الباحث في العلوم السياسية والاجتماعية حمزة المؤدب: عالم ما بعد جائحة كورونا يفرض التفكير في عقد اجتماعي جديد


2020-06-29    |   

الباحث في العلوم السياسية والاجتماعية حمزة المؤدب: عالم ما بعد جائحة كورونا يفرض التفكير في عقد اجتماعي جديد

في مسار موازٍ لمخابر البحث العلمي التي تنكب على البحث عن لقاح يضع حدا لتفشي جائحة كورونا، بدأ الباحثون في مجال الإقتصاد وعلم الإجتماع والفلسفة في طرح الأسئلة حول ما يمكن اعتباره عالم ما قبل الجائحة بتسليط الضوء على بُناه الإجتماعية والإقتصادية. في تونس، عرّى الوباء مواطن الخلل في المنظومة السياسية والخيارات الإقتصادية والتنموية لدولة ما بعد الاستقلال، بعد أن وضعتها على محكّ امتحان حقيقي يختبر قدرة الدولة على حماية مواطنيها على امتداد مجالها الجغرافي.

في هذا الحوار مع الباحث في العلوم السياسية والاجتماعية، حمزة المؤدب[1]، تحاول “المفكرة القانونية” المشاركة في طرح الأسئلة الكبرى التي تخامر عالم ما بعد الجائحة، باحثين في هذا النقاش عن بعض أجوبة هذا الامتحان.

المفكرة القانونية: أقرّت الحكومة جملة من الإجراءات المالية والإقتصادية، فهل ستكون كافية للحد من الارتدادات الإقتصادية والإجتماعية المنتظرة؟ وما هي حدودها؟

حمزة المؤدب: الإجراءات التي وقع إقرارها من طرف الحكومة إلى حد الآن هي إجراءات للتخفيف من حدّة الأزمة على القطاع الخاص بالأساس والطبقات المتوسطة والفقيرة، وليس لإدارة الإرتدادات الإجتماعية والإقتصادية للأزمة. إذ من الواضح جدا أن هذه الحكومة ورثت تركة مالية واقتصادية صعبة جدا من الحكومات التي سبقتها وهذا ما أقر به وزير المالية بشكل صريح. بل إن الميزانية الحالية لا تعكس حقيقة الوضع. فالعجز في الموازنة الحالية لا يأخذ بعين الاعتبار ثلاثة نقاط أساسية وهي عجز الشركات العمومية والتزامات الدولة غير المبوبة في الميزانية، إضافة إلى المصاريف المتأخرة لسنة 2019 .

إذن ستكون النتيجة تجميد أي نفقات موجهة إلى التنمية. فجزء هام من الموارد التي تم تعبئتها يتأتى عن طريق القرض الاستعجالي من صندوق النقد الدولي المقدّر ب 750 مليون دولار، والذي سيُحوّل جزء هام منه لتغطية نفقات مجابهة جائحة كورونا، إضافة إلى الدعم القادم من البنك المركزي وذلك لضمان توفير المساعدات المالية الموجهة إلى العائلات المعوزة.

وهنا أود أن أشير إلى ثلاث ملاحظات رئيسية بخصوص الإجراءات الحكومية: الأولى تتعلق بالطبقات الضعيفة. فالمساعدات المالية التي تم تخصيصها لهذه الفئة غير كافية لإعالة نفسها في هذا الظرف الصعب. فنحن نتحدث هنا عن 200 دينار للذين فقدوا مورد رزقهم من العاملين بالأجرة اليومية ومن غير الواضح حتى الآن هل ستكون الإعانة لمدة شهر واحد فقط أم هل هي قابلة للتجديد، إضافة إلى زيادة بـ 50 دينارا للعائلات المعوزة التي تتقاضى 180 دينارا شهريا من الدولة. في الحقيقة، هذه المبالغ لا تأخذ بعين الاعتبار الظرف الاقتصادي الذي نعيشه منذ سنوات، والمتّسم أساسا بالارتفاع المطّرد لنسبة التضخم خصوصا خلال هذه الأزمة، والذي تطور بين شهري فيفري ومارس 2020 من 5.8% إلى 6.2%، إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية من 3.7% إلى 5.1% خلال نفس الفترة بحسب بيانات البنك المركزي التونسي.

الملاحظة الثانية تتعلق بالتخبّط الكلي لإدارات الدولة في علاقة بجمع بيانات حقيقية حول السكان وحول الحاجيات المادية والوضع المعيشي للمواطنين. فقد اكتشفنا حالة من فوضى الأرقام وتشظي قواعد البيانات داخل أجهزة ووزارات الدولة. وقد اتّضح عدم قدرة المؤسسات الحكومية على تحديد الأشخاص الذين لهم الحق في الإنتفاع من هذه المساعدات بشكل دقيق. كما لاحظنا عجزا في إدارة عمليات صرف تلك المساعدات وما خلفه ذلك من مشاهد مؤسفة كالإكتظاظ أمام مراكز البريد وما يمثله ذلك من مخاطر صحية على المحتشدين وعلى مجهودات محاصرة تفشي الوباء. ولكن الإكتشاف الأهم كان أن الدولة لا تملك السجلات الكاملة لسكانها بل وبعضهم غير مسجل أصلا في الصناديق الاجتماعية، على غرار العاملين في القطاع غير الرسمي، ونحن نتحدث هنا عن مليون مواطن ومواطنة تقريبا لا تملك الدولة بيانات حقيقية حول وضعهم المعيشي. هذا القصور هو ما أدى في نهاية المطاف إلى الإستعانة بالعُمد، وتكليفهم بتوزيع إستمارات يقع ملؤها من قبل العائلات المعوزة وطالبي الإعانات. وهذا دليل على تأخر كبير في إنشاء قاعدة بيانات موسعة حول الوضع المعيشي والإجتماعي والإقتصادي للسكان.

ورغم الحديث منذ سنوات عن اعتماد آلية المعرف الوحيد للربط بين مختلف قواعد البيانات القطاعية وتوحيدها بهدف تشكيل صورة كاملة عن كل المعطيات المتعلقة بخاصيات الأسر التونسية وتركيبتها ومداخيلها، وبعد العمل على هذه المنظومة من قبل وزارة الداخلية ووزارة تكنولوجيا الإتصالات، وقعت إشكاليات كبيرة على مستوى حماية المعطيات الشخصية والأمن القومي. ولكن أثبتت هذه الأزمة أن المعرف الوحيد صار ضرورة ملحّة، حتى في علاقة بالإصلاحات المؤجلة التي يجب على هذه الحكومة أو من تعقبها أن تقدم عليها، على غرار إصلاح صناديق الدعم ليصبح موجها بالفعل إلى مستحقيه. كما لا يمكن أن يتم أي إصلاح جبائي إلا عبر إنتاج بيانات حقيقية عن طريق معرف وحيد يقدم قاعدة بيانات محيّنة حول السكان وظروفهم ونشاطاتهم، وهو المفتاح أيضا لإدارة إصلاحات مهمة حتى خارج إطار الأزمة.

الملاحظة الثالثة تتعلق بالإجراءات المتخذة للتخفيف من الإنعكاسات الآنيّة على شركات القطاع الخاص. فأكثر من ثلثي المؤسسات الخاصة في تونس هي من الشركات الصغرى والمتوسطة، التي وإن كانت من أكبر المشغلين على المستوى الوطني فإنّ قدرتها على تحمّل آثار الحجر الصحيّ العامّ محدودة ولا تستطيع أن تحافظ على استمراريتها إذا ما توقفت نشاطاتها أو تقلصت بهذا الحجم. إذن فإن هناك اليوم حاجة ماسة إلى مساعدة هذه الشركات وتمكينها من استيعاب الخسائر المتراكمة. كما أنه من الضروري تحديد القطاعات ذات الأولوية والأكثر حاجة للدعم نظرا للإرتدادات السلبية المنتظرة على الصعيد الإقتصادي في مرحلة ما بعد تجاوز الأزمة الصحية.

المفكرة القانونية: تمت تعبئة موارد ضخمة وغير مبرمجة لمواجهة هذا الظرف؟ كيف ستلبّي الحكومة هذه الإحتياجات المالية؟ وهل هناك خيارات أخرى متاحة غير مزيد من التداين الداخلي والخارجي؟

حمزة المؤدب: هناك طبعا خيارات أخرى، ولكن دعني بداية أشير إلى نقطة مهمة، إذ لا يوجد علاج لفيروس كورونا خلال هذه المرحلة سوى بالتضامن لإدارة الآثار الإجتماعية والإقتصادية لهذه الأزمة، ولكن ليس كما تم به الأمر في تونس بالهرولة إلى خطاب التسول عبر “التيليتون” في مشهد ذكرنا بصندوق 26/26 والتضامن القائم على الإستجداء واعتصار جيوب الطبقة الوسطى أو عطف ومنة أصحاب الثروات. ففي دولة ديمقراطية، ينبغي إيجاد آليات حقيقية لإعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع وعلاقة الأفراد فيما بينهم والضريبة هنا تتنزل ضمن إعادة الثقة. هنا أصل إلى الخيارات المتاحة، وهما خياران أساسيان على الأقل. الأول هي الضريبة على الثروة، إذ أن القيام بإصلاح جبائي حقيقي بات أمرا ضروريا، كونه الأداة الاساسية لبناء علاقة متوازنة بين مختلف مكونات المجتمع تضمن حدّا أدنى من العدالة الاجتماعية، ولتعبئة موارد الدولة لإدارة المجتمع وتلبية حاجياته وهو في النهاية ما سيسمح بإيجاد تضامن مجتمعي حقيقي.

أما الخيار الأساسي الثاني، فهو إقرار ضريبة على العقارات. فقد أصبح جزء هام من هذا القطاع ملاذا لبعض أصحاب الأعمال لتبييض الأموال، ومن المخزي أن لا تملك الدولة اليوم قاعدة بيانات واضحة وكاملة حول ملاّك العقارات، والتي على أساسها يقع إقرار الإتاوات والضرائب على الملكية.

أمامنا اليوم فرصة لإحداث إصلاح جبائي حقيقي بفلسفة تضامن وطني. وهذا ما يمكن أن يفي بالغرض على المدى الطويل لأن الأزمة الصحية زائلة في نهاية الأمر ولكنها ستؤدي بلا ريب إلى أزمة اقتصادية واجتماعية قد تطول. لذلك كلما أسرعت الحكومة في اتخاذ إجراءات في الطريق الصحيح كلما قللنا من آثار هذه الجائحة على الإقتصاد والمجتمع. عموما، هناك خياران أساسيان لتعبئة الموارد: إما الجباية أو التداين. طبعا في الحالة الثانية، فإن الكلفة ستقع على عاتق الطبقات الوسطى والفقيرة لأنه حتما سيقع اعتماد إجراءات تقشفية لإدارة الدين. إعتماد إجراءات جبائية يضمن توزيع الكلفة المالية للأزمة الصحية على الجميع. نحن إذن إزاء خيارات سياسية وليست تقنية. هي خيارات مرتبطة أساسا بأي مجتمع نريد وأي علاقة بين الدولة والمجتمع نريد. هل تونس ما بعد الكورونا ستمضي بنفس الخيارات أم هل سيعاد النظر في منوال التنمية.

المفكرة القانونية: كيف تقرأ خطاب أصحاب المؤسسات حول هذه الأزمة خصوصا بعد ظهور رئيس الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة الذي أبدى امتعاضا من وقف الأنشطة الإقتصادية ومن سياسة الدولة خلال الجائحة نحو القطاع الخاص وإقرار الحجر الصحي العام؟

حمزة المؤدب: بالفعل، أثار هذا الخطاب موجة من الشجب والإستهجان الكبير لدى المتابعين. بل وهناك تنصل حقيقي من المسؤولية المجتمعية ومن واجبهم تجاه البلاد خلال هذا الظرف. لكن الجميع يتحدث فقط عن فترة ما بعد الثورة ويتناسى فترة هامة من التاريخ التونسي خلال العقود الستة التي أعقبت الاستقلال، حيث بُني ما يسمّى الرأسمال الوطني بقروض الدولة ومساعداتها والتسهيلات التي منحتها إياهم على حساب القطاع العام، سواء خلال فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، حين استفادت هذه الشركات بالأرقام والإثباتات من المساعدات السخية للدولة. وقائمة المائة العائلة التي استفادت من القروض البنكية من المصارف العمومية أكبر دليل على هذا.

ولفهم موقف كبار أصحاب الأعمال اليوم، ينبغي تفكيك علاقاتهم بالسلطة قبل الثورة وبعدها. قبل 14 جانفي 2011، كان هؤلاء تحت السيطرة السياسية للسلطة، حيث أن حماية استثماراتهم وأموالهم كانت رهينة لإيجاد مداخل للتقرب والتزلف للنظام. إذ كانت القاعدة العامة هي الإحتماء من السلطة بالسلطة.

أما بعد 2011، فقد تغيرت المعادلة. فالديمقراطية فسحت المجال أمام كبار أصحاب الأعمال للتحرر من هذه العلاقة غير السويّة وتغيير المواقع.  ويظهر ذلك من خلال تمويل أصحاب الأعمال لعدد كبير من السياسيين وأحزابهم والتكفل بمصاريف الحملات الإنتخابية. وبالتالي أصبحت السلطة رهينة رأس المال. كما أن كبار أصحاب الأعمال عززوا موقعهم ضمن المنظومة التشريعية، بحيازة 12% من المقاعد بعد انتخابات سنة 2014، بل وحرصوا على التواجد في لجنة المالية. ومرّوا بذلك إلى مرحلة ثانية وهي مرحلة الإنقضاض على الدولة وصياغة القوانين.

هذا التغيير في المعادلة أوجد نوعا من عدم التوازن خاصة مع ضعف مصداقية الطبقة السياسية في نظر الرأي العام وارتباط ديمومة الأحزاب بالتمويلات المالية في ظل غياب حافز فكري أو إيديولوجي، مما جعل قدرتهم على بناء علاقة ندية ومتوازنة مع أصحاب الأعمال فرضية معدومة. إذن، مجمل هذه المعطيات تفسر في نهاية الأمر الأسلوب الذي يتعامل به كبار أصحاب الأعمال مع السلطة الحالية كفئة خارج الإطار العام الذي تفرضه الدولة.

المفكرة القانونية: وباء كورونا أعاد طرح قضية الدولة الراعية، وحدود الطرح النيو-ليبرالي حول انكفاء الدولة والإنسحاب من دورها التعديلي في مختلف المجالات إلى مربع الأمن وتسهيل الإطار القانوني وتهيئة البنى التحتية لصالح القطاع الخاص. كيف تقيمون هذا الجدل؟ وهل أعدنا فعلا اكتشاف أهمية حضور الدولة كفاعل اقتصادي ودورها الإجتماعي؟

حمزة المؤدب: لم يقع اكتشاف أهمية وجود الدولة، بقدر ما وقع اكتشاف الضرر الذي أوجده إنكفاء الدولة واكتفاؤها ببعض المجالات وتخلّيها عن الدور الإجتماعي والإقتصادي الذي لعبته منذ عقود. وهذا ما كانت تعاني منه الطبقة الفقيرة والمتوسطة، في مختلف احتياجاتها، في قطاعات عدة. فالأزمة عرّت الفرق الرهيب بين السواحل والدواخل في علاقة بأسرّة الإنعاش التي تنعدم في أغلب المحافظات الداخلية في الوقت الذي تعلن فيه المصحات الخاصة أنها لن تقدم خدماتها مجانا خلال الأزمة بل بأسعار تصل إلى 3000 دينار يوميا على أقل تقدير. كورونا سلطت الضوء أيضا على مشاكل قطاع التعليم العمومي وعجز الدولة على ضمان الحد الأدنى من جودة التعليم في مؤسساتها، إضافة إلى عدم تكافؤ الفرص بعد تعليق الدروس في الانتفاع بآليات التعليم عن بعد، في مقابل قطاع خاص ازدهر واستطاع أن يجذب جزءاً مهما من التونسيين الذين فقدوا ثقتهم في المؤسسات التعليمية العمومية. أزمة كورونا سلطت الضوء أيضا على التخلف الرقمي الذي تعاني منه البلاد حيث نسبة الربط بشبكة الإنترنيت سريعة التدفق (ADSL) لا تتجاوز 35% من العائلات مع وجود تفاوت بين الجهات وهو ما أثر على إمكانية اعتماد آلية التعلم عن بعد. حتى في الشأن الاجتماعي، لاحظنا عجز مؤسسات الدولة عن تحديد حاجيات الناس والفئات الاجتماعية التي تستحق الدعم بشكل دقيق. إذن، من المهم جدا إعادة التفكير في أهمية دور الدولة خصوصا في القطاعات الاستراتيجية لأنها تمثل في نهاية الأمر الملجأ الوحيد لضعفاء الحال وحتى للطبقة المتوسطة.

ربما كان من الضروري أن يفتح هذا الجدل قبل الأزمة الراهنة، إذ لا يمكن أن نتحدث عن إنتقال ديمقراطي من دون تدخّل الدولة فعليا في القطاع الإقتصادي والإجتماعي. ويحسب لهذا الفيروس أنه لفت انتباه الجميع إلى أن إعادة النظر في دور الدولة لم يعد شيئا يمكن تأجيله.

المفكرة القانونية: كيف عرّى وباء كورونا واقع قطاع الصحية العمومية؟

حمزة المؤدب: إن أبرز ملاحظة تتعلق بنقائص قطاع الصحة العمومية هي حجم اللامساواة في النفاذ إلى الخدمات الصحية بالنسبة لعدد كبير من السكان. فقد اكتشفنا بسبب هذه الجائحة كما ذكرت سابقا أن عددا هاما من الولايات اليوم تفتقر إلى أسرّة الإنعاش، وهو ما يمكن اعتباره فضيحة بعد 10 سنوات من الثورة.

هذا الواقع أثبت أن خط الإنقسام الجهوي يتقاطع مع خط الحيف الصحي. فمسألة التفاوت التنموي بين الجهات تتعلق أساسا بغياب آليات عادلة لتوزيع الثروة. اذ بحكم التراكمات التي أنتجتها السياسات التنموية خلال العقود الفارطة، تركز إنتاج الثورة في المناطق الساحلية بحكم قرب هذه المناطق من منافذ التصدير البحري والجوي في منظومة اقتصادية موجهة للخارج extroverted economy. ولكن كان من المفروض أن تلعب الدولة دورا في إعادة تقسيم وتوزيع هذه الثروة بضمان حد أدنى من الرعاية الصحية للمناطق الداخلية.

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بسياسة خوصصة قطاع الصحة. فقد كان من أكثر القطاعات التي تم فتحها أمام الإستثمار الخاص، حتى صار جزء كبير من مصاريف الطبقة الوسطى موجها إلى نفقات العلاج في المصحات أو عن طريق أطباء الاختصاص. ولم يعد يلجأ إلى المرفق الصحي العمومي سوى الطبقات الفقيرة والمعدمة. لقد حدث تدمير ممنهج لقطاع الصحة العمومية عبر حرمانه من الموارد والمعدات وتفقيره من أبسط الضروريات التي تضمن تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية. وما الحجر الصحي العام والتشديد في إجراءاته سوى محاولة لتخفيف الضغط عن المؤسسات الصحية العمومية وتغطية ضعفها على التعامل مع الأزمة ومواجهتها. فتونس مستعدة لإيقاف عجلة الإقتصاد قدر الإمكان لأن المستشفيات العمومية غير قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من المرضى. لنجد أنفسنا اليوم ندفع ضريبة هذا الضعف الفادح لا من صحة الناس فحسب، ولكن من دخلهم ومعاشهم.

المفكرة القانونية: ما هي آثار هذه الأزمة على الصعيد الإجتماعي على المستوى الراهن وفي المستقبل؟

حمزة المؤدب: الأزمة كشفت أشياء إيجابية وأخرى سلبية، إذ نشأ مد تضامني حقيقي بين المواطنين تمظهر في تحركات الجمعيات والمبادرات الأهلية لتجميع المساعدات المالية والعينية للفقراء وللمستشفيات. ففي مثل هذه الفترات الحرجة، يمكن للنسيج الإجتماعي أن يخلق آلياته الخاصة لتخفيف الأزمة وربما إعادة ربط بعضه البعض. ولكن لا يمكن أن نغضّ الطرف عن بعض المظاهر السلبية المتمثلة في حجم الأنانية والنعرات الجهوية التي تجلّت في أكثر من مناسبة على غرار رفض دفن ضحايا هذا الوباء في بعض المقابر، أو رفض بعض السكان إيواء المصابين في النزل القريبة منهم كما حدث في منطقة في شط مريم. فخلال الأزمات، وكما تُظهر المجتمعات أفضل ما فيها فإنها تكشف عن أسوأ ما فيها كذلك.

أما مرحلة ما بعد الأزمة، فمن المنتظر أننا سنمرّ بأزمة اقتصادية حادّة. وهو ما تؤكده تقديرات الخبراء وبيانات البنك المركزي التونسي، خصوصا وأن العالم مقبل على مرحلة من الكساد الإقتصادي الذي ستكون آثاره أقسى على الدول النامية كتونس المرتبطة بشكل كبير بأوروبا خصوصا دول جنوب أوروبا كفرنسا وإيطاليا. بدون تأكيد قيم التضامن واعتماد سياسات عادلة ومنصفة لإدارة ما بعد الأزمة الصحية، سيزداد الفقر، وسيزداد خوف الناس وتوجسهم من المستقبل، مما سيؤدي قطعا إلى انفجارات اجتماعية وسنوات صعبة ستؤثر على الإستقرار السياسي والإقتصادي.

المفكرة القانونية: في الختام؛ ما هو الدرس الأبرز الذي يمكن استخلاصه من هذه الأزمة؟

حمزة المؤدب: إضافة إلى ما تحدثنا عنه سابقا من أن هذه الأزمة نبهتنا إلى ضرورة إعادة النظر في دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وأهمية حضورها الفاعل في القطاعات الإستراتيجية على غرار الصحة والتعليم، فإن الدرس الأهم الذي يجب استخلاصه هو ضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد. فبعد الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، كان التركيز الأكبر على تجنب أخطاء أزمة الثلاثينات وما خلقته من ضيم تجاه الفئات الإجتماعية المهمشة أو المضطهدة عبر تعزيز الحقوق الإقتصادية والإجتماعية لهذه الطبقات. الأزمات بما تمثله من امتحان كبير لإرادة الأمم، فإنها تمنح المجتمعات والأنظمة السياسية فرصة لإعادة صياغة العلاقات بين الدولة ومواطنيها من جهة وبين أفراد المجتمع فيما بينهم.

  • نشر هذا المقال في الملحق الخاص بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة الملحق اضغطوا على الرابط أدناه:

الكورونا غزوة مرعبة بأسئلة كثيرة


[1] حمزة المؤدّب: باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، وانعدام الأمن على الحدود في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كما أنه أستاذ مساعد في جامعة جنوب المتوسط في تونس العاصمة. قبل ذلك، كان المؤدّب باحث في برنامج اتجاهات الشرق الأوسط في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، إيطاليا وباحثاً زائراً في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية من أيلول/سبتمبر حتى كانون الأول/ديسمبر 2016، وزميل جان موني في معهد الجامعة الأوروبية بين العاميْن 2013 و2015، حيث تركّزت أبحاثه على الانتقال السياسي وعدم المساواة في تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني