الإعلام الفرنسي العمومي: تقييد الرواية المضادّة للسردية الإسرائيلية


2024-06-13    |   

الإعلام الفرنسي العمومي: تقييد الرواية المضادّة للسردية الإسرائيلية
رسم رائد شرف

“أنا خائف” يقول صحافيّ فرنسيّ وهو يضع اللمسات الأخيرة على مادته بشأن مقتل عمال إغاثة لتنشر في وسيلة إعلامية فرنسية عامّة: “خائف من ردّة الفعل، من اتّهامي بمعاداة السامية، أو من استغلال جملة في التقرير من قبل السفارة الإسرائيلية، أو الجيوش الإلكترونية والمنظمات والدوائر المؤيّدة لإسرائيل”. والاستغلال هو “سواء للتهجم عليّ وعلى مؤسّستي باتهامات من قبيل “الإسلامويّة” و”الإرهاب”، أو حتى للتحريف من أجل تبرير الحرب وتبرير مجزرة أخرى بحقّ المسعفين”. أما الإحباط الذي يعبّر عنه الزميل الفرنسي، فهو يتأتّى من السياسات التحريرية التي تفرضها مؤسّسته على مادّته، والذي لن تواجهه القصص الآتية من الجهة الأخرى من الحدود: “تبديل كلمات، حذف جمل، وربما التعتيم الذي قد يُفرض على الموضوع لأنه يدين إسرائيل نوعًا ما، كأنْ يُنقل من ساعة الذروة إلى ساعة ميتة”. 

يتابع الصحافيّ: لا أقول إنّنا نعيش في رعب، ولكن في جوّ من الإرهاق والإحباط. أنا مرهق ومحبط من نوع الضيوف الذين تعطيهم المؤسسة مساحة لتقييم مهنيّتي على الهواء مباشرة، أو تكذيب الحقائق التي أقدّمها، وأنا مرهق لأن حالات حصلت تدفعني لأتخوّف من أنّ مؤسستي قد لا تحميني حقًّا إذا هوجمت على أساس عملي، وقد حصل أن طرد زملاء أو أدينت كلماتهم بعد أن أثارت غضب رسميّين إسرائيليين. 

ففي “راديو فرانس”، الإذاعة الفرنسية العامة (حيث المستمعون بالملايين، وحيث تتكرّر الاضطرابات وتتحوّل النقاشات إلى معارك، وتتّسع الشروخات بين معارضين وموالين للحكومة من اليمين واليسار، وأقليّة تضع عملها المهنيّ على قضايا فلسطين والمنطقة على الطاولة)، تم طرد المذيع الكوميدي غيوم موريس يوم أمس الثلاثاء بدعوى “ارتكابه خطأ فادحا” لأنه انتقد في أحد برامجه الساخرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واصفًا إيّاه بأنه “نازي بلا قلفة”، قرار الطرد نفّذ رغم حكم قضائي برّأ المذيع من تهمة معاداة السامية وأكد حقه في التعبير عن رأيه. “ويواجه الصحافيون في ظل هذه الحرب أحد أهم التحدّيات الأخلاقية في حياتهم المهنية في بلد منقسم تمامًا”، يقول الشاهد، الزميل الفرنسيّ الذي بدأنا قصّتنا معه، ليتساءل: “الكوميديا في فرنسا هي المكان الذي تباح فيه المحظورات، فإذا طُرد كوميديّ من أجل نكتة بحقّ مسؤول رسميّ أجنبيّ، كيف يستطيع صحافيّ أن يتعامل بمهنيّة مع موضوعات تتصل بهذا المسؤول وبكلّ الحرب التي يشنّها، رغم أنّه أصلًا يواجه دعاوى بجرائم حرب وحتى إبادة من قبل القضاء الدوليّ”. 

في أروقة الإذاعة الفرنسية العامّة، يتزايد ضغط التحرير على الصحافيين وعملهم، تزامنًا مع مشروع قانون لدمج مؤسسات الإعلام العامّة يقوده الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، وسط رفض نقابي له وتخوّف من أن يؤدي إلى تشديد قبضة الحكومة على سياسات التحرير. كما يتصاعد التوتر منذ السابع من أكتوبر وتتكثّف الإضرابات في المؤسسة بعضها على خلفية الموضوع الفلسطيني. وتحضر القضية الفلسطينية كعنوان عريض يعاقب على أساسه صحافيون، أو يتم الضغط عليهم، ويضطرّون إلى ممارسة المزيد من الرقابة الذاتية، وصولًا إلى “الصمت الكامل عن كلّ ما يتعلّق بإسرائيل وأفعالها”، وفق الصحافي عينه الذي يرى أن دوره هو الاستمرار في عمله ومواصلة الضغط. وتقول زميلته: “أشارك شهادتي هنا وأنا قد خسرت أي إيمان في وسائل الإعلام الفرنسية، درست لأكون صحافية في منطقة الشرق الأوسط، لا بوقًا فرنسيًا لحرب إبادة إسرائيلية تحرق المنطقة. وتتابع: “بعد 8 أشهر، التغيير الذي كنت أظن أنني قادرة على صنعه من أجل تغطية أكثر توازنًا وإنصافًا بات أشبه بحلم كاذب، واستقالتي على الطريق”. رغم هذا، تحبّذ الصحافية عدم نشر اسمها كي تتمكّن من تقديم شهادة صريحة لا تتحول إلى سلاح ضدّها.

وجدت سيليا شيرول، الباحثة في الأنثروبولوجيا الإعلامية، بعد متابعتها نشرات الأخبار الأكثر مشاهدة في فرنسا، وهي أخبار الساعة الواحدة ظهرًا والثامنة مساءً على قنوات TF1، وFrance 2 وM6، وذلك في الفترة بين 8 و14 شباط، أنّه “من بين النشرات الإخبارية العشرين التي تمّ تحليلها، تمّ تخصيص 29 ثانية فقط من البث لغزة ومصير الفلسطينيين: 5 ثوانٍ لقناة TF1، و10 ثوانٍ لقناة M6، و14 ثانية لقناة فرنسا 2، فيما خصّصت 5 دقائق للإسرائيليين”، أي أكثر من 10 أضعاف الوقت المخصّص لغزّة، وقد منحت هذه الثواني لغزة في نهاية النشرات وبعد أخبار آلان ديلون وجنيفر لوبيز.

“هناك  إخفاء للفلسطينيين، وبشكل عام، هناك إخفاء للصراع برمّته، والذي يتم التعامل معه بشكل سيئ للغاية أو يتم التعامل معه بشكل قليل. وهذا بكل بساطة خرق حقيقي لواجب تقديم المعلومات. إنّها كارثة، هذا غرق للسفينة”، تقول شيرول في مدوّنتها لافتة إلى أنّه لم يتمّ نشر أيّة أخبار عن جلسة الاستماع التاريخية لمحكمة العدل الدولية “خصّص لها بالضبط 0 ثانية من وقت البث”.

ويقول المرصد الإعلاميّ “أكريميد” اAcrimed المتخصّص في العمل النقدي الإعلامي، في تقرير إنّ “الصمت جزء من الضجيج الإعلامي، والاهتمام بما يتمّ الصمت عنه لا يقل إثارة للاهتمام من الاهتمام بما يقال”، ليشير إلى أنّ هناك في الإعلام الفرنسيّ “عملية إخفاء للشريط الساحلي الصغير المحاصر (غزّة) والذي يتعرّض للقصف، وبشكل عام، للفلسطينيين جميعًا”.

يعمل الصحافيون الذين قابلناهم في أروقة وسائل الإعلام العموميّة الفرنسيّة في باريس، حيث تصنع السياسات التحريرية وتتخذ القرارات بشأن مصير التقارير والأفكار التي يطرحونها وهم على مقربة شديدة من ملفات منطقة الشرق الأوسط وقضاياها. تضمّ هذه المؤسسات التي قابلنا عاملين فيها، “تلفزيون فرنسا” وقنواته العمومية ومجموعة “راديو فرانس” وشبكة إذاعتها الوطنية والمحلية العمومية، وهي جميعها وطنيّة موجّهة بشكل رئيسي إلى الجمهور الفرنسي. 

ويبدي هؤلاء الصحافيّون معارضتهم لسياسات التحرير، حينما يتصل الموضوع بالشرق الأوسط، في مؤسساتهم الإعلامية العمومية، وهذا من منطلقات مهنية، كما يتخوّفون من تقييدها أكثر مع القانون الجديد، وتقدم شهاداتهم جانبًا غير مروي من حكاية صناعة الخبر في هذه المؤسسات فيما يعرفون أنّ السياسات التحريريّة في المؤسسات الإعلامية الخاصة ترتبط بعوامل أخرى أهمّها ملّاك هذه الوسائل ومصالحهم الخاصّة بهم.

الطلقة الأولى في فلسطين: بداية ازدواجية المعايير هنا

لنبدأ بالقول إنّ الجسم الصحافي داخل وسائل الإعلام الفرنسية العامّة يشبه فرنسا: فهو ممزّق إلى قسمين بسبب الحرب الإسرائيليّة في المنطقة، من دون أن يعني ذلك أنّ القسمين متساويان بالحجم، لأن السائد في الإعلام وبين الصحافيين هو الرواية الإسرائيلية، وفي هذا الجانب إما مؤدلجون لصالح الصهيونية أو غير مكترثين يتبنّون الخطاب الإسرائيلي بوصفه الخطاب السائد والمسيطر، فيما الاستثناء هو لدى قلّة من الصحافيين، وهم أيضًا معارضون يشعرون أنّ قمعهم وطرد زملاء لهم إنّما يخدم تسابق رؤسائهم على نيل الرضى الحكومي ليحجزوا أماكنهم في الإدارة الجديدة حين يصل مشروع دمج المؤسسات الإعلامية العمومية ضمن مؤسسة عملاقة إلى مرحلة تعيين مديرها من قبل رئيس الجمهورية شخصيًا. 

ويجدر التنويه هنا إلى أنّ الرواية الفلسطينية كانت غائبة منذ زمن بعيد، ومهمشة لصالح الرواية الإسرائيلية التي طغت ولم يتحداها فعليًّا وجدّيًا أحد، وهذه حقيقة برزت مجددًا وبدأت الجولة الحالية من امتحانها مع بداية الجولة الحالية من الصراع القديم الذي شارف على عقده الثامن. ومنذ 7 أكتوبر ظهرت أولى علامات الانقسام في طريقة تسمية الأشياء. لم يتفق أحد على الكلمات التي يجب استخدامها: يهودا والسامرة أم التسمية الفرنسية “cisjordanie”، وساحة المسجد أم جبل الهيكل؟ حرب ضدّ حماس أو ضدّ غزة “صدام كبير داخل مؤسساتنا في ذلك الوقت، أستطيع أن أقول لك”، يشرح صحافي فرنسيّ من داخل إحدى القنوات آنفة الذكر ليلحظ أنّ الانقسام هو بين تسميات إسرائيلية وتسميات فرنسية ودولية يعترف بها العالم: “لقد وصل الأمر ببعض الصحافيين إلى أن يستخدموا مصطلحات مثل خماس وخيفا وخزبالله. أي وفق اللفظ العبري للكلمات، لا الفرنسيّ، ما شكل بالنسبة لي ولزملائي سيطرة كاملة للخطاب الإسرائيلي، وهو أمر خطر يقطع الطريق تمامًا أمام أية استقلاليّة خاصّة بنا.. لقد كتبنا إيميلات، وواجهنا وشرحنا وفسّرنا، من دون أن ننجح بشكل كامل بتوضيح خطورة هذا الترداد الحرفي للرواية وحتى للمصطلحات الإسرائيلية، الذي ليس سوى نموذج لتبنٍّ كامل لسرديّة واحدة في مؤسساتنا وعلى شاشاتنا وجرائدنا وأثيرنا”. طبقة أخرى من هذا التبنّي تظهر حينما يطلق على الجيش الإسرائيلي أسماء مثل “جيش الدفاع.. وصولًا إلى لفظة تساهال التي تعني “جيشنا” بالعبرية”.

ويقول الصحافي هنا: “نحن متخلّفون جدًا على هذا الصعيد، لم يبدأ بعد نقاش كلمات مثل إبادة واحتلال لأنّنا لا نزال عالقين عند نقاش البديهيات، ومتأخّرين جدًا عن اللحاق بالواقع على الأرض”. 

ومنذ اليوم الأول للحرب، حضرت النقاشات، لكن حضرت المواقف الحاسمة أيضًا. يحكي صحافي آخر من داخل قناة إخباريّة عامّة لـ “المفكرة” أنّ مدير التحرير كان واضحًا بطلبه مراعاة الضيف الإسرائيلي “لأننا سنحتاجه دائمًا”، في المقابل، “أين هم الضيوف الفلسطينيون؟ وهل يعاملون بالطريقة ذاتها؟” يسأل. 

“منظومة إعلامية في خدمة الرواية الإسرائيلية”

في الأسابيع التي تلت السابع من أكتوبر، اتجهت المعلومات أكثر نحو الرواية الإسرائيلية. ويمكن تفسير ذلك بالطريقة التي تعمل بها صناعة الإعلام في فرنسا. لكن في البداية، يجب الإشارة إلى الحظر الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على وصول الصحافيين الأجانب إلى غزة، والاستهداف المباشر للصحافيّين الفلسطينيّين  في القطاع المحاصر حتى أخذ شكل مقتلة كبرى في حقهم، ورأيناه يتكرّر مع الاستهداف المباشر للزملاء الشهداء فرح عمر وربيع المعماري وعصام عبدالله والمعاون الإعلاميّ حسين عقيل في جنوب لبنان، ليمنع بالقوّة والقتل أي تدفق للمعلومات خارج قبضته. ويأتي هذا الكتم للصوت في ظل قوة التيارات الإسرائيلية في حرب المعلومات على مستوى الجسم الصحافي الفرنسي، وهي تيارات ناشطة للغاية ومنظمة في باريس على عكس الأصوات الفلسطينية. 

أجرى موقع  Arret Sur Images الفرنسي، والمتخصّص في نقد وتحليل المحتوى الإعلامي، مقارنة من حيث الشكل بين مقابلتين، تفصل بينهما بضع ساعات، على قناتين للخدمة العامة. الأولى مع الناشطة والحقوقية الفرنسية الفلسطينية ريما حسن (فازت مؤخرًا بمقعد في البرلمان الأوروبي عن حزب “فرنسا الأبية” اليساري) على قناة “فرانس إنفو” وأخرى مع الصحافيّة الفرنسيّة الأميركيّة المتقاعدة جيل بورنشتاين على قناة “فرانس 5”. الأولى كانت تشرح معنى شعار فلسطين حرّة من النهر إلى البحر، كما يعرفه أصحابه الفلسطينيون، والثانية كانت تعطي التفسير الإسرائيلي له. وثّقت Arret Sur Images كيف تمّ مواجهة ريما حسن بوابل من الأسئلة واتهامها بالغموض، لكن عندما فسّرت بورنشتاين الشعار بشكل معاكس، قدّمت موقفها المؤيد لإسرائيل في ظلّ صمت تامّ من جهة المحاورين. لتخلص هذه المقارنة إلى أنّ “من سكت فهو موافق، وهذا الصمت هو إشارة للمشاهد بأنّ الضيف يعبّر عن حقيقة لا جدال فيها. وعلى العكس، فإنّ وابل المقاطَعات (بمواجهة حسن) يشير إلى أنّ الضيفة “المثيرة للجدل”، إنّما دُعيَت لأننا يجب أن نعطي الكلمة للجميع، ولكن يجب الحذر منها”. وتُختم هذه المقارنة بإعلان “الكيل بمكيالين”، و”المعايير المزدوجة” في الإعلام الفرنسي العموميّ.

منذ لحظة 7 أكتوبر، كان المتحدثون الإسرائيليون والموالون لإسرائيل حاضرين على الفور في مواقع التصوير لأنهم يعلمون أنّ وسائل الإعلام الفرنسية تعمل من خلال طاولات مستديرة ونقاش. وقد كانت تتمّ دعوتهم أكثر بكثير من الأصوات الفلسطينية القليلة، وكانوا قادرين على فرض السردية وترجيح كفة ميزان المعلومات لصالحهم. وكان لهؤلاء اليد العليا على الإعلام الفرنسي، بحسب الزميل من قنوات “تلفزيون فرنسا”.

تبرز على سبيل المثال قضية الصحافي الفرنسي محمد قاسي، أحد أبرز مذيعي قناة TV5 العامة الفرنسية، الذي وجد نفسه يُقدّم قربانًا لكسب رضى الجيش الإسرائيلي، من قبل قناته التي يفترض بها أن تحميه لدى ممارسته عمله. وقارع الصحافي قاسي المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي باللغة الفرنسية أوليفييه رافوفيتش، حول ما إذا كان استهداف المستشفيات جريمة حرب، ليكون جواب المتحدث اتهام حركة “حماس” بأنها قتلت الأطفال والنساء واقتحمت بيوتًا وسرقتها. فسأله قاسي: “هل تقول إذًا إنكم تتصرّفون مثل حركة حماس؟”، ليقابل بهجوم من قبل الأول الذي اتهمه بأنّه “لا يتصرف كصحافي بل انطلاقًا من موقف سياسي”.

الهجوم الذي بدأه المتحدث العسكري الإسرائيلي على الصحافي قاسي، استكملته الجيوش الإلكترونية على وسائل التواصل ضدّه، لنجد ذات الجملة تتكرر في بيان أصدرته القناة لاحقًا، هاجمت فيه بدورها صحافيَّها مدّعية أنه “لم يتم احترام القواعد الصحافية المطبقة على أي مقابلة”. يقول زميل من القناة عينها “إنّنا حينما نجد زميلًا لنا يُجلد من قبل مؤسسته لمجرّد ممارسته عمله، وحينما نجد أنّ مقارعة متحدث عسكريّ تعتبر تعديًا على الخطوط الحمر، نعرف أننا لسنا محميين، وأنّ توجيهات الجيش الإسرائيلي لها الأولوية على كافة المعايير الحقوقية والمهنية.. لهذا نحن خائفون، ولهذا الكثير منا صامتون”. 

ويوثّق صحافيّ آخر تجربته مع الجيوش الإلكترونية كما مع المنظّمات المؤيدة لإسرائيل المخصّصة لغرض الضغط على الصحافيّين ومؤسّساتهم: “لقد وصلتني مئات التهديدات والمضايقات الإلكترونية التي تمنّت لي الموت والذبح بسبب متابعتي اغتيال الصحافيّ عصام عبد الله، وفي كلّ مرة ينشر لي تقرير، فإنّ تغريدات موجّهة لي ولرئيس التحرير في مؤسستي ستنهال علينا، مع سيل من الاتهامات، وصولًا إلى توجيه رسائل رسميّة إلى المؤسسات بضرورة طردي”. خطوات أخرى تصل إلى حدّ رفع دعاوى قضائيّة من قبل هذه المؤسسات، والتهم الجاهزة هي “دعم الإرهاب”، و”التعاطف” معه، و”معاداة السامية”، ليختم: “هذا ترهيب، ترهيب ينجح مع الكثيرين، ليس الجميع لكن الكثيرين، لأنّ الصحافيّين هم عمّال بالنهاية، يطمحون لأداء مهنتهم وفق أخلاقيات معيّنة نعم، لكنهم ليسوا هنا كي يضحّوا بكامل مستقبلهم المهني ببساطة ومرّة واحدة، ولهذا فقد تحوّل كثير منّا إلى آلات حاسبة، تحسب بدقّة المسموح لها قوله قبل قوله، بما يقرّبها من الأخلاقيات، ولا يرميها لقمة سائغة لحملات الترهيب والإلغاء”.

مساحة أقل للقصة الأخرى: لا مجال لأنسنة “العربي”

لكن الصحافيين الذين تحدثوا معنا على الأقل، يتحرّكون في الكواليس وأحيانًا في العلن، من دون أن يكون هذا مجديًا بالضرورة في تحقيق التوازن الذي يرونه مطلوبًا. تقول الشهادات إنّ المواضيع التي تطرح تواجه بالرفض في الكثير من الأحيان حينما تحاول نقل الصوت الفلسطيني، وهو ما ينسحب على جنوب لبنان: “هناك مساحة أقل لسرد تجارب وقصص المدنيين العرب وقتلهم في ظل الحرب الإسرائيلية، مقابل تركيز مبالغ فيه ومضخّم على الرواية الإسرائيلية، حتى أنّ جرح جندي إسرائيلي يعرض على أنّه مأساة شخصية يجب أن تلمس كلّ فرنسي”، تقول إحدى الصحافيات العاملات في إحدى إذاعات “راديو فرانس”. 

خلال عملية تبادل الأسرى الأخيرة بين “حماس” وإسرائيل، تدفقت التقارير عن الأسرى الإسرائيليين، واحتاج الأمر عدّة أيام حتى “يصلنا تقرير سمح بإنتاجه لكن حدّدت مدّته بصرامة بدقيقة واحدة” عن 240 أسيرًا فلسطينيًا أفرج عنهم بينهم 107 أطفال، يقول صحافي من “راديو فرانس” لـ “المفكرة”، ويضيف: “لقد رأينا ونحن في باريس توثيق صحافيين فلسطينيين لوصول أطفال بأطراف مكسّرة وآثار تعذيب، لكن إدارتنا لم تخصّص مساحة لرواية قصّتهم، أو لعرض شهادتهم. وصلنا تقرير حددت مدته من قبل الإدارة هنا بدقيقة واحدة عن 240 أسيرًا، ذهب معظمها لتعريف الجمهور بأنه كان هناك مساجين فلسطينيون لدى إسرائيل في المقام الأول، معلومة لا يعرفونها أصلًا لأنّ مؤسساتنا لم تخبرهم بها من الأساس”.

 مثال آخر يأتي من جنوب لبنان، وقتها تخطّى عدّاد الشهداء المدنيّين 11 في يوم واحد، لم تروَ قصّة أي من هؤلاء، وبقيوا بدون أسماء أو صور، بينما رويت قصة المجندة الإسرائيليّة التي قُتلت في اليوم نفسه بنيران حزب الله، بعد أن صاغ الجيش الإسرائيلي قصّتها بالفرنسيّة ووزعها على وسائل الإعلام، بحسب ما تخبرنا إحدى الصحافيّات، لتضيف: لقد عبّرت الإدارة بشكل حازم عن عدم اهتمامها بقصص هؤلاء، أما المجنّدة الإسرائيلية، فقد طلبت مسؤولة التحرير حينها تفاصيل عن حياتها، وهواياتها، وحتى لون عينيها، لقد عرضت قصتها بأسلوب درامي، رغم أنه ومن الناحية المهنية، فإنّ سردًا قصصيًا كهذا يكون عن المدنيين الذين قضوا من دون أن يكون لهم أي اشتراك في المعركة، فيما يفترض أن يعامل العسكريون التابعون للدول الأجنبية على أنهم عسكريون قضوا أثناء حربهم، ما لم يكونوا جزءًا من الجيش الوطني الفرنسي مثلًا على الأقل. يقول صحافي آخر في شهادته: “من يسمّي الجيش الإسرائيلي “تساهال (جيشنا بالعبرية)” سيعامل جنوده (الجيش الإسرائيلي) على هذا الأساس”، ليعيدنا هذا المثال إلى حقيقة أن المصطلحات لم تكن منذ اليوم الأول سوى تظهير لتبنّي رواية إسرائيلية حتى لو بلغ ثمن هذا التبنّي مئات آلاف القتلى والجرحى والمصابين والمشرّدين.

لكن هذه القيود على الرواية الأخرى، أي الرواية المناقضة للرواية الإسرائيلية، لا تخدم مجرّد مصالح إسرائيلية “بل هي تلتقي مع أيديولوجيا فوقية بين أصحاب القرارات في دوائر التحرير”، على ما يخبرنا صحافيّ من “راديو فرانس”. 

يقول هذا الصحافي إنّ “جرح إسرائيلي هو خبر صحافيّ يستحقّ التغطية، وقتل ألف عربي مجرّد قصّة مكرّرة لا تستحق النشر هنا”، وهو يقدّم لنا الإطار الذي تجري فيه الأمور في مؤسسته، ليتابع: “هناك صورة مفادها أنّ المآسي التي سبّبتها الحرب الإسرائيلية هي مجرد عرب يموتون، والعرب يموتون بالآلاف منذ عقود… وهذا ليس خبرًا جديدًا”، ليدمج هنا الموقف المسبق ممّا هو عربي وفلسطيني، مع موقف تحريري يحاول أن يحدد ما هو الخبر وفق منطلقات عنصرية.

ويحاول الزميل تفكيك هذه النظرة لتكون بحسب كلماته: “الرجل الأبيض هنا لديه انطباع بأنّ الإسرائيلي مثله وأنه يهتم بأخباره.. حفل “نوفا” الموسيقيّ في غلاف غزة في 7 أكتوبر هو حفل يمكن أن تشاهده في باريس، لكن مسعفي الهبارية هم “إسلاميون” لا يشبهوننا.. بل وهم على الأرجح “إرهابيون”… فماذا يمكن أن تكون أهمية الخبر عنهم؟ هكذا يفكر العقل العنصري الإعلامي السياسي الذي يقرّر ما يمكننا العمل عليه من تقارير وما لا يمكننا الاقتراب منه”. بالفعل، لم تجد التقارير عن شهداء الإسعاف في الهبارية طريقها إلى الأثير الفرنسي، رغم تقارير مستقلّة وثقتها كجريمة حرب تمّت بسلاح أميركي تحديدًا.

“قال لنا مسؤول عالي المستوى ضمن مؤسستنا: ما يحدث في غزة محزن وقاسٍ، لكن دعونا لا نعرضه على جمهورنا، هم غير جاهزين لسماعه وسيغيّرون المحطة”، يقول الزميل نفسه في شهادته. لقد حدّد المدير هنا الفترة الصباحية، وهي وقت ذروة المستمعين، وهي الفترة عينها التي تروى فيها قصص من داخل إسرائيل تتّهم “حماس” بمختلف الشنائع، ومن دون أية ذرائع رقابية. ويضيف: “يمكن تفسير ذلك أيضًا أنّ هذا المسؤول كمعظم المسؤولين وكبار المذيعين في الإعلام الفرنسي العمومي على الأقل، يعيشون في فقاعة مؤسرلة، لا يعرفون الجمهور ولا يعرفون شيئًا خارج فقاعاتهم المؤدلجة لصالح إسرائيل والتي لم تر عربيًا من الطرف الآخر في حياتها، لم تلتقه، لا تعرفه ولا تستطيع أنسنته، ولا تريد”.

“ادّعاءاتهم حقائق، حقائقنا ادّعاءات”

رغم الاختلال الكبير في التوازن لصالح الرواية الإسرائيلية، فإنّ معالجة خاصة للرواية الفلسطينية تُظهر الموقف المعادي لها، والذي يصفه أحد الذين قابلناهم بأنّه “موقف عميق ومتجذّر وواضح وهائل”. حتى أنه إذا ما أعدّ أحد المراسلين تقريرًا أو قصة عن السكان في غزة أو الضفة أو جنوب لبنان، فإنّ النتيجة هي أنّ القصة تُبث، ثم يفتح المجال للتشكيك فيها، وهو ما لا تواجهه القصص الآتية من الجانب الآخر من الحدود. الرواية الفلسطينية هي وحدها القابلة للتشكيك والإنكار.

فالطرف الإسرائيلي ليس دوره مجرّد تقديم الرواية الإسرائيلية، بل إنه مدعوّ في معظم الأحيان للتعليق على التقارير والرسائل المباشرة التي توثق أصوات الناس في الجهة الأخرى. تأتي هنا شهادة صحافية أخرى تعمل ضمن فريق تحرير مؤسسة إعلامية في باريس: “تمّ تمرير تقرير عن غزة، يعرض شهادات لغزاويين يروون ما يتعرّضون له ويقولون إنّه نكبة ثانية بنظرهم. لقد كنت سعيدة بأنّ التقرير سيمرّ، ومعه صوت الغزاويين، لعلّ توازنًا يتحقّق”. لكن الضيف الذي اختارت المؤسسة أن يعلق على التقرير، مانحة إياه ما يعادل 10 أضعاف من وقت التقرير نفسه، لم يكن سوى عضو الكنيست بوعاز بيسموت. المشكلة هنا هي بالنسبة للصحافية الفرنسية “عدم التوازن”، لأنّه لو كان الضيف فلسطينيًّا حلّ بعد تقرير عن 7 أكتوبر مثلًا، كان سيجلد إذا ما حاول إعطاء أيّ حجّة داعمة لقضيّته، كان ليكون دوره فقط “الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة”. تسأل الصحافية هنا: “هل كان سيحصل هذا مع تقرير عن الإسرائيليين؟ هل كان سيكون الضيف نائبًا فلسطينيًا كما جاء نائب إسرائيلي ليفند التقرير ويكذب المتحدثين به ويقدم جانبه من الرواية؟ وكأن الحقائق القادمة من الأرض مجرد آراء.. بالطبع لا!”. 

في المقابل، فإنّ الجيش الإسرائيلي الذي يرتكب أكبر مقتلة في حق الصحافيين عرفها التاريخ، تعامل بياناته من قبل معظم المؤسسات الإعلامية على أنّها حقائق مطلقة، “في مجزرة الخيام في رفح، قالت إذاعتنا: ‘الجيش الإسرائيلي يؤكد أنّ القتلى كانوا مقاتلين لحماس. الفعل اللازم استخدامه هنا هو يدّعي، لأنّ التوثيق الذي هو مهمة الصحافيين انتهى إلى حصول مجزرة في حق أطفال ونساء، والتأكيد لا يمكن أن يأتي سوى من جهة مستقلة”. 

وإن كان الصوت الإسرائيلي يعطى صلاحيّة تقييم الرواية الفلسطينيّة وتحديد مصداقيتها، من خلال هيمنته على الاستضافات في هذه المؤسّسات، سواء عبر متحدّثين رسميّين إسرائيليّين أو محلّلين موالين لتل أبيب، فإن الصحافي الذي ينقل شيئًا من رواية الفلسطيني بحكم عمله على الأقلّ، هو في قفص الاتّهام دائمًا. كلام الصحافي عن مدني هنا أو هناك قتلته الحرب الإسرائيلية هو مجرد ادعاءات تروّج “للرواية الإرهابية”، ينبغي التشكيك فيها، بينما كلام الضيف الذي يقدّم على أنّه “خبير في قضايا الشرق الأوسط” هو من “الحقائق التي فشل الصحافي في جمعها”. يمتد هذا التشكيك ليطال الصحافي عينه، فهو، بعد أن يقدّم الضيف الإسرائيلي روايته، يصبح  “إما غبيًّا، أو متواطئًا”. يعلق مراسل يعمل ضمن الإعلام العموميّ الفرنسيّ لـ “المفكرة”: “طبقة جديدة من الخوف والقمع تضاف، فهل نحن مسؤولون أمام مبادئنا المهنية والصحافية أم أمام الضيف الإسرائيلي أو الموالي لإسرائيل؟ التجربة تقول إنّ الأمور ستنحاز للطرف الآخر على حسابنا”.

رغم هذا المناخ الذي يوثّق تقريرنا جانبًا منه، بلسان صحافيّين يعتبرون أنّ من وسائل الضغط في يدهم هي التحدّث عمّا يواجهونه مع زملائهم، إلّا أنه من المنصف القول إنّ شبكة حماية لا تزال تتوفّر للصحافيّين الفرنسيّين من خلال نقابات قويّة وداعمة ومستقلّة، نقابات قد تحمي الصحافيّ نفسه، لكن الرواية الفلسطينية تحتاج شيئًا آخر. وإذا كان الموضوع هنا هو عن وسائل إعلام رئيسية وقوية تستحوذ عليها الرواية الإسرائيلية، لكن لا ننسى أن أدوارًا أخرى يحوذ عليها الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي، لها دورها ومكانها في معركة المعلومات. 

ويلحظ هنا أنّ الإنتاج الكثيف للمحتوى الفلسطيني على وسائل التواصل وفي الدوائر الأكاديمية والشعبية، الذي يوثّق ما يحدث على الأرض، ويعيد كتابة الرواية الفلسطينية من وجهة نظر الفلسطينيّين، لا يزال بمعظمه بالإنكليزية، ولا تزال باريس مرتعًا للتيارات الإسرائيلية شديدة التنظيم والتدريب الإعلاميّ، ما يبرز الحاجة إلى تنظيم وتدريب فلسطينيّ يمكنه أن يفرض الرواية المضادّة بفعالية أكبر. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، إعلام ، فرنسا ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني