التلفزة التونسية وأشباح العودة إلى “توجيهات الرئيس”


2022-03-07    |   

التلفزة التونسية وأشباح العودة إلى “توجيهات الرئيس”
غلاف العدد 17 من مجلة المفكرة القانونية تونس: "انتخابات بطعم الثورة أو زهوة انتخابات "لم تدُم طويلا

قبل وصوله إلى قصر قرطاج كان الرئيس قيس سعيد ضيفا دائم الحضور في التلفزة التونسية العمومية “القناة الوطنية 1″، بخاصة في نشرة أخبار الثامنة مساءً. وكان الحوار الصحفي الوحيد الذي ظهر فيه الرئيس قيس سعيد في وسائل إعلام محلية من نصيب التلفزة التونسية. بعد 25 جويلية، سيعمل “ضيف الأخبار القديم” على استمالة الإعلام العمومي كأداة مساندة لـ”حالة الاستثناء” ومؤيدة للخطاب الرئاسي.

برز أول مؤشرات التحكم في التلفزة العمومية من خلال إقالة مديرها العام وتعويضه بمكلفة مؤقتة بالتسيير -مازالت في منصبها إلى حدّ الآن-، وقد جاءت الإقالة على خلفية منع ممثّلين عن نقابة الصحفيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان من المشاركة في برنامج حواري يوم 28 جويلية 2021. وفي وقت لاحق صرّح وليد منصر كاتب عام نقابة تقنيي التلفزة أنه تمت محاصرة مقر التلفزة بسيارات أمنية بسبب قرار إعلان الاضراب في 13 جانفي 2022. وفي الآونة الأخيرة لاحظ العديد من المتابعين تحوّل التلفزة العمومية إلى منصّة دعائية للمشروع الرئاسي، بخاصة من خلال برنامج “الحوار معاكم” الذي يُروّج لمشروع الاستشارة الرئاسية عبر استضافة أعضاء في الحملة الانتخابية للرئيس سعيد.

تأتي هذه العودة إلى الإعلام المُوَجَّه ضمن سياق داخلي مأزوم تُعاني منه التلفزة العمومية منذ فترة طويلة. إذ تجرّ هذه المؤسسة وراءها إرثا من الهشاشة القانونية والتنظيمية والمالية يسمح بإخضاعها وتطويعها. وفي ظلّ “حالة الاستثناء” التي تطوّرت شيئا فشيئا نحو الهيمنة والسيطرة، من المنتظر أن يُواجه الاعلام العمومي موجة جديدة من الإخضاع والصراع مع السلطة القائمة.    

 لا يَدخلنّ على التلفزة من كان مُتحزّبا

يلوح قرار منع الأحزاب السياسية من الحضور في البرمجة السياسية للتلفزة العمومية متناسبا مع النظرة الرئاسية للظاهرة الحزبية، بوصفها ظاهرة تجاوزها التاريخ وغير مُعبّرة عن الإرادة الشعبية. وقد شكّل استيعاب هذه النظرة في المضمون الإعلامي تَعبيرًا موضوعيا عن تصوّر أحادي للسياسة والمجتمع، يُمثّله الرئيس وأنصاره. 

في هذا السياق قال محمد ياسين الجلاصي، نقيب الصحفيين التونسيين، للمفكرة القانونية “إن منع الأحزاب السياسية من الدخول إلى التلفزة العمومية يضرب في العمق مبدأ التعدديّة والتنوّع وحقّ المواطنين في المعلومة. لأن الإعلام ينقل مطالب الناس وما يحدث في الدولة والمجتمع. وينقل أيضا كل وجهات النظر”.

وأضاف الجلاصي قائلا: “التلفزة التونسية أصبحت تلفزة دعائية موجّهة في خطّ واحد خدمة لرئيس الجمهورية. فنشرة الأخبار أصبحت نشرة رئاسية، والصّحفيون يُعانون من هذا التوجّه الذي أفقد التلفزة مكانتها وأفقد ثقة الجمهور فيها. ورغم النقائص الفارطة في التلفزة إلاّ أنها كانت موجودة طيلة الفترة السابقة، بخاصة في الانتخابات، وكانت مفتوحة لكل الناس. ولكن قرار منع بعض الأطراف من دخول التلفزة يعتبر من أخطر الإجراءات التي حدثت بعد الثورة. عاد الإعلام العمومي إلى مواقعه السابقة وهو إعلام حكومي يتحدّث فقط باسم السلطة”. 

لم يُخفِ نقيب الصحفيين التونسيين تخوّفه من العودة إلى سياسة “توجيهات السيد الرئيس” التي سادت في زمن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة. إذ كانت التلفزة التونسية منذ تأسيسها سنة 1966 أداة للدعاية الحكومية وتخضع إنتاجاتها الإخبارية والاجتماعية والثقافية لمراكز القرار السياسي. وفي زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، لم تخرج التلفزة التونسية عن هذا التوجّه بل ظلّت تحت رقابة القصر وسيطرته. 

ويصف الباحث والإعلامي ماهر عبد الرحمان التحول الذي شهدته التلفزة العمومية في مرحلة ما بعد 14 جانفي 2011 قائلا: “من الإعلام الموجّه قبل الثورة، دخل بعدها في مواجهة ضغوط يومية من مراكز القرار سواء كانت سياسية أو نقابية أو مهنية تتوزع بين القصبة (رئاسة الحكومة) وقرطاج (رئاسة الجمهورية) وباردو (البرلمان) وساحة محمد علي (الاتحاد العام التونسي للشغل)، وما كان يسمى بالتعليمات والأوامر قبل 14 جانفي تحوّل عند السلطة اليوم إلى لفت نظر أو اقتراح بأن يعطي للنشاط أهميّة في مقدمة النشرة أو التركيز على جملة معيّنة في الخطاب”.   

مآزق التسيير والهيكلة 

لا تبدو التلفزة العمومية بمنأى عن مآزق التسيير والهيكلة المتراكمة، التي عجزت مقترحات الإصلاح المهنية والنقابية بعد الثورة عن تجاوزها، نظرا للممانعة التي أبدتْها حكومات ما بعد 2011. ومن الطبيعي أن تلقي هذه المآزق بظلالها على المضمون الإعلامي. في هذا السياق قال فطين بن حفصية، رئيس تحرير سابق في قسم الأخبار في مؤسّسة التلفزة التونسية، للمفكرة القانونيّة، “إن المستوى المهني يتطلّب استراتيجيا تحريريّة للتلفزة العمومية. ولكن إلى حدّ الآن لا توجد هوية واضحة والبرمجة تتمّ حسب اجتهادات فردية. تتطلّب المسألة التنظيمية الهيكلية أيضا تنظيما لموارد عمل المؤسسة وتقسيم الوظائف داخلها، وهذا مفقود في مؤسسة التلفزة. إضافة إلى غياب التدريب والتكوين ومواكبة تحوّلات المهنة وتعصير المؤسسة في الجوانب الاتصالية الحديثة”. 

وأضاف بن حفصية قائلا: “إن الجانب التسييري ذو أهمية كبيرة في تحديد المضمون الصحفي لأنه حلقة أساسية. ولا يمكن تقديم مضمون صحفي من دون وجود إسناد مالي وإداري ولوجيستي. هناك غياب للبرمجة مرتبط بغياب الموارد المالية، فأكثر من 80% من ميزانية التلفزة التونسيّة متّجهة إلى الأجور. تاليا، لا يمكن الحديث عن إنتاج إخباري وإعلامي كبير”. 

وبخصوص إشكالات الحوكمة والتسيير في الإعلام السمعي والبصري العمومي لاحظ الباحث والإعلامي ماهر عبد الرحمان “مفارقة جمع صلاحيّات الرئيس المدير العام مع صلاحياّت رئيس مجلس الإدارة” ممّا أوجد حالة من الدمج بين السلط وأعدم ممكنات الرقابة. وأشار عبد الرحمان إلى أن الرئيس المدير العام نفسه يفتقد لصلاحيّات التسيير والإشراف المستقليّن، ولا يملك الحقّ في تسمية مساعديه المباشرين، ويتلقى التعليمات بشكل مباشر من السلطة. ولاحظ عبد الرحمان استمرار هذه الممارسة بعد الثورة قائلا: “بقيت هذه الممارسة بعد الثورة في طي الكتمان حتى لا تثير ردود فعل المجتمع المدني والهيئات المدافعة على حريّة الإعلام، وتاليا يصعب الخوض فيها أو قياسها. لكن لا يمكن نفي وجودها طالما أن النشرات الإخبارية لا تزال تبثّ أنشطة رسمية سواء رئاسية أو حكومية هي أقرب للبروباغاندا منها للأخبار”.  

هشاشة المنظومة القانونية 

يشكّل الحفاظ على القوانين الأساسية أحد المآزق الأخرى للإعلام السمعي البصري العمومي في تونس، وبخاصة التلفزة التونسية. ورغم عدم تلاؤم هذه المنظومة القانونية مع الوضع الجديد الذي دشّنته الثورة، فإنها لم تشهد تعديلا أو إلغاءً في اتجاه وضع قوانين أساسية جديدة. 

في هذا السياق، أشار فطين بن حفصيّة إلى أنّه “لا بدّ من توفير أرضية قانونية جديدة. هناك أرضيّة تشريعيّة هشّة كانت صالحة للفترة الأولى من الانتقال الديمقراطي ولكنها لم تتطوّر إلى حد ّالآن. الجانب القانوني مهمّ جدا لتوضيح دور المرفق العام والفصل بين الجانبيْن الإداري والمهني حتى تتّضح الصورة. وهكذا تحافظ المؤسسة الإعلامية العامة على نفس إطارها القانوني والإداري المستقرّ مع قدوم أي سلطة جديدة”.

وأضاف بن حفصيّة قائلا: “يجب أن يتغيّر الوضع ونجعل المرفق العام يؤدّي وظيفته العاّمة مهما كانتْ طبيعة النظام السياسي، لأنه دائما مع السلطة الحاكمة هناك ضغوطات سياسية وضغوطات من الأحزاب والشارع. من حقّ الجمهور الاحتجاج ولكن ليس من حقّه توجيه الإعلام حسب ميولاته السياسية. لذلك يجب أن تكون تمثيليّة الجمهور مُدرجة في مجالس الإدارة ومن حقّ الجميع التواجد في المرفق العام. وهو ما يتطلب رؤية تحريريّة وتغييريّة للمنظومة التشريعيّة والمهنيّة”.

من جهته، أرجع نقيب الصحفيين التونسيين استمرار الأزمة في الإعلام العموميّ إلى عدم التجاوب الرسميّ مع مقترحات الإصلاح القانونيّ، قائلا: “لابدّ من تغيير القانون الأساسي للتلفزة. فمجلس الإدارة متكوّن بأغلبيّة من السلط التنفيذية والقوانين الجديدة غير مُفعّلة وغرف التحرير لا وجود لها. هذا الأمر يجعل التلفزة غير مستقلّة. فعندما التقيْنا رئيسة الحكومة نجلاء بودن في الفترة الأخيرة طلبنا منها الالتزام بتعهّداتها والقيام بتعيينات في الإعلام العمومي وفق الرأي المطابق وليس وفقا لمنطق التكليف حتى تقوم التلفزة بواجبها كإعلام عمومي في خدمة المواطنين. وطالبناها كذلك بالتسريع في المصادقة على النظم الأساسيّة مما سيترك أثرا على استقلاليّة تركيبة مجلس الإدارة. تقدمنا برؤية كاملة ولكن إلى حدّ الآن لا توجد حكومة جاهزة للإصلاح”.

وقد أشار الباحث والإعلامي ماهر عبد الرحمان إلى ارتباط الحفاظ على القوانين الأساسيّة القديمة بمحاولات السيطرة على الاعلام العموميّ، قائلا: “لا يُفهم من تجاهل تعديل القوانين الأساسيّة لمؤسستي الإذاعة والتلفزة، أو عدم إلغاء القديمة لتعويضها بأخرى متطوّرة تستجيب لمتطلّبات الديمقراطية وحريّة الاعلام سوى من باب الصراعات على الهيمنة على هذا الاعلام…وأيضا تخوّف حكومات التوافقات السياسيّة الهشّة من أيّة انزلاقات في التعاطي مع موضوع الاعلام بما قد يؤلب عليها الصحافة. لذلك بقي تسيير المؤسستيّن خاضعا للتبريرات والتأويلات القانونية المستندة إلى المرسوم 116 المتعلّق بحريّة الاتصال السمعي والبصري والذي يعطي الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري اختصاصات رقابيّة وتقريريّة أو أخرى استشارية في القطاع السمعي والبصري عموما إلى درجة تصرّفت معها الهيئة وكأنها مجلس الإدارة لمؤسستيْ الإذاعة والتلفزة خاصة “.

“الهايكا” والسلطة الجديدة: أية علاقة؟ 

في أواخر شهر فيفري الفارط، راسلت تنسيقية الأحزاب والشخصيات المستقلة الديمقراطية والاجتماعية الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، وطالبتها باتخاذ مواقف واضحة من سياسة وضع اليد على الإعلام العمومي التي يقوم بها رئيس الجمهورية. وأشارت التنسيقية في بيانها إلى “منع قادتها وممثليها من المشاركة في البرنامج الحوارية بمؤسسة التلفزة العمومية أساسا، وحرمانهم من حقّهم في التواصل مع الجمهور العريض والمساهمة بآرائهم في النقاش العام الدائر حول المرحلة الخطيرة والدقيقة التي تمرّ بها بلادنا”. 

ساهم القرار الأخير بإنهاء مهام المكلّف بتسيير الإذاعة التونسية من قبل رئيس الجمهورية في إعادة الجدل حول دور “الهايكا” وموقفها من التعيينات الرئاسية داخل مؤسستي الإذاعة والتلفزة. في هذا السياق، قال هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، للمفكرة القانونيّة: “تمّ عزل الإعلام العمومي عن الهيئة وهو يتعامل مباشرة مع السلطة التنفيذية. مما يمثّل تهديدا جديّا لاستقلاليّته”. وأضاف قائلا: “هناك مراسلات بين الهايكا ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية عبّرت فيها عن عدم رضاها عن التكليفات المؤقتة وأوضحت موقفها العام من الإطار القانوني. ليست هناك رئاسة للتلفزة والإذاعة بالنيابة. ربما كان هذا مفهوما خلال الفترة الأولى من الظرف الاستثنائي، ولكن رغم الإعلان عن تعيين الحكومة لم تتمّ العودة إلى آليّة الرأي المطابق للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري”. 

ويُذكر أن الفصل 19 للمرسوم عدد 116 لسنة 2011 يعطي للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري صلاحيّة “إبداء الرأي المطابق في ما يتعلّق بتسمية الرؤساء المديرين العامين للمؤسسات العمومية للاتّصال السمعي والبصري”. وفي هذا السياق أشار الإعلامي ماهر عبد الرحمان إلى أنه “منذ سنة 2014 تاريخ العمل بالرأي المطابق ،عيّنت الحكومة ثلاثة رؤساء مديرين عامين بالنيابة من ضمن ستة”.    

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني