الاعتداءات الإسرائيليّة تحرم صيّادي الناقورة من البحر وتضيّق على صيادي صور 


2024-02-02    |   

الاعتداءات الإسرائيليّة تحرم صيّادي الناقورة من البحر وتضيّق على صيادي صور 
مراكب تنتظر صيّاديها

“لم يكن ينقصنا إلّا أن نتوقف كليًّا عن العمل بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة في الجنوب، نحن نعيش بالحد الأدنى بلا دعم ولا طبابة، وحتى من أصيب منّا خلال الاعتداءات لم يُعالج على حساب أي وزارة” يقول أحد صيادي الأسماك في ميناء الناقورة. والميناء متوقّفة عن العمل منذ أكثر من ثلاثة أشهر بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة التي تطال القرى الحدوديّة والتي جعلت وصول الصيّاد إلى مركبه شبه مستحيل، ما جعل أكثر من 100 عائلة تفقد مصدر رزقها الأساسي أو الوحيد.

“مراكبنا متروكة وقد تتعرّض للغرق وسعر المركب يبدأ من 4 آلاف دولار، من سيعوّض علينا؟” يسأل صيّاد آخر، مذكّرًا أنّه خلال حرب تموز 2006 لم تتجاوز قيمة التعويضات 400 دولار للصيّاد بينما كانت الخسائر التي امتدت لحوالي 3 أشهر تُقدّر بآلاف الدولارات.

ليس صيادو الناقورة وحدهم الذين يعانون حاليًا بسبب الاعتداءات المستمرة على جنوب لبنان وإن كانت معاناتهم أكبر، إذ إنّ التأثير طاول أيضًا ميناء صور تمامًا كما صيادي الصرفند (يصطاد معظمهم في الناقورة). ففي حين توقّف العمل كليًا في مرفأ الناقورة الذي يشغّل 37 مركبًا من المنطقة فضلًا عن عشرات الصيادين الذين يأتون من مناطق أخرى، يعمل ميناء صور (400 صيّاد)  بقدرة تشغيليّة أقلّ قد تصل إلى النصف. صحيح أنّ وصول صيادي صور إلى الميناء آمن كون المدينة بعيدة نسبيًّا عن مرمى الاستهداف الإسرائيلي إلّا أنّ هذه الاعتداءات التي يُسمع صداها في صور شلّت الحركة في المطاعم والمسامك ما يصعّب على الصيادين تصريف رزقهم ما دفعهم بالتالي إلى تقليل ساعات عملهم واضطرّهم إلى بيع سمكهم بأسعار أقلّ.

ويشير تحليل اجتماعي-اقتصادي لأسطول صيد الأسماك اللبناني نشرته منظمة الأغذية والزراعة (فاو) العام 2013، والتي لم تتغيّر نتائجه كثيرًا بحسب معنيين في وزارة الزراعة تواصلت معه “المفكرة القانونية”، يُقدّر مدخول الصياد مالك الزورق بـ 7400 دولارًا سنويًا، فيما يقدّر دخل الصيّاد الذي لا يملك مركبًا بـ 3000 دولار. وهذا يعني بحسب الدراسة نفسها أنّ الصيّادين يجنون 25% أقل من الحد الأدنى للأجور ما يجعلهم  ضمن الشريحة الوسطى الأدنى (صياد مالك زورق) والشريحة الدنيا (صياد لا يملك مركبًا)، وبالتالي يعتبرون جزءًا من القسم الأكثر فقرًا في المجتمع اللبناني. يشار إلى أنّ الحد الأدنى لسعر المركب كما حدّده الصيّاد يُساوي أكثر من نصف مدخوله السنوي إذا كان مالك مركب، وحوالي ضعفي مدخوله السنوي إذا كان لا يملك مركبًا. 

وتعتاش حوالي 4000 عائلة من الصيد على طول الساحل اللبناني، 15 إلى 20% منهم في الساحل الجنوبي حيث يوجد 5 موانئ صيد (صيدا، خيزران، الصرفند، صور، الناقورة) جميعها يعمل حاليًا ما عدا الناقورة مع تراجع العمل في صور وتأثر وضع الصيادين الذين يخرجون من هذه الموانئ للعمل في الناقورة. ومشاكل الصيادين وقطاع الصيد بشكل عام ولاسيّما جنوبًا لم تبدأ منذ ثلاثة أشهر بل إنّ الاعتداءات جعلتها أصعب وأكثر وطأة، بحسب ما يكرّر من التقيناهم من الصيادين. ويتحدث هؤلاء عن استيراد غير مدروس وعن صيد جائر وغياب الحماية الاجتماعية للصيّاد، وعن سطوة لبعض المسامك وكلفة عالية للإنتاج مقارنة بالدخل. ولخّص أحد الصيّادين القدامى الوضع بالقول “نحن قطاع متروك، قوانيننا بالية، لا حماية لنا، إذا بقينا على هذا الحال لن يبقى قطاع صيد في لبنان، هذا القطاع يتوارث في العائلة والجيل الجديد لن يعمل في الصيد ما دام لا يؤمّن الحياة الكريمة له، وبالتالي سيخسر لبنان قطاعًا منتجًا”.

ما يقوله هذا الصيّاد أيضًا تحدّثت عنه دراسة لوزارة الزراعة التي بيّنت أنّ السلامة غائبة عمليًا عن معظم المراكب وأنّ أكثر من نصف الصيادين يطالبون بالرعاية الاجتماعية والطبية وإعادة تأهيل الموانئ وتحديث القوانين وأكثر من ثلثهم طالب بمساعدات أو منح.   

ويعتمد سوق الأسماك والمأكولات البحرية في لبنان بشكل أساسي على الاستيراد (90%) مع نسبة متدنية من الإنتاج المحلي للتصدير، ولكن بحسب المنظمات المعنيّة هناك إمكانات جيدة لزيادة الإنتاج للسوق المحلي. ويُشار هنا إلى أنّه ووفقًا للبنك الدولي، بلغ إجمالي إنتاج الأسماك في لبنان 3728 طنًا متريًا في العام 2020، وبلغت الإيرادات في قطاع الأسماك والمأكولات البحرية 377.40 مليون دولار أميركي في عام 2023 .

مراكب الناقورة متوقفة بسبب العدوان الإسرائيلي

ميناء الناقورة فارغة وأكثر من 100 عائلة تفقد مصدر رزقها

“حركة الصيد متوقفة هنا في الناقورة” يقول رضا بوّاب نائب نقيب صيادي الأسماك في ساحل لبنان الجنوبي، مضيفًا: “صيادو الناقورة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، أي بعد أيام قليلة من بدء الاعتداءات الإسرائيليّة جنوبًا، لم يخرجوا إلى البحر، حياتهم باتت في خطر، ورزقهم توفّف بطبيعة الحال”.

ويلفت بوّاب إلى أنّه في ميناء الناقورة هناك 37 مركبًا معظم أصحابها يعتاشون من الصيد فقط فضلًا عن عشرات الصيادين الذين يأتون من صور مثلًا “حيث الرزقة خفيفة جدًا”. ويوضح أنّه عادة ما يكون على المركب أكثر من صيّاد ما يعني أنّ أكثر من مئة صيّاد متوقّف عن العمل حاليًا ولا يملك أي مصدر رزق آخر. وبالتالي هناك أكثر من 100 عائلة فقدت مصدر رزقها الوحيد. “كان يخرج يوميًا من ميناء الناقورة 20 مركبًا، اليوم بالكاد يخرج مركب أو اثنان، أصحابها يخاطرون بحياتهم طلبًا للرزق”، يقول.

مخاوف الصيّادين لا ترتبط مباشرة بالإبحار فلم تستهدف إسرائيل خلال الاعتداءات الأخيرة مراكب الصيد، إنّما الخطر يكمن بالوصول إلى البحر: “معظم الصيادين هنا يعيشون في قرى حدوديّة قريبة من الناقورة، 90% منهم يعملون ليلًا، والتنقّل ليلًا في القرى الحدوديّة يعني الانتحار، ولاسيّما أنّ معظمهم يتنقّل برابيد أو درّاجة ناريّة، فمن بقي في منزله في القرى القريبة من الناقورة لا يستطيع الوصول تمامًا كمن نزح”.

ما يقوله بوّاب يتحدّث عنه أيضًا الصيّاد أحمد فايز سليم الذي اعتاد أن يذهب من الصرفند إلى الناقورة بهدف الصيد، وهو من عائلة تتوارث الصيد أبًا عن جد: “نحن في اليوم التالي لبدء العدوان على غزة، بدأ يصعب علينا العمل، الطريق محفوفة بالمخاطر. كنت أطلع أبعد 90 مترًا عن الحدود، وبعد الاعتداءات طلب منّا الجيش أن نبعد 3 كيلومترات، وهذا يعني قلّة الرزق، فجنب الحدود الرزق الأكبر، هذا طبعًا إذا استطعنا الخروج، أنا مثلًا لم أخرج للصيد منذ شهر تقريبًا” يقول.

ويتحدّث سليم أيضًا عن صعوبة تفقّد المراكب في الميناء والاهتمام بها ما قد يُؤدّي إلى غرقها: “خسائرنا لا تتعلّق فقط بتوقّف العمل إنما باحتمال غرق مراكبنا، سعر مركب الصيد يتراوح بين 4 و15 آلاف دولار، وغرقه يعني كارثة فعليّة للصيّاد”.

صحيح أنّ إسرائيل لم تستهدف مراكب الصيّادين مؤخرًا إلّا منهم من أصيب خلال اعتداءات إسرائيليّة على قريته، فوجد نفسه وحده نازحًا عاطلًا عن العمل ولا يملك كلفة العلاج، تمامًا كما الصيّاد أحمد عطوي الذي أصيب خلال استهداف إسرائيلي طال منزله في الناقورة وكان بداخله.

يروي عطوي لـ “المفكرة” أنّه منذ 20 يومًا تقريبًا وهو يلازم فراشه بسبب إصابته في رجله، مشيرًا إلى أنّه خضع لعلاج كلّفه 4 آلاف دولار، إذ اضطر أن يضع أسياخًا في رجله، وأنّ أيّ وزارة لم تتكفّل بعلاجه. “لم أتعالج على حساب الوزارة، صندوق التعاضد غطّى قسمًا طبعًا ولكن لا يزال على دولار 1500”.

اضطّر عطوي بعد تدمير منزله للنزوح عند عمّته في صور وهو الذي بقي حتّى اللحظة الأخيرة قبل إصابته ينزل للصيد في الناقورة ولو لساعات قليلة: “قبل بداية الاعتداءات الإسرائيليّة جنوبًا، كنت أخرج يوميًا للصيد من السادسة صباحًا حتى  الظهر، مع بداية العدوان كنت أنزل ساعة منهربا هريبة، ولكنّ كنت لا أزال أعمل لولا إصابتي”، يقول. 

الصياد فايز سليم على متن قاربه في الناقورة
مركب غارق في ميناء الناقورة لعدم تمكّن صاحبه من تفقّده

 صيادو صور يبحثون عن تصريف الرزق 

المشهد أقلّ مأساوية في صور فالصيّادون مستمرّون في العمل، ولكن بوتيرة أقلّ. “كنت أخرج من الرابعة صباحًا حتى العاشرة وأبحر بعيدًا، أمّا اليوم فبتّ أخرج أقل ولا أبتعد، أعرف أنّ القذائف بعيدة ولكنّني لا أشعر بالأمان، أوّل ما يبدأ القصف على القرى الحدوديّة أعود” يقول أحد الصيادين الذين التقيناهم في ميناء صور. ويضيف أنّ مشاهدة النيران المتصاعدة من بعض القرى تشعر الصياد بالخوف وهو وسط البحر، فضلًا عن مسيّرات الاستطلاع “أم كا” التي تحلّق في السماء طوال الوقت ما يزيد شعور عدم الطمأنينة.

عدم الشعور بالأمان ليس السبب الوحيد الذي يؤثّر على صيادي صور، إذ إنّ تراجع الطلب على السمك هو العامل الأهم، فالمسامك والمطاعم لا تأخذ السمك وإن أخذته  فبأسعار متدنّية. “أوّل العدوان أقفلت المسامك كلّها في صور 15 يومًا تقريبًا، بعدها عادت لتأخذ السمك بنصف القيمة أو أكثر بقليل بحجّة أنّهم غير قادرين على تصريفه، ولا يوجد مزاد في صور إذ حالت السياسة والمصالح دون إكمال العمل عليه، والاعتداءات الإسرائليّة تسبّبت بتراجع روّاد المدينة” يقول صياد آخر. ويشرح أنّ الحياة بالنسبة لأهل صور شبه طبيعيّة و”لكن الإجر من الخارج تراجعت، فحتى في نهاية العام والشهر الأوّل منه أي موسم الأعياد لم تكن حركة المطاعم والمسامك كما كانت في السابق، الحركة من خارج المدينة شبه منعدمة، المغتربون والسياح لم يقصدوا صور، بعض الفنادق مثلا مقفلة، الاعتداءات شلّت البلد فكيف بمدينة جنوبيّة”.

هذا المشهد يلخّصه سامي رزق نائب نقيب صيادي الأسماك في صور، الذي يقول لـ “المفكرة” إنّ “هناك 10 مسامك في صور لا تشتري السمك من الصيادين مثل ما كانت تفعل من قبل، الحركة بصور ضعيفة المطاعم ما عادت تفتح، شغلنا تراجع 50%”. ويُضيف رزق: “طلعة الصيّاد قد تكلّفه مليون و400 ألف بين شبك ومازوت، والرزق خفيف، والمسامك تتحجّج بالوضع”.

يعمل في ميناء صور، وحسب رزق، حوالي 400 صياد يعتاشون من الصيد بشكل أساسي، وبالعادة يخرج يوميًا أكثر من 200 مركب أمّا حاليًا فالمراكب التي تخرج أقل بكثير “الـ أم كا فوقنا، وإجر ما في عالمدينة، وبيع قليل”، يقول.

جولة صغيرة في سوق صور وعلى المسامك والمطاعم القريبة من الميناء تؤكّد ما يتحدث عنه صيادو المدينة، فالمطاعم شبه فارغة والحركة في السوق ضعيفة. “صحيح العواصف تؤثّر على الحركة، ولكنّ السبب الأساسي هو خوف الناس، فقليلون الذين يقصدون السوق من خارج المدينة أو القرى المجاورة، الحركة خفيفة وعندما يشتدّ القصف في القرى الحدوديّة والتي نسمع صداه هنا نلاحظ أنّ السوق أصبح شبه فارغ” يقول عامل في أحد المطاعم في المدينة.

الأمر نفسه يتحدّث عنه صاحب إحدى المسامك، يُشير إلى السمك في برّاده ويقول: “المبيع تراجع 50%، فاضطررنا إلى خفض أسعارنا إلى النصف، عندما يخف الطلب تنخفض الأسعار، العالم عم تخاف تجي، بطبيعة الحال لا نشتري الكميّات التي كنّا نشتريها من الصيادين”.

يُشار إلى أنّه مع إقفال المسامك في الناقورة يعمد من لا يزال يعمل في ميناء المنطقة إلى بيع سمكه في مسامك قرى قريبة مثل القليلة والمنصوري أو في صور والصرفند وصيدا وحتى في الكارنتينا “ولكنّ السوق لا تتّسع لصيادين من خارجها، الأمر ليس بهذه السهولة عدا كلفة النقل طبعًا” يقول أحد الصيادين.

صيادون يجهّزون مركبهم في ميناء صور

متروكون في الحرب كما في السلم

لا يأمل الصيادون خيرًا من الدولة فهي التي بالكاد عوّضت عليهم بعد حرب تموز 2006 لن تكترث لأمرهم اليوم “وقت حرب تموز توقف عملنا 34 يومًا، وبعدها منعونا من الصيد شهر ونصف الشهر ليعودوا ويعوّضوا علينا بـ 400 دولار، وكانت خسائرنا تقدّر بالآلاف، اليوم ربما لا يرون خسائر هذه الفئة” يقول رزق.

كما أنّ هذه الدولة التي لم تسأل عنهم، حسب ما يكرّر أكثر من صيّاد، أيام السلم لن تفعل أيام الحرب “نحن متروكون لا أحد يسأل عنا. السوق مفتوحة للاستيراد وسمكتنا ليست أولويّة، دولار صندوق التعاضد على 1500، سعر المازوت مرتفع جدًا، تغيّر مناخي يؤثّر على أنواع السمك، الصيد الجائر، وكلّ هذا ووزارتا الزراعة والنقل غائبتان” يقول صيّاد.

لا ينكر الصيّادون أنّ مهنتهم لا تزال توفّر لمعظمهم الحد الأدنى للعيش الكريم ولكنّ ذلك بمجهود فردي ومساعدة بعض المتموّلين “من كم يوم أحد المتمولين تبرّع بمازوت للمراكب، بعض الصيادين لا يستطيعون العمل في ظل ارتفاع أسعار المحروقات وتراجع المبيعات، صحيح أنّ الاعتداءات الإسرائيليّة أثرت على وضعنا ولكن مشاكل القطاع وإهمال الدولة قديم جدًا” يقول أحد الصياّدين.

مسمكة مقفلة في ميناء صور
انشر المقال

متوفر من خلال:

حقوق المستهلك ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني