الاستبداد في إدارة جلسات مجلس النوّاب: جلسة مناقشة الموازنة نموذجًا


2024-01-26    |   

الاستبداد في إدارة جلسات مجلس النوّاب: جلسة مناقشة الموازنة نموذجًا
رسم رائد شرف

سمح نقل مناقشات مجلس النواب لمشروع قانون الموازنة عبر وسائل الإعلام رصد الكيفية الفعلية التي تتمّ بها إدارة هذه الجلسات التي من المفترض أن تعبر عن الطبيعة الديمقراطية للحياة النيابية القائمة على تعدد الآراء والنقاش العلني والشفاف الذي يسمح بالدفاع عن الصالح العام. لكن جلسة 24 كانون الثاني المنصرم شهدت مجموعة من الممارسات لرئيس مجلس النواب نبيه بري والتي لا تنسجم إطلاقا ليس فقط مع مبادئ الديمقراطية التمثيلية لكن أيضا مع النظام الداخلي لمجلس النواب نفسه. لذلك كان لا بد من تفنيد تلك الممارسات التي تضاف إلى الاعتباطية المتفاقمة التي تتّسم بها إدارة رئيس المجلس وبخاصة في السنوات الأخيرة.

مخالفة مبدأ أولوية النظام الداخلي في الكلام

النظام الداخلي هو من المواضيع الاستباقية لدى المذاكرة في الهيئة العامة لمجلس النواب ما يعني أنه يتمتع بالأولوية في النقاش بحيث يتوجب حلّ الإشكاليات التي يطرحها تطبيق النظام الداخلي قبل الدخول في جوهر الموضوع الذي يتم بحثه.

إذ أن مناقشة أيّ موضوع، سواء كان التصويت على قانون أو طرح الثقة بالحكومة أو حتى الانتخاب، يجب أن يتم وفقا للأصول التي يفرضها الدستور والنظام الداخلي، ما يعني أن حلّ الإشكاليات المرتبطة بالمسائل الإجرائية هو متقدم على مباشرة التباحث في مضمون جدول أعمال البرلمان. وقد نصت المادة 69 من النظام الداخلي الحالي على هذا المبدأ إذ أعلنت التالي: “لكل نائب حقّ الأولوية في الكلام مرة واحدة في كل أمر يتعلق بالنظام الداخلي”، أي أن النائب يمكن له أن يثير عفوا مسألة تتعلق بالنظام الداخلي في أي وقت حتى لو لم يكن هو من تقدّم باقتراح القانون أو السؤال إلى الحكومة المزمع مناقشتهما.

وهذا المبدأ الذي يكرسه النظام الداخلي الحالي تمّ تبنيه في أول نظام داخلي عرفه مجلس النواب اللبناني سنة 1930 إذ نصت المادة 84 منه على أنه “يؤذن دائماً بالكلام”من أجل  “لفت النظر إلى مراعاة أحكام النظام الداخلي”، مع التشديد على التالي: “لكل هذه الطلبات أولوية على الموضوع الأصلي ويترتب عليها إيقاف المناقشة في الموضوع حتى يتم الاقتراع عليها”.

إن رسوخ هذا المبدأ وبديهيته في العمل البرلماني يتأكد بتكريسه في كل الأنظمة الداخلية اللاحقة كالمادة 64 من النظام الداخلي لسنة 1953 والمادة 78 من النظام الداخلي لسنة 1982. ويجد هذا المبدأ مصدره في التجربة البرلمانية العريقة خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا (1875-1940) إذ يشير العلامة “أوجين بيار”[1] أن التنبيه لضرورة الرجوع إلى النظام الداخلي هو حقّ لا يمكن رفضه لكل نائب وله الأولوية على الموضوع الرئيسي بحيث يجب فورا تعليق المناقشة وحسم الخلاف مباشرة. ويضيف “أوجين بيار” أن الطلب باحترام الدستور يمكن أن يتخذ شكل التنبيه بضرورة الرجوع إلى النظام الداخلي عندما يتعلق الأمر بمداولات الهيئة العامة للبرلمان.  

وهكذا يتبين أن رفض الرئيس نبيه بري إعطاء الكلام للنائب ملحم خلف الذي أراد التكلم بالنظام وإثارة إشكالية دستورية يشكل مخالفة للنظام الداخلي ومصادرة لحقّ مجلس النواب بحسم الخلاف علاوة على تهديد الطبيعة الديمقراطية للعمل البرلماني عبر تنصيب رئيس المجلس لنفسه كالحكم الوحيد للفصل في إشكاليات تفسير الدستور والنظام الداخلي.

التهديد بالطرد من الجلسة 

لم يقتصر تصرّف رئيس المجلس على مخالفة النظام الداخلي بل هو قرن ذلك بتهديد واضح يقضي بطرد النائب ملحم خلف من الجلسة كونه كان يصرّ على حقه بالكلام. ولا شكّ أن إخراج نائب من مجلس النواب هو أشد عقوبة يمكن انزالها بحقه كونها تؤدي إلى حرمانه من ممارسة دوره الطبيعي الذي انتخب من أجله. فطرد النائب هو أمر بالغ الخطورة كون ذلك يهدد ديمقراطية العمل البرلماني برمته. لذلك تضع الأنظمة الداخلية عادة مجموعة صعبة من الشروط والضوابط قبل إخراج النائب لعل أهمها عدم جواز ذلك إلا بعد موافقة مجلس النواب.

وقد شرحت المفكرة القانونية في ورقة بحثية حول النظام الداخلي في لبنان كيف تطورت النصوص المتعلقة بطرد النائب إذ كان النظام الداخلي لسنة 1930 يشترط الحصول على موافقة الهيئة العامة لمجلس النواب ومن ثم تمّ التخلي عن هذه الموافقة في نظام 1982 الذي اكتفى بضرورة “استشارة” المجلس قبل اتخاذ رئيس المجلس قراره بإخراج النائب. حتى هذه الضمانة الضعيفة تمّ التراجع عنها في النظام الداخلي المعمول به حاليا والذي ينص في الفقرة الأخيرة من المادة 99 أن عقوبة الإخراج يقرّرها رئيس المجلس بعد “استشارة هيئة مكتب المجلس بشأنها”، أي أن رئيس المجلس بات ينفرد فعليا بفرض تلك العقوبة الخطيرة وما عليه سوى استشارة مكتب المجلس من دون أن يأبه برأي المجلس نفسه.

وعلى الرغم من أن المادة 99 لا تشكل رادعا يحول دون اساءة استخدام هذه الصلاحية، لكن رئيس مجلس النواب تصرف من دون حتى أن يوحي أنه يتوجب عليه استشارة مكتب المجلس بل تكلم وكأنه السلطة الوحيدة التي تقرّر من يحقّ له البقاء في الجلسة ومن يمكن إخراجه بقرار أحادي منه. وما يفاقم من خطورة الأمر أن النائب ملحم خلف لم يكن يتمرد على مجلس النواب بل كان يرفض في الحقيقة التفسير الشخصي لرئيس المجلس بمنعه من التكلم في النظام الداخلي، ما يعني أن رئيس المجلس لجأ إلى التهديد بطرد النائب خلف ليس من أجل حماية حرية سائر النواب والحفاظ على النظام داخل البرلمان بل لحماية سلطته الاعتباطية وفرض تفسيره ليس فقط على النائب المعترض بل أيضا على المجلس برمته. فوجود خلاف في تفسير النظام الداخلي بين نائب ما ورئيس المجلس هو أمر ممكن الحدوث، لكن حسم هذا الخلاف لا يمكن أن يعود للرئيس بل للهيئة العامة لمجلس النواب عملا بالطبيعة الجماعية للبرلمان الذي يتخذ قراراته بعد التداول العلني. وهكذا يتبين أن التهديد بإخراج النائب خلف هو موقف سلطوي يهدف إلى تحصين سطوة رئيس المجلس وسيطرته على مجلس النواب.

الشطب الاعتباطي من المحضر

من أخطر الممارسات التي باتت تتكرّر من دون أن يتمّ التنبه لها هو تفرد رئيس مجلس النواب بشطب أقوال النواب من المحضر. فقد قرر الرئيس بري شطب جملة “الدولة بلا شرف” وردت على لسان رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان عند تلاوته لتقرير الموازنة. فبغضّ النظر عن مضمون هذه الجملة ومدى صوابيتها، لا بد من معرفة هل يحقّ لرئيس المجلس شطب استنسابيا أقوال النواب من المحضر لا سيما وأن العديد من النواب قالوا علنا أن هذا حقّ من حقوق الرئيس. 

والأغرب من ذلك أن رئيس المجلس لم يشرح السند القانوني الذي يجيز له شطب هذا الكلام كون النظام الداخلي لا يعطيه هذا الحق إلا في المادة 50 منه التي تنص على أن رئيس المجلس “يأذن بالكلام ويمنعه وفاقاً للنظام ويأمر بتدوين أقوال النواب في المحضر ويحذف أقوال من لم يأذن له منهم” أي أن رئيس المجلس يمكن له حذف أقوال النواب الذين تكلموا دون حصولهم على إذن. لا بل أن الحالات المنصوص عليها في المادة 75[2] من النظام الداخلي التي تجيز لرئيس المجلس منع النائب من متابعة الكلام لا يمكن تفسيرها بأنها خوّلته شطب كلام النواب كونها تمنح الرئيس فقط صلاحية إيقافه عن الكلام وليس شطب ما قيل من المحضر.

وقد استخدم رئيس مجلس هذه “الصلاحية” الاعتباطية سابقا في جلسة 17 تشرين الثاني 2022 عندما سيقوم النائب سامي الجميل مجددا بطرح مسألة النصاب في الدورة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية لكن مع توجيه انتقاد مباشر لرئيس المجلس على جوابه في الجلسة السابقة قائلا له: ” ما حصل في الأسبوع الماضي لا يليق بالمجلس ولا يليق بك دولة الرئيس”، فما كان من رئيس المجلس إلا أن أمر بشطب هذا الكلام من المحضر وسط هتافات من السخط والتهويل أطلقها النواب الذين ينتمون إلى كتلة الرئيس نبيه بري.

وقت الكلام منحة من الرئيس

إن الوقت الممنوح لكل نائب من أجل التعبير عن رأيه هو من المواضيع الجوهرية التي تدخل في صلب النظام الداخلي إذ ان حسن سير العمل البرلماني وجدية النقاشات تتوقف على هذا المعيار. وبالفعل تنص المادة 73 من النظام الداخلي أن مدة الكلام ” في الموازنة ومناقشة البيان الوزاري هي ساعة لكل نائب” وتضيف المادة أنه بصورة خاصة ” تجوز تلاوة الخطابات بإذن الرئيس شرط أن لا تتعدى مدة التلاوة نصف الساعة”. وهكذا يتبين أن مدة الكلام المحددة لكل نائب هي مسألة نظامية لا يحق لرئيس المجلس تعديلها من تلقاء نفسه وهذا ما يظهر بشكل جلي في الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 73 التي تعلن صراحة التالي: ” وفي الحالات الأخرى يحدد رئيس المجلس مدة الكلام لكل نائب وفقاً للضرورة” أي أن الرئيس حرّ بتحديد مدة الكلام فقط في الجلسات التي لا تشير إليها المادة 73 بينما مدة الكلام في جلسة إقرار الموازنة محددة بنص واضح ملزم لرئيس المجلس.

وبغض النظر عن هذا النص المستغرب الذي يسمح للرئيس استنسابيا بتحديد مدة الكلام في مناقشة المواضيع التي لا تذكرها المادة 73، لا بد من الإشارة أن تفرد رئيس المجلس بتعديل مدة كلام النائب كي تصبح ربع أو نصف ساعة هو انتهاك إضافي للنظام الداخلي، وتطور خطير يهدد طبيعة النظام البرلماني القائم برمته على حرية النائب في إبداء رأيه وعلى التداول العلني بين الأفكار المتعارضة كي يتمكن الرأي العام من الاطلاع على حقيقة الإشكاليات التي يدور حولها الشأن العام . وهكذا بدل أن يكون حق النائب بالكلام محصن بنص واضح، بات رهينة مشيئة رئيس المجلس الذي يمنحه كهبة منه ويمنعه وفقا لمزاجه الشخصي.

خلاصة القول، تظهر جلسة مجلس النواب الأخيرة أن رئيس المجلس بات يتمتع بترسانة من الصلاحيات التي لا أساس قانوني لها والتي من شأنها تعزيز سلطته الاستبدادية على الحياة البرلمانية. فمجلس النواب ليس مؤسسة دستورية تعمل وفقا للمبادئ الديمقراطية بل هو أصبح موقعا يدافع فيه رئيس المجلس الحالي عن نفوذه ويستخدمه لإحكام سيطرته على النظام السياسي اللبناني.


[1] « Tout membre a le droit de demander la parole pour un rappel au règlement, et la parole en ce cas ne peut être refusée (…) Les demandes de rappel au règlement ont toujours la préférence sur la question principale ; elles en suspendent la discussion et doivent être vidées toute affaire cessante »  (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, pp.497-498).

[2]  “للرئيس حق منع الخطيب عن متابعة الكلام بدون قرار من المجلس في الحالات التالية :  1- إذا تناول الكلام بدون إذن الرئاسة  2- إذا ذكر اسم رئيس الجمهورية بغير عنوانه الوارد في الدستور أو تعرض له بما يمس الكرامة أو تناول مسؤوليته في غير ما نص عليه الدستور.  3- إذا تفوه بعبارات نابية بحق أحزاب المجلس أو كتله أو أحد النواب أو اللجان.  4- إذا تعرض لحياة الغير الخاصة.  5- إذا تعرض لشخص أو لهيئة بالتحقير ما لم تكن أقواله مؤيدة بحكم قضائي مبرم.  6- إذا خرج في كلامه عن الموضوع الذي أذن له بالكلام فيه.  7- إذا تناول في كلامه وقائع قضية لا تزال قيد التحقيق أو النظر لدى القضاء.  8- إذا انتهت المدة الممنوحة له للكلام. وفيما عدا هذه الحالات لا يمنع الخطيب عن الكلام إلا بقرار من المجلس”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني