتها هذه التنظيمات منذ ستينات القرن الماضي، حتى اليوم. آخرها الانشقاق الذي حدَثَ داخل حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد الذي لم يعد مُوحّداً، بعد خروج فصيل يقوده المنجي الرّحوي بسبب مساندته لـــ “مسار 25 جويلية” وسياسة الرئيس سعيّد.

نحن إزاء حالة نموذجيةٍ لنشوء “يسار الموالاة” استناداً إلى تكتيكات “المساندة النقدية”، والتي تَضمّ مروحة عريضة من المقدمات النظرية لتحليل الواقع وترتيب تناقضاته. لكن ما يعطي هذا التكتيك قوةً تؤهله إلى شق الصفوف وإقناع القواعد، هو قيامه على أسس فكرية وإيديولوجية ذات وجاهة – على الأقل في المستوى النظري -وامتلاكه نسَقاً حجاجياً متماسكاً، يبدو للمتلقي “صائبا” للوهلة الأولى .

المساندة النقدية بين عهدين

باكراً دخلت “المساندة النقدية” للسلطة القائمة مَجال التداول لدى اليسار التونسي. منذ انطلاق الحرب العالمية الثانية، شَرعَ الحزب الشيوعي التونسي بوصفه تابعاً للحزب الشيوعي الفرنسي والذي بدوره يُدين بولاء عضوي للحزب الشيوعي السوفياتي في طرح مواقف سياسية معبرّةً عن تحاليل مستوردة للواقع. حيث قرّر الحزب أن التناقض الرئيسي هو بين الطبقة العاملة في تونس والفاشية، وتالياً يجب الوقوف في جبهة معاداة الفاشية جنباً إلى جنب مع المُحتلّ الفرنسي. مسقطاً تماماً المهمّة المركزية للطبقة العاملة التونسية في التحرّر الوطني من الاستعمار، حتى بعد أن وضَعَت الحرب العالمية أوزارها، مثلما يُشير إلى ذلك بيان اللجنة المركزية للحزب في فيفري عام 1948. متجاهلاً التناقض الوطني بين المُستعمِر والمستعمَر، واصل الحزب لاحقاً الدعوة إلى “الاتحاد الفرنسي” (سياسة الاندماج) باسم الدفاع عن الطبقة العاملة، لأنّه يعتقد أن التناقض الأساسي الذي يجب أن يدور حوله الصراع هو التناقض الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا[1]. لكن العصر الذهبي للمساندة النقدية للحزب الشيوعي التونسي سيبدأ بعد استقلال البلاد، رغم توجّه نظام الرئيس الحبيب بورقيبة إلى حَظر جميع التنظيمات السياسية المعارضة بدايةً من عام 1962.

لم تَمنع الإجراءات القمعيّة التي استهدفت بها السلطة الحزب من أن يكون “مسانداً نقدياً” لها على مدى عقود. وقد تعمّقَت هذه المساندة خلال فترة التعاضد في ستينات القرن الماضي. كانت مُساندة الحزب لهذه السياسة منطلقةً من نظرية سوفياتية جديدة ظهرت في الستينات حول التنمية، هي “طريق التطور اللارأسمالي”. تَمَّ اقتراحها في الاتحاد السوفياتي كاقتصاد سياسي بديل لاستراتيجيات التنمية الرأسمالية. تُقدّم هذه النظرية مفهومًا للتنمية يتجاوز الحتمية الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ليشمل السياسة والصراع الطبقي كجزء من عملية التنمية في البلدان الأقل نموًا في العالم الثالث، حيث يَحتفظ “الديمقراطيون الثوريون” بسلطة الدولة. تُجادل هذه الاستراتيجية بأنه إذا تمَّ دعم هذه القيادة “بقوة” من قبل أحزاب الطبقة العاملة والدول الاشتراكية، فيمكنها إحداث تحوّل غير رأسمالي في التكوين الاجتماعي والاقتصادي، ونتيجة لذلك يتمّ إعداد الشروط الموضوعية والذاتية للثورة الاشتراكية[2].

 كانت القيادة السّوفياتية تُحاول من خلال هذه النظرية استيعاب الأنظمة ”الثورية” الناشئَة مع مَوجة الاستقلالات الوطنية، لاسيمَا في العالم العربي، مثل النظام الناصري في مصر وأنظمة البعث في سوريا والعراق ونظام الرئيس بومدين في الجزائر. وقد أدّت هذه النظرية إلى بروز تيار “يسار الموالاة” في العديد من الدول العربية، لعلّ أبرز ظواهره خالد بكّداش والحزب الشيوعي السوري والحركة الشيوعية المصرية التي حلّت نفسها للانخراط داخل الاتحاد الاشتراكي النّاصري.

لم تكُن تونس، في التحليلات السّوفياتية، ضمن هذا التصنيف. ولكنّ مواقف المُساندة النقدية التي كان الحزب الشيوعي التونسي يُصدرها تنطلق من هذه النظرية لدفع النظام كي يكون جزءاً من هذا التشكيل السياسي. لذلك فإنّ الحزب لم يكن يطرح أي برنامج جذري في النضال ضد النظام، بقدر ما كان يدعُو إلى كسر احتكار السلطة لتطبيق برنامج التعاضد، مشيراً في تقريره السياسي إلى أن: “المشكلة ليست القضاء على البرجوازية القومية بوصفها طبقة، وإنما هي إزالة احتكارها السياسي…وذلك يتطلّب تدخل قوى وطنية أخرى ومشاركتها في تصريف شؤون البلاد”.[3]

واصلَ الحزب الشيوعي، بوصفه ممثلاً لليسار التقليدي في تونس، تطبيق تكتيك المساندة النقدية. وقد تحوّل الأمر إلى استراتيجية طويلة الأمد، حتى بعد سقوط نظام بورقيبة وصعود زين العابدين بن علي إلى السلطة. وحينئذ لم يَعُد التناقض الرئيسي للحزب، كما كان سابقاً طبقياً أو سياسياً في سبيل دفع النظام يساراً نحو “طريق التطور اللارأسمالي”، وإنما أصبح تناقضاً هويّاتياً بين العلمانية التي يُدافع عنها والإسلاموية الصاعدة. حَدث ذلك خلال الصّراع بين النظام الحاكم والحركة الإسلامية (1989 – 1992)، ليجدَ الحزب نفسه من خلال هذا التحليل للواقع في صف النظام، مسانداً نقدياً لنهجه السياسي في تصفية خصمِه الإسلاموي. في المقابل حاول النظام أن يستغل ذلك في استيعاب هذا النوع “المُساند” من المعارضة من خلال منح مقاعد للحزب في الانتخابات الشكلية، سلطةً وممارسةً. والغريب أن الحزب واصل في النهج ذاته، حتى بعد انكشاف خواء المشروع الديمقراطي الذي بشّر به الرئيس بن علي، والذي استدارَ نحو قمع المعارضة اليسارية والقومية والديمقراطية بعد أن فَرَغ من خصومه الإسلاميين في حدود منتصف التسعينات.

يقول الأمين العام للحزب محمد حرمل في افتتاحية جريدة “الطريق الجديد” في أفريل 1996، محللاً الواقع من وجهة نظره المساندة نقدياً للسلطة: “ﻫل ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﺔ من خارج ﺍﻟﺤﺯﺏ الحاكم “ﺍﻟﺘﺠﻤﻊ ﺍﻟﺩﺴﺘﻭﺭﻱ الديمقراطي” لم تعد ممكنة ولا مُجدية؟ هذا السؤال الذي يطرحه علينا وعلى سوانا عدد من المناضلين طغى عليهم اليأس والتشاؤم، وصاروا يعتبرون أنه لم يعد ممكناً التعبير عن رأي مخالف للحكم بعد ما تراجعت فضاءات التعددية وانتشرَ العزوف عن العمل السياسي وتوقفت تيارات الانتماء إلى الأحزاب، وتعمّق احتكار الحياة العامة من قبل الحزب الحاكم حتى كادت المواطنة تنحصر في الانتماء إليه”. ثم بعد أن يُقدّم نقده، يلتفّ عائداً نحو التنظير للمساندة فيقول: ”هل انتهت السياسية مثلمَا قيل عن الإيديولوجيات. إن السياسة في وظيفتها النقدية والمعارضة ما زالت ممكنة لأننا نعتبرها مسؤولية تاريخية مُلقاة على عاتق الحركة الديمقراطية. المتشائمون يقولون لم يبق أمامكم أي هامش…ولكن يجب أن نكون في الخطّ الثالث، الذي يختلف عن المساندة المطلقة والمعارضة المطلقة، فالقضية اليوم ليست في وجود الهامش أو عدم وجوده بقدر ما هي خيار لا مناص منه لإعادة أنفاس الحركة الديمقراطية”.[4] وهذا التحليل لم يغادره الحزب حتى سقوط النظام في عام 2011، في فترات من الصعود والنزول مختلفة بين شدّة النقد وحِدّة المساندة.

أوهام التحليل: صراع الخَطيّن وترتيب التناقضات

لا يَختلف الحال في معسكر اليسار الجديد عن اليسار التقليدي الشيوعي. فالمُساندة النقدية تكتيك له تاريخ، يمشي متوازياً مع تاريخ تنظيمات اليسار الجديد منذ سبعينات القرن الماضي حتىّ اليوم. لكن هذا التكتيك الذي اعتمدَه الحزب الشيوعي التونسي، دون أن يحدث داخله أي انشقاقات أو خلافات، كان دائماً عنصر استقطاب وانشقاق داخل تنظيمات اليسار الجديد. شأنه شأن الحزب الشيوعي، كان تنظيم “الشعلة” المعبر الأساسي عن التيار الماوي في تونس مطلع سبعينات القرن الماضي، ينطلق في تحليله للواقع الاجتماعي والسياسي التونسي من نظريات مستوردة أساساً من الصين.

ورغم أن التنظيم والتنظيمات الماويّة الأخرى في ذلك الوقت لم تعبّر عن مساندة نقدية للنظام، بل على العكس كانت في مواجهة جذرية معه -عملياً ونظرياً- إلاّ أن قاعدتها الفكرية الصينية كانت تحمل جذور “مساندة نقدية” ستظهر بعد سنوات. بدايةً كانت المجموعات الماوية – لاسيما الشعلة– تحلّل طبيعة الحزب الدستوري الحاكم وفقاً لنظرية “صراع الخطّين”، المستقاة من النظرية الماوية الأساسية حول “التناقض”، والتي وضعها ماو تسي تونغ في نصّ نُشرَ في أوت 1937، حول القانون الأساسيّ الأوَل في الدِّيالكتيك المادِّيّ، وهو التناقض. وطَرحَ من خلالها شمولية هذا القانون الذي يسري حتى داخل الحزب الشيوعي الصيني بين خطّين: “إن تضادّ الأفكار المختلفة والصِّراع بينها في صفوف الحزب ينشأ على الدَّوام، وهو انعكاس داخل الحزب للتناقضات بين القديم والجديد في المجتمع. ولا شكّ أن حياة الحزب ستتوقّف إذا خلا من التَّناقضات ومن الصِّراع الأيديولوجيّ من أجل حلّ هذه التَّناقضات. إن كل متناقضين مترابطان، فهما يتواجدان في كيان واحد في ظل عوامل معينة، بل يتحول أحدهما إلى الآخر في ظل عوامل معيّنة، هذا هو كامل معنى وحدة الضدَّين…ولكل من هذه التَّناقضات خاصّيته بحيث لا يمكن وضعها جميعاً على صعيد واحد، وليس هذا فحسب، بل إن لكل طرف من طرفي كل تناقض خصائصه بحيث لا يمكن أيضاً أن يعاملا معاملة واحدة. فلا ينبغي لنا، أن نكتفي بفهم خاصّيَّة كل من التَّناقضات بالنَّظر إلى هذه التَّناقضات في مجموعها، أي إلى ترابطها، بل ينبغي لنا أن ندرس طرفي كل تناقض منها، وبهذا وحده نجد سبيلاً إلى فهم مجموع هذه التَّناقضات. ونقصد بدراسة طرفي كل تناقض فهم المركز الخاصّ الذي يحتله كل طرف، والشَّكل المحدّد الذي به يعتمد كل طرف على الآخر في البقاء ويتناقض معه في آن واحد، والوسائل المحددة التي يناضل بها ضد نقيضه عندما يكون كل منهمَا معتمداً على الآخر في البقاء ويكون متناقضاً معه في الوقت ذاته أو عندما ينفصم هذا الاعتماد المتبادل”.[5] واستناداً إلى هذا التحليل الجاهز لواقع بعيد، يذهب تنظيم “الشّعلة” إلى أن الصراع مع النظام يجب أن يأخذ في الاعتبار “تسديد الضربات الأقوى للجناح الأكثر رجعيةً داخل الحزب الحاكم وهو جناح الرئيس بورقيبة – الهادي نويرة –محمد الصياح – الطاهر بلّخوجة”، وذلك من خلال: “استغلال التناقضات داخل الكمبرادور والإقطاعيين، أي بين اليمين الرجعي المتطرف واليمن الرجعي المُعتدل”.[6]

لاحقاً ستظهر تأثيرات هذه المقولات النظرية على سلوك المجموعات اليسارية التي انبثقت عن الشعلة وعن غيرها من تنظيمات اليسار الجديد في السبعينات، كحركة النضال الوطني والوطنيون الديمقراطيون. فلقد شكّلت مسألة ترتيب التناقضات بين الرئيسي منها والثانوي دائماً معضلةً أمام هذه التنظيمات. وقد أدّى التحليل الزائف للواقع، وتالياً ترتيب التناقضات على نحو غير صحيح، إلى تحويل مجموعات وأفراد كانوا على النقيض من النظام السياسي الحاكم إلى أتباع لهذا النظام أو مدافعين عنه، وأقلّه مساندين نقديين له على هامش الصراع بينه وبين المعارضة الجذرية.

ظهر منذ الثمانينات على الساحة عنصر جديد، أدّى إلى تعميق أزمة تحديد التناقضات وهي الحركة الإسلامية. فقد وجدت قطاعات من اليسار الجديد في هذا القادم الجديد إلى ساحة الصراع السياسي والمجتمعي عاملاً للانحياز نحو النظام استناداً إلى ترتيب التناقضات. وقد ظهَر ذلك جلياً بعد انقلاب 07 نوفمبر 1987، والصراع بين الحركة الإسلاموية والنظام، حيث رأت عناصر يسارية، كانت في معسكر المعارضة الجذرية سابقاً، أن تناقضها الرئيسي هو مع الرجعية الإسلاموية وانحازتْ إلى معسكر النظام، ثم أصبحَت جزءًا من جهازه السياسي والثقافي، بل وحقّقت مكاسب مادية ورمزية على المستوى الفردي. ومع مرور الزمن، أصبح التزامها الإيديولوجي جزءاً من الماضي أو تراجَعَ إلى حدود ثقافية تتعلق بالعلمانية والمدنية المجردتين من أي مضمون طبقي أو نفس حقوقي. وهي ظاهرة لم تكن حكراً على تونس، بل ذات شيوع عربي واضح، لعل أكثر تجاربها شهرةً حزب التجمع اليساري المصري وزعيمه رفعت السعيد.

وهو تقريباً الأمر نفسه الذي وَقَع في أعقاب ثورة 2011 وفَشل أحزاب اليسار “الجذري” في تحقيق مكاسب انتخابية وصُعود حركة النهضة وحلفائها إلى السلطة. حيث توجّه قطاع من اليسار إلى حركة نداء تونس التي تضم مجموعات من النظام القديم، من خلال تحليل للواقع يضع التناقض مع “الرجعية الإسلاموية” في المقام الأول، والتناقض مع النظام القديم في درجة ثانية، في حالة من إعادة إنتاج “صراع الخطيّن” التي استندت عليها “الشعلة” قبل خمسة عقود. وقد عَرِف هؤلاء المصائر نفسها للذين انخرطوا في نظام بن علي، حيث تراجع التزامهم بالحدّ الأدنى اليساري إلى مجرد الاستقطاب الهوياتي مع الإسلاموية، دون مضامين طبقية واضحة ولا توجّهات شعبية أو وطنية تحررية لها دلالة.

ورغم تراكم دروس التجربة اليسارية في سلوك “طريق المساندة النقدية” المفضي إلى نهايات مأساوية، إلا أن جزءاً من اليسار لم يتخلّف بعد انقلاب 25 جويلية 2021 عن موعده التاريخي في تمترس في معسكر المساندة النقدية للنظام الجديد، وفقاً لنفس التحليل من ترتيب التناقضات[1] . إذ تشير حركة النضال الوطني – أحد ورثة تنظيم الشعلة – إنها “تدعم الحركة مسار 25 جويلية 2021 لتجاوز آثار منظومة 2011 من أجل إعادة الاعتبار للسيادة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع على الحريات الأساسية وعلى القضايا القومية العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين”. وهي تقريباً المُسوّغَات نفسها التي طرحَتها المجموعة المُنشقة عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد بقيادة المنجي الرحوي. وهي مسوّغات تُسندها نزعة “المعسكراتية”(Campism)، التي أصيبَ بها جزء واسع من اليسار التونسي، حيث أصبح يحدد مواقفه لا بناءً على تحليله للواقع بل على أساس الضد من مواقف خصمه، والخصم في حالتنا الحركة الإسلاموية. في المقابل يُحاول النظام الحاكم تضخيم وهم “المعسكراتية”، بين “معسكر الحداثة والتقدمية والوطنية” ضد “الإسلام السياسي والرجعية والعمالة”، وهنا يجنح طيف واسع من اليسار إلى التمترس في معسكر النظام الحاكم. وبذلك يصير أي تحليل لسلوك النظام وسياساته منطلقاً من مسألة مواجهة التيار الديني، وتتحوّل التنظيمات اليسارية إلى سجينة لدى هذه التنظيمات الدينية تتحكم في مواقفها، من خلال اتخاذ الموقف المضاد لها، حتى وإنْ كانت مواقف النظام مخالفة لتوجهات اليسار الكبرى في الحقوق والحريات. وتحت هذه المسوّغات، يمكن أن يتحوّل اليسار إلى مروّج للخطاب الفاشي والعنف ضد الخصوم وتغليب إرادة الدولة على المجتمع بالقهر. وهذا المَسار يؤدي دائماً إلى تحول أحزاب اليسار إلى مجرد أداة متقدمة يستعملها النظام لمواجهة خصومه في التيار الديني، نظرا لجهة الثقل الثقافي لليسار. لكنه ما يلبث أن يقضي عليها أو يُخرجها من الساحة بعد أن تنتهي وظيفتها.


[1] – محمد الكيلاني -الحركة الشيوعية في تونس 1920-1985، ص 22 – 23 -المطابع الموحدة، المنطقة الصناعية، الشرقية، تونس 1989.

[2] – Hooshang Amirahmadi – The Non-Capitalist Way of Development – The Review of radical political economics, Vol.19(1), pp.22-46 ; 03/1987

[3] – تقرير المؤتمر السابع للحزب الشيوعي التونسي، ص 17 – 18، عن الحركة الشيوعية في تونس 1920-1985.

[4] جريدة الطريق الجديد – عدد 15 أفريل 1996، عن توفيق المديني: المعارضة التونسية نشأتها وتطورها، ص 159 -اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001.

[5] ماو تسي تونغ – في التناقض -المُؤلَّفاتِ المُختارة لماو تسي تونغ، المجلَّد الأوَّل -دار الشَّعب للنَّشر، ببكين في 1952.

[6]محمد الكيلاني، الحركة الشيوعية في تونس 1920-1985، ص 99 – 100 .


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني