التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (2): جرائم التعذيب بعهدة القضاء العسكري

،
2022-12-16    |   

التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (2): جرائم التعذيب بعهدة القضاء العسكري
رسم رائد شرف

بعد سنوات من صدور قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017، كان الرأي العامّ على موعد مع رواية قضائيّة مختلفة كليّا عن التعذيب لدى الأجهزة الأمنية، رواية تجدها في بيانات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام لكن قلّما تجد من يرويها داخل القضاء. هذه الرواية تمثّلت في القرار الاتّهامي الصادر بتاريخ 29/11/2022 عن قاضية التحقيق لدى المحكمة العسكرية نجاة أبو شقرا في قضية وفاة المواطن السوري بشّار عبد السعود في أثناء التحقيق معه من قبل جهاز أمن الدولة في منطقة بنت جبيل (تبنين)؛ وقد انبنى على التحقيقات التي قام بها مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي والتي أثبتت تعرّض معظم الموقوفين في نظارة المخفر للتعذيب. فعلى نقيض الروايات القضائية السابقة التي نفتْ واقعة التعذيب أو جهدتْ في نفي طابعه الممنهج في اتجاه تفسيره على أنه مجرّد خطأ فرديّ نتج في الغالب عن حالة انفعال أو غضب من جراء استفزاز الضحية، توسّع القرار الاتّهامي في عرض وقائع التعذيب والذي بدا بمثابة طقس يلازم التحقيقات الحاصلة في المخفر المذكور. 

ورغم أهميّة هذه الرواية وطابعها الانقلابي على التمشّي السائد، يبقى أن القرار الاتهامي يقبل الانتقاد على خلفية تأكيده على صلاحية القضاء العسكري في النظر في قضايا التعذيب المرتكبة من الأجهزة الأمنية في إطار التحقيق في الجرائم الداخلية ضمن هذه الصلاحية. وعليه، بدا أن القفزة إلى الأمام التي حققها القرار الاتهامي في مجال تثبيت التعذيب وملاحقته تلازمت مع قفزة رجعيّة قوامها تعزيز مرجعيّة القضاء الاستثنائي الذي طالما شكّل الباب الأساسي لتهميش ضحايا التعذيب الذين ليس لهم أصلا أن يتمثلوا أمامه وإحاطة القوى العسكرية والأمنية بامتيازات قضائية تمهيدا لإفلاتِهم من العقاب. وما يزيد من قابلية هذا التلازم للانتقاد هو أن قاضية التحقيق خلصتْ إليه انطلاقا من تفسير ملتبس للنصوص القانونية وفي تعارض واضح مع القراءة الحقوقيّة لها والتي تمثلت في البيان الصادر عن عدد من الجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية في هذا الشأن في أيلول 2022. 

وبالنظر إلى ازدواجية هذا القرار، عمدنا إلى توضيح أهمية الرواية التي تضمّنها في حلقة أولى لنناقش في هنا في حلقة ثانية الحجج التي وردت فيه لإعلان صلاحية المحكمة العسكرية ومدى ملاءمتها (المحرر) .

في موازاة الجهد الحقوقيّ المتميّز المتمثّل في ضبط وقائع التعذيب في متن القرار الاتهامي الصادر بتاريخ 29/11/2022 في قضية وفاة بشار عبد السعود، اعتمدت قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا تفسيرا متحفّظا بشأن اختصاص المحكمة العسكرية، بما يخالف المواقف والتوجّهات الحقوقيّة في هذا الشأن. فقد خلصتْ القاضية إلى أنّ المحكمة المختصّة لمحاكمة جرائم التعذيب هي نفسها المحكمة المختصة لمحاكمة الجرائم التي حصل التعذيب بمناسبة التحقيق فيها. بمعنى أن المحكمة العسكرية تكون مختصّة للنظر في جرائم التعذيب المرتكبة في سياق إجراء تحقيق في جرم يخضع لاختصاصها، كما هي حال جرائم الإرهاب أو العمالة. بالمقابل، ينحصر اختصاص القضاء العادي (العدلي) للنظر في جرائم التعذيب المرتكبة في سياق التحقيق في جرم ما في الحالات التي يدخل فيها هذا الجرم ضمن اختصاصه. 

وما دفع القاضية إلى مناقشة هذه المسألة هو الطلب الذي قدّمه وكيل الضحية المحامي محمد صبلوح للنيابة العامّة التمييزية طالبا منها اتخاذ قرار بتحويل قضية التعذيب إلى النيابات العامة العادية، بحجة أن صلاحية النظر في جرائم التعذيب تعود للمحاكم العادية وليس للمحاكم الاستثنائية. لم تنظرْ النيابة العامة التمييزية بالطلب إنما اكتفتْ بتحويله إلى قاضية التحقيق العسكري. وقد ترافق هذا الطلب مع بيان صادر عن منظمات حقوقية طالبت بإحالة القضية إلى القضاء العادي. وفي الاتجاه نفسه ذهبت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان.

ويلحظ أن مجمل هذه المطالب والمواقف استندت إلى  المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي نصت فقرتها الأخيرة: “يكون القضاء العدلي (أي العادي) هو الصالح للنظر في هذا الجرم (مخالفة في إطار تحقيق الضابطة العدلية في أي جرم وضمنا التعذيب) رغم كل نص مخالف.” وللوصول إلى هذه النتيجة، استخدمت قاضية التحقيق ثلاث حجج رئيسية، سنعمد إلى عرضها في سياق مناقشتها وتقييمها.  

التناقض في المادة 15 يمنع تطبيق مضمونها 

ما كان بإمكان القاضية أن تبرر موقفها من دون مناقشة المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي استند إليها كلّ من وكيل الضحية في طلبه المقدّم للنيابة العامة التمييزية والمنظمات الحقوقية. ولهذه الغاية، وبعدما توقفتْ القاضية عند نصّ هذه المادة التي تعلن في فقرتها الأخيرة أن القضاء العادي هو القضاء المختص للنظر في مخالفات الضابطة العدلية (ومنها التعذيب)، عادت لتستبعد تطبيقها بحجة أن “نصّ هذه المادة يعكس تناقضاً يمنع اعتبارها واجبة التطبيق على جريمة التعذيب تحديداً”. 

وقد استخلصتْ القاضية التناقض في نصّ المادة من فقرة أخرى ورد فيها أن النائب العام التمييزي يطلب في حال وجود شبهة على حصول جرم جزائي أثناء التحقيقات الأولية (أي التحقيقات لدى الأجهزة الأمنية) من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الادّعاء بحقّ من يرتكبه، علما أنه ليس لهذا الأخير الادّعاء إلا أمام القضاء العسكري. وبنتيجة ذلك، اعتبرت قاضية التحقيق ضمنا أن هذه المادة تقول الشيء وعكسه مما يُوجب استبعادها. 

كما أنها اعتبرت أن المادة 15 هي بأحسن الأحوال نصّ عامّ يتعارض مع نصوص خاصّة تتعلّق بالنظام العامّ. ومن هذه النصوص، المادة 5 من المرسوم الاشتراعي رقم 110 تاريخ 1977 التي حصرت صلاحية القضاء العدلي في النظر في الجرائم التي يرتكبها عناصر أمن الدولة خلال قيامهم بالتحقيقات العدلية العادية وتكون مرتبطة بهذه التحقيقات، وأن ذلك يعني أن القضاء العدلي لا يكون مختصّاً عند قيامهم بالتحقيقات العدلية غير العادية أي تلك التي تدخل في صلاحية المحاكم الخاصّة ومنها المحاكم العسكرية. ومنها أيضا المادة 41 من المرسوم 1460 تاريخ 1971 والتي تنص على اختصاص القضاء العسكري في حال ارتكاب أي من عناصر قوى الأمن الداخلي أو قوى الأمن العام مخالفات أثناء قيامهم بمهمات من اختصاص القضاء العسكري. 

إلا أن هذه الحجة غير مقنعة لأسباب عدة: 

أولا، إن صحّ وجود تناقض في المادة 15، فإن تفسيرها يجدر أن يحصل على النحو الذي يجعلها منسجمة مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية والتي باتت جزءا من الدستور وتاليا مع مبادئ المحاكمة العادلة. وبالفعل، فإن إقرار اختصاص القضاء العدلي يبدو شرطا لتمكين الضحايا من الاشتراك في إجراءات التحقيق والمحاكمة وشرطا أيضا لمنحهم كما منح المتهمين إمكانية التمتع بحق المحاكمة على درجتين (مادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والتي تشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور). وعليه، فإنه كان من الأسلم بقاضية التحقيق أن تحلّ التناقض بتغليب الفقرة الأخيرة من هذه المادة والتي تعلن اختصاص المحاكم العادية من دون أي تمييز. وما يعزز ذلك هو أنّ أي تفسير آخر للمادة يؤدي إلى إهمال الفقرة الأخيرة من المادة 15 بشكل كامل وذلك خلافا لمبدأ أن كل نص قانون وجد لتفعليه وليس لإهماله والذي كرسته محكمة التمييز في 3/10/2013. وأنه لكان من الأسلم بقاضية التحقيق إذا أن تحلّ التناقض من خلال القول أن المادة المذكورة منحت مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صلاحية استثنائية بالادعاء أمام المحاكم العادية في جرائم التعذيب وأي جرم آخر مرتكب من الضابطة العدلية أثناء التحقيق، لا من خلال إهمال المادة برمتها. 

ثانيا، إن القول أن المادة 15 نص عام تغلّب عليه النصوص الخاصة، أمر يقبل النقد انطلاقا من المبادئ التي يخضع لها حلّ التنازع بين النصوص. فأولا، وردت المادة 15 ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في آب 2001 والذي رمى إلى تعزيز شروط المحاكمة العادلة في حين أن مجمل النصوص التي غلبتها عليها قاضية التحقيق تعود إلى السبعينيات. وأنه كان من الأسلم في هذا الإطار القول أن الفقرة الأخيرة من هذه المادة والتي كرست صلاحية المحاكم العادية في هذا الخصوص، ألغت ضمنا النصوص السابقة لها والتي تتعارض معها. وما يؤكد ذلك هو أن هذه الفقرة الأخيرة نصت صراحة على أنها تنطبق رغم وجود أي نصّ مخالف. وما يعزز ذلك أيضا فأيضا هو أن المادة 15 عالجت حصرا المخالفات المرتكبة من الضابطة العدلية في أثناء التحقيقات الأولية، بمعنى أنها تشكل بالضرورة نصّا خاص بالنسبة إلى النصّ العام الذي يمنح للمحكمة العسكرية صلاحية ملاحقة الجرائم المرتكبة من الضابطة العدلية فيما بتّصل بالقيام بوظائفها، وذلك بخلاف ما جاء في القرار الاتهامي. 

وما يعزّز ذلك أن ثمة سوابق ذهبت في هذا الاتجاه، ومنها القرار الصادر عن مفوض الحكومة أمام المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس بتاريخ 2/4/2019 بإعلان صلاحية القضاء العدلي للنظر في القضية التي قدمها زياد عيتاني ضد عناصر في أمن الدولة بشأن التعذيب الذي ادّعى تعرّضه له عند التحقيق معه في جرم العمالة. وقد جاء هذا القرار تبعا لتقدّم عيتاني بمذكرة في هذا الخصوص أرفق بها البيان الصادر بتاريخ 2/4/2019 عن منظمات حقوقية عدة، من بينها المفكرة القانونية، حول تفسير المادة 15 على هذا النحو.     

قانون 2017/65 خلا من أيّ نص خاص بشأن المحكمة المختصة… ولكن

رأت قاضية التحقيق أن قانون معاقبة جرائم التعذيب 65/2017 “لم يحدّد القضاء المختصّ لنظر الجريمة موضوعه، ما يوجب العودة إلى النصوص المتعلّقة بتحديد الاختصاص في الملاحقة الجزائيّة”. وعليه، اعتبرت أنّ النصّ الواجب تطبيقه هو النص الذي يحدّد خضوع عناصر أمن الدولة لصلاحيّة القضاء العسكري متى ارتكبوا جرائم تتعلّق بوظيفتهم، وأن وظيفتهم كضابطة عدلية هي أهم وظيفة (المادة 27 من قانون القضاء العسكري). 

إلا أن هذه الحجة تتجاهل المناقشات النيابية الحاصلة عند إقرار قانون معاقبة جرائم التعذيب بتاريخ 19/9/2017. فإذ تظهر هذه المناقشات أنّ جدلا دار بالفعل بين النواب حول مدى ملاءمة تضمين قانون معاقبة التعذيب إشارة واضحة إلى أن اختصاص النظر في جرائم التعذيب يعود للمحاكم العدلية حصراً، فإنها تظهر أيضا أنه انتهى إلى القول بأن هذا الأمر غير ضروري على ضوء أحكام المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي تجعل أي إضافة من هذا النوع بمثابة لزوم ما لا يلزم. وقد تمّ ذلك بعدما لفت النائب السابق بطرس حرب إلى أنّ المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجيز للنائب العامّ التمييزي ملاحقة أيّ خلل في عمل الضابطة العدلية أمام المحكمة العدلية ومن دون حاجة إلى إذن مسبق، تحسم المسألة بما يجعل من غير الضروري إعادة مناقشتها في قانون معاقبة جرائم التعذيب. وما يعزز القول بوجود نية تشريعية على منح المحاكم العادية صلاحية حصرية في النظر في جرائم التعذيب هو أنّ الأسباب الموجبة لقانون 65/2017 تضمّنت حرفيّاً: “تناط صلاحية الملاحقة والتحقيق والمحاكمة بالقضاء العدلي العادي دون سواه من المحاكم الجزائية الاستثنائية”.

المحكمة المختصة في جرم معين تكون مختصة للنظر في جرائم التعذيب المرتكبة أثناء التحقيق فيه

أخيرا، أضافت القاضية إلى حججها أن ثمّة مصلحة في منح المحكمة الناظرة في جرم معين صلاحية النظر في جرائم التعذيب المرتكبة في أثناء التحقيق فيه. وقد رأت القاضية أن هذا التفسير ينسجم مع نصوص القضاء العسكري وتعديلاته، ومع نص القانون 2017/65 طالما أن القاضي المختص في الجرم يكون مدعوا لإبطال “الأقوال التي يتم الإدلاء بها تحت التعذيب” (المادة 4 منه). 

إلا أن هذه الحجة أيضا تبقى غير مقنعة طالما أن إبطال التحقيقات على خلفية حصول مخالفات أمر ومحاكمة جريمة التعذيب أمر آخر. بمعنى أنه يبقى على أي هيئة قضائية تتثبت من إدلاء المشتبه أو المدعى عليهم بأقوال تحت التعذيب أن تبطل التحقيقات في الجرم الذي تنظر فيه في موازاة إحالة الأدلة على ارتكاب جرم تعذيب إلى مرجع يرتقب أن يكون مرجعا مختلفا يكون هو المختص لإجراء المقتضى. وهذا ما يحصل عموما حين يكتشف القاضي الناظر في جنحة ارتكاب جناية التعذيب بحق مدعى عليه في جرم ما أمامه، ففي هذه الحالة يتابع هذا القاضي محاكمة هذا الجرم على أن يحيل الأدلة التي في حوزته للنيابة العامة لمباشرة الملاحقة وصولا إلى محاكمة من قد يتهم بالتعذيب أمام محكمة أخرى هي محكمة الجنايات. 

خلاصة:هذه هي أبرز الملاحظات حول القرار الاتهامي الذي رغم أهميته لجهة توثيق جرم التعذيب وانتهاجه، انتهى للأسف إلى إعلان اختصاص المحكمة العسكرية وتاليا إلى إبقاء المحاكمة تحت سقف هذه المحكمة وبغياب تامّ للضحية. يؤمل أن يمهد اعتراف القضاء المتأخر بانتهاج التعذيب لاعترافه الأهم ولو بعد حين بضحاياه وحقوقهم بالإنصاف والعدالة. فلنراقب.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني