الإقالات والإعفاءات في تونس: كرَاسٍ في مهَب الرّيح


2024-03-26    |   

الإقالات والإعفاءات في تونس: كرَاسٍ في مهَب الرّيح

على الرغم من كثافة المادة الإعلامية-الترفيهية في تونس، خلال شهر رمضان، فإن النشاط الرئاسي استطاع منافسة هذا الزخم وحظيَ بمتابعة كبيرة، سواء تعلق الأمر بالزيارات التي قام بها الرئيس إلى بعض مناطق البلاد والجولات التفقدية “الفجائية” لبعض المنشآت العمومية، أو قرارات الإقالة التي شملت مسؤولين كبار في أجهزة الحكم مثل وزير النقل ووزيرة الثقافة ووالي المنستير ووالي المهدية، ورئيس هيئة الرقابة العامة للمصالح (رئاسة الحكومة) ورئيس المعهد الوطني للإحصاء (وزارة الاقتصاد والتخطيط). حتى أن الأمر يكاد يتحوّل إلى “فوازير” رمضانية: من سيكون القادم؟  

في الواقع، لم يَنطلق سيل الإقالات مع حلول شهر رمضان، إذ تَشهد البلاد منذ بداية السنة موجة إعفاءات عاتية حملَت معها عشرات المسؤولين في الداخل والخارج (السلك الديبلوماسي) دون أن يكون هناك عنوان واضح لهذه القرارات. وهذه الموجة ليست الأولى، ولا يبدو أنها الأخيرة، بل هي فقط تسريع في نسق سياسة انطلقت غداة “إجراءات 25 جويلية الاستثنائية” ولم تتوقف إلى اليوم. 

خارطة الإقالات 

افتتح رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي مَسار الإقالات، عندمَا عزلَه رئيس الجمهورية من منصبه مساء 25 جويلية 2021. ثم بدأت قائمة المعفيين والُمقَالين والمعزولين تطُول كل يوم أكثر. بمراجعة منشورات الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية للبلاد التونسية) وصفحات الفيسبوك الرسمية لرئاستيْ الجمهورية والحكومة في الفترة الممتدة ما بين 25 جويلية 2021 و22 مارس 2024، نجد أن هناك حوالي 400 قرار إنهاء مهامّ شملتْ مسؤولين في مناصب سياسية وإدارية عليا، دون أن نحتسب معهم 217 نائبا برلمانيا فقدوا صفتهم بعد حلّ مجلس نواب الشعب في مارس 2022، وحوالي 7200 مستشارا بلديا حدثَ لهم نفس الأمر بعد حلّ المجالس البلدية في مارس 2023.  

على مستوى الجهاز الحكومي المركزي شملَت الإعفاءات، خلال المدة التي أشرنا إليها، أكثر من 40 وزيرا ووزيرة وكاتب دولة، و24 من رؤساء دواوين الوزارات وكتّابها العامين. أما على مستوى السلطات الجهوية والمحلية، فقد تم إنهاء مهام 23 واليا و16 من الكتاب العامين للولايات، وأكثر من 180 معتمدا ومعتمدا أوّلاً. وحظيَت المؤسسات العمومية الكبرى بنصيبها من موسم الحصاد، فهناك حوالي 15 مؤسسة أقيل رؤساؤُها أو مديروها العامّون، ومن أبرزها “الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه” و”الشركة التونسية للكهرباء والغاز” و”الشركة الوطنية لسكك الحديد” و”الشركة الوطنية لتوزيع البترول” ومؤسّسَتا الإذاعة والتلفزة التونسيتين والصيدلية المركزية. وتمّ إنهاء مهام 20 مديرا عاما على الأقل في الدواوين والوكالات الكبرى، مثل “الوكالة الفنية للاتصالات” و”ديوان الطيران المدني والمطارات” و”وكالة موانئ وتجهيزات الصيد البحري” و”الوكالة الوطنية لحماية المحيط” و”ديوان التونسيين بالخارج” و”الديوان الوطني للزيت” و”ديوان الحبوب” و”الوكَالة التونسية للتعاون الفني” و”وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي” و”الديوان الوطني للسياحة” و”ديوان الأراضي الدولية”، إلخ.  كما شملت القائمة رؤساء ورئيسات لجان وهيئات عمومية مستقلة وغير مستقلة مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري (بشكل “مقنّع” عبر إحالة رئيسها على التقاعد) و”الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالبشر” و”الهيئة العامة لشهداء وجرحى الثورة والعمليات الارهابية” و”الهيئة الوطنية للاتصالات” و”اللجنة الوطنية للصلح الجزائي” و”اللجنة الوطنية للأملاك المصادرة”. ومعهم أيضا العشرات من مسؤولين يشغَلون مناصب أمنية ومدنية عليا، من بينهم وكيل الدولة العام مدير القضاء العسكري والمدير العام للديوانة ورئيس الهيئة العامة للسجون والإصلاح ورئيس الهيئة العامة للوظيفة العمومية ورئيسة هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية ومديرة ديوان رئيس الجمهورية ومدير عام المحاسبة والاستخلاص ومدير المعهد الأعلى للمحاماة، إلخ. 

قائمة الإقالات لم تقتصر على تراب الوطن وعبرت الحدود، لتُطيح بعشرات كبار المسؤولين في السلك الديبلوماسي: 33 سفيرا و20 قنصلا وقنصلا عاما. 

هذه الأرقام تخصّ فقط مسؤولين من الصفوف الأولى. لكن إذا ما تثبتنا في نشريات الرائد الرسمي، خلال الفترة نفسها، سنجد مئات الإقالات الأخرى في مستويات أقل أهمية في مختلف الوزارات. طبعا ليست كلها بالضرورة قرارات ذات خلفيات سياسية، وقد يكون الدافع وراء عدد منها تقصير أو فساد مثبتَين أو حتى مجرد قواعد وأعراف في تسيير الأجهزة الحكومية. لكن في كل الأحوال يبقى عدد قرارات إنهاء المهام كبيرا جدا بشكل يبعث على التساؤل: هل تندرج ضمن مشروع إصلاح لأجهزة الحكم التونسية، أم هي حملة تطهير و”اجتثاث” للمحسوبين -من وجهة نظر السلطة- على “العشرية السوداء” و”اللوبيات” المناوئة لرئيس الجمهورية و”مشروعه”؟ 

الإقالة كطريقة لإدارة الدولة 

من المتوقّع أن يسعى رئيس الجمهورية إلى تركيز مسؤولين موالين له ولمشروعه في المناصب الحساسة، وبحكم هيمنته قانونيا -بعد المصادقة على الدستور الذي صاغه وطرحه للاستفتاء الشعبي في جويلية 2022- على السلطة التنفيذية يحق له تعيين من يشاء. ومن الواضح أن الأولوية في جويلية 2021 كانت “تطهير” الهياكل والدواوين الحكومية ومراكز القرار في السلطات الجهوية من المسؤولين المحسوبين على حركة النهضة وحلفائها، حتى وإن تطلّب الأمر إبقاء المناصب شاغرة، أو سدّ الفراغات بمسؤولين من الصف الثالث والرابع في انتظار العثور على بديل “موثوق”. ويمكن القول أن تلك المرحلة انتهت في صيف 2022 مع ترسّخ سلطة الأمر الواقع، خصوصا بعد حل برلمان 2019 والمصادقة على دستور 25 جويلية 2022. بعدها أصبح الهدف تدعيم السلطة الجديدة في الداخل والخارج، فتتالت الإعفاءات في صفوف المعتمدين والمعتمدين الأول، وكذلك في السلك الديبلوماسي. وبالتوازي مع هذه المراحل صدرت عدة إقالات وتسميات هدفها الواضح ضمان انضباط الإدارة والمؤسسات الاقتصادية والخدماتية العمومية للسلطة السياسية. 

ومن الجلي أن رئيس الجمهورية لقيَ صعوبات في سد الشغورات واضطرّ في عدة مرات إلى إقالة مسؤول كان قد عيّنَه قبل عدة أشهر. صعدَ قيس سعيّد إلى الرئاسة عبر طريق مختصرة و”غير تقليدية” مهّدَتها وسائط التواصل الاجتماعي والتنسيقيات الشبابية وحالة الإحباط الشعبي من الطبقة السياسية التقليدية. لم يسبق له أن تحمّلَ أي مسؤولية صغيرة أو كبيرة في الهياكل السياسية الرسمية والحزبية، ولم يتولّ أي منصب إداري أو أمني رفيع، ولم يأت من عالم المال والأعمال، وليست لديه مسيرة حافلة صلب المجتمع المدني. وهذا يُفسّر إلى حد كبير الصعوبات التي يَلقاها، فمن جهة ليست له خبرة بكواليس ودواليب السلطة والمؤسسات عموما، ومن جهة أخرى لا يوجد خلفه حزب أو ائتلاف كبير يوفّر له كوادر كفؤة ومنسجمة مع “برامجه” وموثوقة.

ينطلق رئيس الجمهورية من ثلاث مسلمات: أن كل أفكاره ومشاريعه وجيهة، وأنها قابلة للتطبيق، وأن هناك “لوبيات” داخل وخارج أجهزة الدولة تُحاول طيلة الوقت إفشال مخططه ومبادراته. هذه المسلمات تعني أن كل تباطؤ أو تعثر في تطبيق رؤى وأوامر رئيس الجمهورية ينبع من ضعف “إيمان” المسؤول المكلّف بالتطبيق أو عدم كفاءته، أو تواطئه مع “اللوبيات” المعادية. في مثل هذا المستوى من “الإرادوية” و”المؤامراتية” يُصبح من الصعب تقييم أسباب “الفشل” انطلاقا من مدى واقعية الأفكار وتناسبها مع الإمكانيات، والعقبات المالية والقانونية والتّقنية.  

هذا الضغط الكبير الذي يُمارسه رئيس الجمهورية على أجهزة الحكم المركزية والجهوية قد تَكون له بعض الإيجابيات، مثل ضمان الانسجام الحكومي وتحفيز المسؤولين على بذل جهود أكبر وترسيخ تلازم المسؤولية والمحاسبة، لكنّه يصنع أيضا وزراء وولاة وموظفين ساميين مرتبكين، وغير قادرين على مواجهة رئيس الجمهورية بالحقائق الميدانية -بل ربّما يسعون إلى تزيينها- ومقيدين وغير مستعدين لوضع خطط واجتراح حلول من “خارج الصندوق” الرئاسي. وقد يتخذ مسؤولون كبار قرارات مهمة لا يؤمنون بوجاهتها ويدركون آثارها السلبية، فقَط تجنبا لغضب رئيس الجمهورية وعدم تصنيفهم في خانة “أعداء الشعب” والمتواطئين مع “الأطراف المعروفة” التي تريد تقويض “مسار 25 جويلية”.  

قد تكون بعض قرارات الإعفاء والإقالة وجيهة، لكن كثيرا منها يصدر دون مبرّرات واضحة. وفي بعض الأحيان تبدو انفعالية واتُّخِذت في لحظة غضب إثر زيارة الرئيس لمؤسسة أو منشأة عمومية ووقوفه على تردّي أحوالها، أو عند وقوع حوادث وأزمات مثل الانقطاع المفاجئ والواسع للكهرباء أو الماء الصالح للشراب، وحدوث مشاكل في توزيع المواد الغذائية المدعّمة، إلخ. طبعا التضحية بمسؤول كبير عند الأزمات ليسَت أمرا مستجدا، لا في تونس ولا غيرها من البلدان، وتُعتبر من “مخاطر المهنة”. لكن تواتر القرابين بهذه السرعة قد تكون له آثار عكسية.. وإن كانت لديه بعض المنافع بالنسبة للسلطة. 

 في البحث عن “فوائد سياسية” للإقالات 

الزيارات الميدانية المُكثّفة التي تعقبها في كثير من الأحيان خطابات غاضبة وقرارات إقالة مسؤولين، كلّها أمور تُداعب -بقصد أو من دونه- مخيالا شعبيا عامرا بصور عن خلفاء وأمراء يتفقّدون أحوال الرعية ويزورون الأسواق ويطّلعون على ممارسات التجار وأصحاب الحرف، ويُراقبون العسس والقضاة والجباة وبقية العاملين في دواوين الدولة؛ حكّام صارمون يُقيمون العدل ولا يترددون في خلع أي صاحب سلطة مُقصّر أو فاسد مهما علا شأنه. 

النسق السريع لقرارات الإقالة والعزل وحل المجالس والهيئات يُعطي مصداقية أكبر لأحد أهم شعارات “مسار 25 جويلية”: التطهير. لا تكاد هذه الكلمة تغيب عن خطاب رئيس الجمهورية وأنصاره. فالسلطة السياسية التي تخوض “حرب تحرير” -على حد تعبير رئيس الجمهورية- لا بد لها من “تطهير” أجهزة الدولة حتى لا يحتمي بها المناوئون ويعرقلون بناء “الجمهورية الجديدة”. وكلّمَا سقطَت أسماء كبيرة كلّما اتّجَهَ الرأي العام إلى الاقتناع بأن هناك حملات تطهير، وأن الرئيس يُواجه بثبات “العصابات” و”اللوبيات”، ويُكيل لها الضربات المُوجعة. ينتشي كثير من التونسيين مع كل موجة من القرارات “الصارمة” ومع كل قطاف جديد لـ”رؤوس يانعة”، معَ جرعة من الشماتة في هؤلاء المسؤولين الكبار الذين يتحوّلون بجرة قلم إلى “مواطنين عاديين” بلا امتيازات، بل وقد يذهبون إلى السجن. لا شكّ أن جزءا من “الشعب” يَجد متعة في إرباك “النخب” وحتى إذلالها، من خلال متابعة مشاهد وزراء وولاّة صاغرين ومدراء عامين مرتبكين ولا يجدون الكلمات وهم يتعرضون للتأنيب العلني من قبل رئيس الجمهورية. ولعلّ هذا الانتشاء لا يرتبط فقط بالواقع السياسي الراهن، بل هو في أحد أوجهه ردّة فعل على تاريخ من التسلط والإذلال مُورِسَ على التونسيين من قبل السلطة السياسية من أعلى هرمها إلى “أصغر” عمدة. وقد يبتهج البعض بسقوط مسؤول كانوا قد عبّرُوا عن سعادتهم بتسميته في منصبه قبل عدة أشهر، دون أن تكون لديهم معلومات كافية حول دوافع قرارَي التعيين والعزل. 

حِدّة “مقصلة” الإقالات وسرعة حركتها تُشعِر أي مسؤول -مهما كانت حساسية منصبه وقوة ولائه للرئيس- أنه قابل للاستبدال في أي لحظة، ولأي سبب. كما أنها توضّح بطريقة لا تقبل الشك أن السلطة التنفيذية، كل السلطة، هي بيد رئيس الجمهورية، وكل البقية موظفون حكوميون لا يسعهم إلا تطبيق التعليمات دون أي طموح سياسي أو تطلّع إلى سلطة أكبر. 

ما زالت تفصلنا بضعة أشهر فقط عن الانتخابات الرئاسية التي يُفترض أن تنظّم، في سبتمبر أو أكتوبر القادمين، وفي ظل ضعف المنجزات الاقتصادية والاجتماعية قد تزداد الحاجة إلى “أكباش فداء” آخرين يمتصّون الغضب الشعبي ويوحون للرأي العام بأن السلطة السياسية ماضية في طريق “التطهير”. كما قد تحتاج هذه السلطة إلى جعل بعض المواقع شاغرة حتّى تمنحها لاحقا إلى مساندين وحلفاء وتُشعرهم أنهم جزء من “المشروع” وأجهزة الحكم: “أبناء مسار 25 جويلية”، الأحزاب والشخصيات المساندة لرئيس الجمهورية، وحتى بعض الكفاءات “المستقلة”. 

من سيكون القادم؟ لا نعرف، لكن بكل تأكيد أصبحت وضعية المسؤولين الكبار في الدولة أكثر هشاشة من عمال المُناوَلَة.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني