البناء القاعدي، مشروع أم نبوّة؟

البناء القاعدي، مشروع أم نبوّة؟

أصدرت المفكرة القانونية في شهر جويلية المنقضي ورقة بحثيّة حول مشروع البناء القاعدي بعنوان “الرئيس يريد: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره”، في شكل كتيّب متوفّر بنسخة مطبوعة ونسخة إلكترونية. وقد رأينا من المفيد أن ننشر على موقعنا الأقسام الرئيسية التي تتألّف منها هذه الدراسة تباعا تسهيلا للبحث على شبكة الإنترنت. ننشر هنا القسم الأول منها، والذي حاولنا من خلاله تأطير الموضوع وفهم المشروع ومصادر إلهامه، مع افتراض حسن نوايا أصحابه، تمهيدا لنقد تفصيلي له، محلّه الأجزاء الموالية. يجدر لفت انتباه القارئ إلى أنّ كتابة الدراسة انتهت في الفترة الفاصلة بين نشر مشروع الدستور، في 30 جوان 2022، ونشر نسخة معدّلة عنه في 8 جويلية. وعلى الرغم من تراجع سعيّد في النسخة الثانية على حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب، فإنّ ذلك لم يمنعه من تنزيل أفكار مشروع البناء القاعدي تدريجيّا. وقد حصل ذلك ليس فقط عبر إنشاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الذي سينتخب بشكل غير مباشر) واعتماد سحب الوكالة من النواب، ولكن أيضا عبر اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى وإلغاء دور الأحزاب السياسيّة في انتخابات مجلس نواب الشعب واشتراط التزكيات. وكلها أمور تم تكريسها في القانون الانتخابي كما في كيفية تطبيقه من قبل هيئة الانتخابات (المحرّر).

“إنّ السبيل للتعبير عن إرادتكم الحقيقية هو إعادة البناء من القاعدة، من المحلي نحو المركز، حتى تكون القوانين والتشريعات كلها على اختلاف أصنافها ودرجاتها معبّرة عن إرادتكم، حاملة لآمالكم، صدى لمطالبكم وتطلعاتكم، متّسقة مع الانفجار الثوري الذي انطلق من المعتمديّات والقرى قبل أن يبلغ ذروته في المركز.
إن التأسيس الجديد تحت شعار “الشعب يريد” ينطلق من قراءة لهذه المرحلة التاريخيّة، لا في تونس فحسب، بل في العالم بأسره. فقد دخلت الإنسانيّة مرحلة جديدة من تاريخها لم يعد بالإمكان تنظيمها بمفاهيم بالية تحوّلت بفعل هذا التطوّر إلى عقبة أمام فكر سياسي جديد صنعته الشعوب وتجاهله الكثيرون ممن لا زالوا يعتقدون أنهم صفوة الصفوة ونخبة النخبة التي تحدّد بمفردها أقوم المسالك لإدارة شؤون الممالك، فالمسلك فتحه الشعب التونسي. (…) معالم الطريق الجديدة التي شقّها الشعب التونسي ليست بالمستعصية على الفهم إلا لمن أراد ألا يفهم أصلا أو أراد أن يفهم طبق مصالحه ولم يتخلص من طموحه الشخصي وأطماعه وهواه”.

ليس أفضل لتقديم مشروع البناء القاعدي، من أن نبدأ من كلام سعيّد نفسه في بيانه الانتخابي لرئاسيات 2019. تكفي قراءة هذا المقتطف، الذي يلخّص الأفكار التي يكرّرها سعيّد وبقيّة أصحاب المشروع منذ 2011، لنفهم بأنّ الأمر لا يتعلّق ببرنامج انتخابي يصلح لتعبئة الناخبين و”لا يلزم إلاّ الذين يصدّقونه”، وإنّما بما يشبه النبوّة. لم يكتب سعيّد وأصحابه المشروع، وإنّما اكتفوا باكتشاف الطريق التي خطّها الشعب في ثورته، تماما كالأنبياء. فهي رسالة تاريخيّة تلقوها من الشعب، يقتصر دورهم على تبليغها، وهي فكر سياسي جديد يتجاوز المفاهيم والآليات “البالية” التي انتهى زمانها. وكما الأنبياء، لا يوجّه سعيّد الرسالة إلى شعبه فقط، وإنما يرى فيها خلاص العالم بأسره. أمّا من يعارض هذه الرسالة، فلا يحرّكه في ذلك رأي حرّ أو نيّة صادقة، وإنّما بالضرورة مصلحته الخاصّة. 

1 / مشروع يأبى أن يكتمل

لئن بدأ مشروع البناء القاعدي يتشكّل منذ 2011، بلقاء مدرّس القانون الدستوري مع زمرة من اليساريّين المنضوين تحت لواء “قوى تونس الحرّة”، إلاّ أنّه، كغالبيّة النبوّات، لم يُسكتمل. إذ لم ينشر للعموم إلى الآن في نصّ واضح ونهائيّ يمكن التعليق عليه، وإنّما ظلّت معالمه تتناقل وتناقش في نشاطات الحملات التفسيريّة، وتفاصيله تتطوّر من حين لآخر. فإذا ما استثنينا الحوارات الصحفية لسعيّد، التي قدّم من خلالها مقومات مشروعه وبعض تفاصيله، يوجد مرجعان فقط منشوران للعموم؛ الأوّل بيان باسم قيس سعيّد نشر بتاريخ 3 أوت 2013، بعد أسبوع من اغتيال النائب المؤسس محمد البراهمي، دعا من خلاله المجلس الوطني التأسيسي إلى إنهاء وجوده القانوني وحلّ نفسه، وإلى انتخاب “مجلس وطني شعبي” على الطريقة القاعديّة. أمّا الثاني، فهو كتاب لخليل عبّاس، أحد الشباب اليساريّين الذين انخرطوا في المشروع، نُشر بعيد الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019 وكان في الأصل مداخلة ألقاها في لقاءات جمعيّة نشاز، وهو مرجع مفيد جدّا لفهم الفلسفة التي يقوم عليها المشروع. يؤكّد خليل عباس نفسه أنّ المشروع “لم يستكمل بعد”، وأنه لا يشكّل “فكرة نهائيّة وجاهزة”، وإنّما “وثيقة للنقاش”. 

بين 2013 و2019، تعدّدت التسميات، من “البناء الجديد”، إلى “البناء القاعدي”، مرورا ب “التأسيس الجديد”، من دون أن تتغيّر فلسفة المشروع ولا معالمه الكبرى. تقوم هذه الأخيرة على إجراء الانتخابات في مستوى العمادات وفق نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين، ليشكّل المنتخبون مجالس محليّة على مستوى كلّ معتمدية، يُضاف إليهم ممثّل عن ذوي الإعاقة، ثمّ يصعد من كلّ مجلس محلّي، عبر أسلوب القرعة، ممثّل في المجلس الجهوي على مستوى الولاية، وممثّل في المجلس الوطني، مع خضوعهم جميعا لامكانيّة سحب الوكالة من قِبَل ناخبيهم. كما بقيت فكرة عضويّة “مديري الإدارات المحلّية” في هذه المجالس، من دون الحقّ في التصويت. لكنّ بعض التفاصيل تغيّرت، كشروط التزكيات للترشح للانتخابات، أو التخلّي عن فكرة إخضاع تعيين “المشرف على الأمن” إلى اقتراح أغلبية أعضاء المجلس المحلّي. ظلّ البناء القاعدي في تطوّر مستمرّ حتّى بعد انتخابات 2019، إذ وردت أفكار جديدة في مداخلات أصحاب المشروع في ندوة “لنفكّر ديمقراطيتنا” في الكباريّة في سبتمبر 2021، أبرزها مبدأ التصويت الإجباري، لكن من دون تفاصيل حول العقوبات التي تنتظر من يتخلّف عن الاقتراع.

لسنا ندري ما الذي منع سعيّد ورفاقه من إصدار نسخة نهائيّة ومكتملة من مشروعهم، خصوصا بعد مرور سنوات عديدة من إعلانه لأول مرّة، يفترض أنّها كافية لإنضاج الأفكار وتذليل الصعوبات والوصول إلى مشروع متناسق ومكتمل. ربّما كان العمل على المشروع متقطّعا، أو أنّ أصحابه تفادوا عرضه على النقاش العامّ وفضّلوا “تفسير” الأفكار في المعتمديات، بعيدا عن المختصّين المتمركزين في المدن الكبرى. يبقى أنّ الأفكار الكبرى التي يقوم عليها المشروع واضحة، وأنّ تغيّر التفاصيل لا يمنعنا من دراستها ومناقشتها. قبل أن نفكّك المشروع ونتناوله بالنقد في الأبواب الموالية، سنحاول في هذا الباب الأوّل وضعه في سياقه التاريخي والسياسي والنظري، لنفهم الفلسفة التي يقوم عليها.

2 / ترجمة قانونية للثورة

لم يكن تغيير تاريخ إحياء ذكرى الثورة، من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر، قرارا اعتباطيّا من الرئيس سعيّد. هو يرى في 14 جانفي تاريخ “إجهاض” الثورة، وتحويل وجهتها من طرف الأحزاب، لصالح “انتقال ديمقراطي” ليس سوى “بضاعة مستوردة” من الدوائر الغربيّة، فرضت على الشعب من “نخبة النخبة” التي نصّبت نفسها وصيّة عليه. فعلى الرغم من أنّ اعتصام القصبة كان “البرلمان الحقيقي الوحيد الذي شهدته تونس”، فإنّ “قصبة الأحزاب” انتصرت وفقه على “قصبة الشباب”، وأوقفت المسار الثوري باحتوائه داخل الانتقال الديمقراطي وفق أولوياتها. هذه النظرة التي تعتبر خيارات الانتقال الديمقراطي بمثابة سرقة للثورة وإسقاط لمقاربات مستهلكة ومستوردة، هي ذاتها التي ترى في مشروع البناء القاعدي الترجمة الحقيقية للطريق التي خطّها الشعب في ثورته.

مشروع البناء القاعدي هو قبل كلّ شيء وليد مخاض الأشهر الأولى للثورة. كان قيس سعيّد، مدرّس القانون الدستوري الذي لم تعرف له مواقف معارضة في زمن الاستبداد، من أشدّ المتحمّسين للثورة. كان من أوّل المطالبين بالقطع نهائيا مع دستور 1959 وصياغة دستور جديد، أسوة بأساتذة آخرين كرشيدة النيفر والصادق بلعيد، على عكس معظم زملائه الذين كانوا يفضّلون الاكتفاء بتعديلات دستوريّة. حسَمَ اعتصام القصبة 2 الأمر، حيث فرض التخلي عن فكرة إجراء انتخابات رئاسيّة سابقة لأوانها، لصالح انتخابات تأسيسيّة بعد تعليق العمل بالدستور في مرسوم 23 مارس 2011. لكنّ سعيّد عارض بشدّة خيار نظام الاقتراع النسبي الذي اعتمدته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، ورأى فيه سرقة للثورة من طرف الأحزاب، فطالب باعتماد الاقتراع على الأفراد في المعتمديّات. بالتوازي مع ذلك، أسّست مجموعة من اليساريّين، أبرزهم رضا شهاب المكي وسنية الشربطي، مجموعة “قوى تونس الحرّة”. بدأت المجموعة تصدر بيانات منذ جانفي 2011، مطالبة “بالقطع النهائي ﻣﻊ ﺍﻟﻧﻅﺎﻡ ﺍﻟﺑﺎﺋﺩ ﻭﻣﻊ ﺍﺧﺗﻳﺎﺭﺍﺗﻪ ﺍﻟﺳﻳﺎﺳﻳّﺔ ﻭﺍﻻﻗﺗﺻﺎﺩﻳّﺔ ﻭﺑﻧﻳﺗﻪ ﺍﻟﺩﺳﺗﻭﺭﻳّﺔ‬ ‫ﻭﺍﻟﻣﺅﺳﺳﺎﺗﻳّﺔ”، ومندّدة بالقوى “الإصلاحيّة التي تحاول الالتفاف على الثورة” عبر الخلط بينها وبين “الخطاب الاحتجاجي الإصلاحي”. تعود الفكرة بوضوح أكبر في الأرضيّة السياسية لقوى تونس الحرّة، بتاريخ 26 فيفري 2011، حيث  تُحلّل الثورة كتحالف بين المهمشين، وهُم القلب النابض للثورة، وطبقات اجتماعيّة أخرى كانت ضحيّة الاستبداد السياسي. تحالف انفرط عقده في الأيام الموالية بعد رحيل بن علي، لتنقسم قوى الثورة إلى ثلاث: فئة أولى إصلاحية لا تريد القطع مع دستور 1959 وتسعى فقط إلى الانقضاض على السلطة، لتتحول إلى دائرة قوى الثورة المضادّة؛ فئة ثانية تطالب بانتخاب مجلس وطني تأسيسي تنبثق عنه هياكل الدولة الجديدة، وهي بذلك “تتّجه إلى بناء الدولة بدءا من أعلى الهرم حتّى الوصول إلى قاعدته، دون مراعاة إرادة الشعب”؛ أمّا الفئة الثالثة، التي تعبّر عنها قوى تونس الحرّة، فهي التي تعتبر أنّ الثورة “قادرة على تشكيل هيئاتها الثوريّة”، وأنّ لجان حماية الثورة التي تشكّلت “في القرى والمدن وداخل الإدارات والمؤسّسات العموميّة والخاصّة” قادرة على التحوّل إلى “لجان مداولة وقرار، هدفها لا فقط حماية الثورة بل مواصلتها واستكمال أهدافها”. فإذا كانت الفئتان الأولى والثانية تعبّران، بغضّ النظر عن اختلافهما، على مطلب الانفتاح السياسي الذي حملته الطبقة المتوسطة، وحدها الفئة الثالثة تمثّل العمق الاجتماعي للثورة.

نجد تحليلا مشابها لدى خليل عبّاس الذي يميّز بين فئتي “الخارجين عن الإنتاج” الذين كان هدفهم “تغيير الدولة”، والطبقة الوسطى التي كانت تسعى “لاستعادة الدولة”. التحمت الفئتان في 14 جانفي لإسقاط بن علي، ثمّ انفصلتا مما أنتج “شرخا سياسيّا” بين مساريْن: المسار الثوري ومسار الانتقال الديمقراطي. وإذا كانت أزمة المسار الثوري في غياب المشروع التغييري لديه، واقتصاره على شعارات عامّة أو قضايا جزئيّة، فإنّ البناء القاعدي يسعى لأن يملأ هذا الفراغ، ويعوّض الديمقراطية “المستوردة” و”المستهلكة”، بديمقراطية نابعة من الثورة. فكما انطلقت الثورة من المعتمديات، وصولا إلى المركز، وجب أن يكون البناء من تحت إلى فوق، من أصغر الدوائر وصولا إلى المركز. ومثلما لم يحتجْ الشعب إلى الأحزاب كي يقوم بثورته، فهو لا يحتاج إليها كي يمارس الديمقراطيّة. لذلك يقوم المشروع على أساس الاقتراع على الأفراد في أصغر الدوائر، الذي يسحب البساط من تحت الماكينات الحزبيّة. وكما خلقت الثورة تلقائيّا شكلها التنظيمي، وهو “لجان حماية الثورة”، يجب أن تبنى الديمقراطية على النموذج ذاته، وذلك عبر “المجالس المحليّة” في كلّ معتمديّة.

هذه النظرة الرومنسيّة للجان حماية الثورة، التي تسقط تجارب المجالس العمالية في القرن العشرين في روسيا وألمانيا وإيطاليا والمجر على لجان لم يتجاوز عمرها بضعة أسابيع وكانت وظيفتها الأساسيّة تأمين الأحياء أمام انسحاب قوات الأمن، كانت حاضرة في جلّ بيانات قوى تونس الحرّة. سقطت فكرة تأبيد لجان حماية الثورة وتحويلها إلى مجالس تمارس السلطة، واقعيا، بفعل انحسار هذه اللجان من دون إرث يذكر، وبروز “روابط حماية الثورة” التي سرعان ما تحوّلت إلى أداة بيد حركة النهضة وحلفائها، وانخراط النخب السياسيّة والحقوقية في المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي داخل الهيئة العليا التي ترأسها عياض بن عاشور. لكنّ اليوتوبيا المجلسيّة لقوى تونس الحرّة التقتْ مع مقترحات قيس سعيّد بخصوص نظام الاقتراع، لتنتج مشروع البناء القاعدي.


3/ مقاربة جديدة للديمقراطية؟  

ربّما تكون ازدواجيّة الإلهام قد ساهمت، بالإضافة إلى عدم اكتمال المشروع، في الالتباسات التي تحيط به. فهل يتعلّق الأمر بطريقة جديدة لإرساء سلطة تأسيسيّة، أيْ بمرحلة استثنائيّة تسمح للشعب في سياق ثورة بأنْ يرسم بنفسه نظام الحكم، أم بشكل سياسي مؤسَّس يفترض أن يدوم؟ وإذا كان الأمر يتعلّق بنظام حكم لا بطريقة اقتراع فقط، ما هي مكانة السلطة التنفيذية فيه؟ من يمارسها ولماذا تُغيّب تماما عند تقديم المشروع؟ وهل يتعلّق الأمر بديمقراطيّة مباشرة كما نقرأ في كثير من الأحيان؟ أم بديمقراطية تمثيلية في صيغة مختلفة؟ هل هي استعادة ليوتوبيا الديمقراطية المجالسيّة؟ أسئلة والتباسات كثيرة لم تحظَ بالتحليل اللازم، ولم يبذل أصحاب المشروع أنفسهم الجهد اللازم لـ “تفسيرها”.

فلنبدأ بعلاقة المشروع بالديمقراطية المباشرة. هذه الأخيرة تقوم على ممارسة الشعب مباشرة السلطة، من دون الحاجة إلى ممثلين، وهي الديمقراطيّة في معناها الأصلي والتاريخي كما ظهرت في المدن الإغريقيّة، ثمّ أصبحت غير قابلة للتطبيق في الدول الحديثة، لأسباب مختلفة أوّلها ارتفاع عدد المواطنين الذين يشكلون الجسم السياسي للدولة-الأمّة. لكنّ مشروع البناء القاعدي لا يتخلّى عن الانتخاب، وبالتالي عن التمثيل، سواء عبر انتخاب ممثلي العمادات الذين سيصعد من بينهم أعضاء المجلس التشريعي الوطني، أو عبر انتخاب رئيس الجمهوريّة مباشرة. يقحم المشروع بعض آليات الديمقراطية المباشرة، بالأخصّ سحب الوكالة، لكنّ ذلك لا يكفي لتصنيفه ضمن الديمقراطية المباشرة. فالديمقراطية التمثيليّة لا تقصي استعمال بعض آليات الديمقراطية المباشرة بصفة عرضيّة، كالاستفتاء، ولكن العبرة هي في طريقة الممارسة اليوميّة والمتواصلة للسلطة. يقرّ خليل عباس أنّ “الديمقراطية القاعدية” ليست ديمقراطية مباشرة، لكنّه يبالغ بعض الشيء في مدى اعتماد مشروعهم على آلياتها. فالقرعة ليست آليّة ديمقراطية مباشرة، وإنما آلية تمثيليّة بديلة عن الانتخاب، والأهمّ، هو أنّ استعمالها في البناء القاعدي كطريقة للتصعيد من بين المنتخبين يفرغها من جوهرها، كما سنرى لاحقا.

يبقى أنّ الخطاب والسرديّة التي يقوم عليها البناء القاعدي تقترب كثيرا من “الديمقراطية المجالسيّة”. فالمقاربة التاريخانيّة التي تعتبر الديمقراطيّة التمثيليّة بأحزابها وبرلماناتها التقليديّة في عداد الماضي، وأنّ الزمن الحالي يفرض آليات جديدة لممارسة السلطة تسمح للمواطنين بأن يكونوا فاعلين، حاضرة بقوّة في الفكر المجالسي منذ بدايات القرن الماضي. كما يشترك البناء القاعدي مع الفكر المجالسي في فكرة “الديمقراطية من الأسفل”، أيْ الانطلاق من أصغر الوحدات، سواء كانت جغرا-إداريّة (العمادات) كما في البناء القاعدي، أو اقتصاديّة كما في المجالس العمّاليّة (المصانع والشركات). ويلتقي البناء القاعدي مع الفكر المجالسي في عدم إقصاء التمثيل عبر الانتخاب، مع تقييده بما يشبه الوكالة الإلزاميّة بالإضافة إلى آليّة سحب الوكالة. لكنّ ذلك لا يجيز، حسب رأينا، تصنيف البناء القاعدي ضمن “الديمقراطية المجالسيّة”، لسببين على الأقلّ.

الأوّل أنّ صنف “الديمقراطية المجالسيّة” يطرح في حدّ ذاته أكثر من إشكال. إذ لا يتعلّق الأمر بنموذج ديمقراطي معترف به، وإنما بتجارب تاريخيّة، في سياقات ثوريّة لم تدُم ما يكفي من الزمن. وعلى الرّغم من أنّ هذه التجارب نالت من الدرس والتنظير حيزًا هامًا، ظلّ النقاش حولها بالأساس داخل الأطر الماركسيّة. ولعلّ أبرز مثال على ذلك، الجدال بين روزا ليكسمبورغ ولينين. ارتبط الفكر المجالسي بمجموعات هامشية داخل اليسار الماركسي، ولم يتطور في اتجاه صياغة نظرية ديمقراطيّة مجالسيّة. فلا محاولات التنظير السياسي للمجالسيّة لدى كاستورياديس وكلود لوفور وحنّة أرندت، على تمايزها عن بعضها البعض، ولا الاهتمام النظري المستجدّ بها في السنوات الأخيرة، يمكن اعتبارها قد بلغت هذه المرحلة. نحن إذن إزاء يوتوبيا أثارت ولا تزال اهتمام بعض المفكّرين اللامعين والمناضلين الصادقين، لكنّها بعيدة عن أن تكون نموذجا ديمقراطيا قابلا للتطبيق.

أمّا السبب الثاني والأهمّ، فيتّصل بمشروع البناء القاعدي. فعلاوة على إغفاله تماما فكرة الديمقراطية الاقتصادية وحقّ العمّال في المشاركة في أخذ القرار داخل مؤسساتهم، التي تشكّلت حولها تاريخيا التجربة المجالسيّة، توجد فوارق جوهريّة بين مشروع سعيّد والنظريّة المجالسيّة. فإذا كانت المجالس في هذه الأخيرة تُمسك بالسلطة، كلّ السلطة، فإنّ سلطة المجالس المحلّية في البناء القاعدي، وأيضا سلطة المجالس الجهويّة وصولا إلى المجلس الوطني، تطرح أكثر من سؤال. فإذا كان دور المجلس المحلي، حسب الوثيقة الموزّعة في الحملة الانتخابيّة، هو “صياغة المنوال التنموي”، ودور المجلس الجهوي هو التأليف بينها والمتابعة، ودور المجلس الوطني هو بدوره التأليف، بالإضافة إلى التشريع، فإنّ السلطة التنفيذية، بصلاحياتها الواسعة وخطر استبدادها، تبقى ممركزة بين يديْ رئيس الجمهوريّة. حتّى المجلس التشريعي، إذا أضعفت فيه الأحزاب لصالح المستقلّين، وظلّ أعضاؤه خاضعين لسحب الوكالة، فإنه يصبح غير قادر على مراقبة السلطة التنفيذيّة والتصدّي لانحرافاتها. فالجهاز التنفيذي، سواء سميناه سلطة أم وظيفة، هو بالضرورة سلطة، لأنه يمتلك الإدارة والقوّة العامّة. إضعاف بقيّة السلط، باسم احتكار الشعب للسلطة، لا يمكن إلا أن يزيد من خطر استبداد السلطة التنفيذيّة، وهو ما يتنافى كلّيا مع الديمقراطيّة.

يحيلنا ذلك على مثال الجماهيريّة الليبيّة، الذي كثيرا ما يستعمل لوصم البناء القاعدي. صحيح أنّ نظام اللجان والمؤتمرات الشعبيّة يتضمّن، نظريا، فكرة الانطلاق من القاعدة، وتصعيد البرلمان الوطني بطريقة غير مباشرة عوض انتخابه مباشرة، بالإضافة إلى تجريم التحزّب الذي يقارن البعض بينه وبين الاعتقاد الذي يردّده سعيّد بانتهاء عهد الأحزاب. لا يعني ذلك بالضرورة استلهام البناء القاعدي من التجربة القدافيّة، لكنّ ذلك لا ينفي وجه شبه أساسي بينهما، وهو إخفاء السلطة الممركزة بين يدي القائد/الرئيس، ب”لامركزيّة” مفرطة للسلطة التشريعيّة، وبشعارات ديمقراطيّة تزايد على أعتى ديمقراطيات العالم. فهي “مجالسيّة” لا تفتقر فقط لأيّ سلطة فعليّة، وإنّما أيضا مسقطة من فوق، لم تنبع من ديناميات ثوريّة محلّية قادرة على منافسة السلطة المركزيّة وخلق توازن معها، بلْ من إرادة الأمير.

4/ الرئيس يريد ويعرف ما يريد

يحرص الرئيس سعيّد بشكل لافت على استعمال شعار “الشعب يريد”. فقد جعل منه عنوان حملته “التفسيريّة”، وختم توطئة مشروع الدستور بإشارة إليه. هذا الهوس بشعار “الشعب يريد” يعكس ليس فقط إيمانا بأنّه بصدد “تصحيح مسار الثورة” الذي “انحرف” في انتقال ديمقراطي، وإنّما أيضا، الرغبة في إخفاء الطابع الانفرادي والفوقي، لمشروع يحمل شعار القاعديّة وإعادة السلطة للشعب. 

حرص سعيّد، منذ 25 جويلية 2021، على عدم تبني مشروعه مباشرة، وتمريره بالتقسيط، مع إلباسه رداء الإرادة الشعبيّة. جاءت الاستشارة الوطنية، التي تحكّم مباشرة في صياغة أسئلتها، على مقاس المشروع في خياراته الكبرى (نظام رئاسي، سحب الوكالة من النواب، والاقتراع على الأفراد)، وفلسفته، وهي الحلول المحلّية للمشاكل الاقتصاديّة. ترجم مشروع الدستور هذه الخيارات، بوضعه نظاما رئاسويّا، يحتكر فيه الرئيس السلطة التنفيذيّة، من دون أي مسؤولّية، حتّى في صورة الخرق الجسيم للدستور، مقابل إضعاف بقيّة السلط المضادّة والتنصيص على امكانيّة سحب الوكالة من النواب. فتَح الطريق أمام تنزيل بقيّة المشروع عبر المراسيم، عبر حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب، على عكس انتخاب رئيس الجمهوريّة. رَفَع سعيّد بذلك الأغلال الدستوريّة التي كان من شأنها أن تعطّل تنزيل المشروع، وأبقى في أحكامه الانتقاليّة على السلطة التشريعيّة بين يديه، من دون أيّ قيد بما في ذلك في المادّة الانتخابيّة، مما يسمح له باستكمال مشروع البناء القاعدي في جزئه المتعلّق بنظام الاقتراع. 

قد يكون الرئيس صادقا في اعتقاده في ديمقراطيّة حقيقيّة، من شأنها أن “تصحّح مسار التاريخ”، كما ورد في توطئة مشروع الدستور. لكنّ الأسلوب الذي يعتمده في تمرير مشروعه قام على المواربة، ويعكس فوقيّة وانفراديّة لا تتلاءمان مع ادّعاء إرجاع السلطة للشعب. فإرادة الشعب ليست سوى إرادة الرئيس. ليس ذلك جديدا، فالنزعات الاستبداديّة، التي لا مفرّ منها لدى من يُسمك بالسلطة، تتخفّى في كثير من الأحيان وراء شعارات ديمقراطيّة. في كلّ النبوات، يختلط الوازع الشخصي بالرسالة. ولعلّ أخطر ما في النبوّات، هو اعتقادها في حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، وقدرتها على تبرير ما لا يمكن تبريره. فالغاية تبرّر الوسيلة، حتى إن كانت هذه الأخيرة مناقضة لمبادئ الرسالة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني