الأشغال العامّة تكتب فصلًا جديدًا في مسلسل الاعتداء على الأملاك البحريّة

،
2023-06-28    |   

الأشغال العامّة تكتب فصلًا جديدًا في مسلسل الاعتداء على الأملاك البحريّة
رسم: رائد شرف

نشرت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة صور ترخيصيْن (موافقتين) منحتْهما وزارة الأشغال العامّة ممثلة بالوزير علي حميّة لأفراد، بردم البحر واسترداد مساحاتٍ أشار الترخيصان إلى فقدانها بنتيجة تقدّم البحر. الترخيص الأوّل المؤرّخ في تاريخ 12 أيار 2022 يتّصل بمنطقة الدامور وقد كشف عنه الإعلامي إدمون ساسين العامل في قناة LBC، فيما الثاني مؤرّخ في 30 أيلول 2022 وقد كشف عنه الصحافي قاسم غريّب، واتّصل بمنطقة اسكندرون (الناقورة). ويظهر التدقيق في الترخيصيْن أنّهما تضمّنا المبرّرات والأسباب نفسها. فكلاهما تحدّث عن إعادة ردم جزء من العقار الذي غمرته المياه البحريّة بسبب العوامل الطبيعية مع مرور السنين. وكلاهما سمح لصاحبه باسترداد أو إعادة ردم “عقاره المغمور جزئيًّا بمياه البحر” كونه متاخم للأملاك العامّة البحريّة، ضمن حدود الخرائط المرفقة ومن دون التعدّي على أيّ جزء من الأملاك العمومية والمحافظة على البيئة البحرية والشاطئ وذلك تحت طائلة سحبه. وقد استند كلا الترخيصيْن إلى موافقة مسبقة من البلدية المعنية.

وقد تبيّن تبعًا لانكشاف هذيْن الترخيصيْن أنّها ليست المرّة الأولى التي يصدر فيها ترخيص من هذا النوع، حيث صدرت تراخيص مشابهة في مبرراتها ومضمونها عن الوزير السابق غازي زعيتر في تاريخ 24/8/2016 بشأن ردم البحر في منطقة الدامور، وعن المدير العام للنقل البحري والبرّي عبد الحفيظ القيسي في تاريخ 9/3/2010، بشأن ردم البحر في منطقة الدامور أيضًا.

هذا الأمر يستدعي الملاحظات الآتية:

أولًا: تراخيص غير قانونية لسقوط الملكية الخاصة بفعل التغيّر الطبيعي لشكل الشاطئ

تستند الرخصتان المذكورتان على افتراض غير مُثبت قوامه أنّ تغوّل البحر على الملكيّة الخاصّة لا يُفقدها طبيعتها القانونية، الأمر الذي يفرض على الوزارة التدخّل من أجل تمكين المالك من حيازة ملكيته مجددًا من خلال وقف مفاعيل غمر البحر لها.

إلّا أنّ هذا الافتراض غير صحيح للأسباب الآتية:

  • إنّ أيّ مساحة يغمرها البحر تقع تلقائيًا تحت تعريف الملك العام البحري سندًا للمادة 2 من القرار رقم 144/1925 الصادر في 10/6/1925 والناظم للأملاك العمومية، وضمنًا البحرية منها. فقد عرّفت هذه المادة الأملاك العامّة البحريّة على أنها “شاطئ البحر حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى الغدران والبحيرات المالحة المتصلة رأسًا بالبحر”. ومن البيّن أنّ هذه المادة لم تحدّد الملك العام وفق خرائط معيّنة أو في تاريخ معيّن، وإنّما تركت للطبيعة الدور الأساسي في تحديدها تقليصًا أو توسيعًا.

فإذا تراجع البحر، تفقد المساحات التي تراجع عنها البحر صفتها كأملاك عامّة بحرية لتصبح أملاكًا خاصّة للدولة سندًا للمادة 210 من نظام الملكية العقارية، التي تنصّ صراحة على أنّ “الأراضي المكتسبة من البحر او البحيرات والغدران أو المستنقعات بدون ترخيص مسبق لمكتشفها تكون جزءًا من أراضي الدولة الخاصة”. وإذا تقدّم البحر في المقابل، يُفهم من نصّ القرار 144 أنّ المساحات المغمورة تصبح تلقائيًّا ملكية عامّة طالما أنّها تعتبر كذلك بحكم القانون أيّ أبعد نقطة يصل إليها الموج في الشتاء.

وقد أكد رئيس مجلس شورى الدولة الراحل يوسف سعد الله الخوري هذا الأمر من دون لبس في مؤلّفه: “مجموعة القانون الإداري” حيث أشار مستشهدًا باجتهاد مجلس شورى فرنسا[1]، إلى أنّه “عندما تغزو أمواج البحر عقارات بجوار الشاطئ، وكانت قبل ذلك بمنأى عن حركة هذه الأمواج، فإنّ هذه العقارات تفقد عندئذ صفتها كملكيّات خاصّة، وتصبح تلقائيًا جزءًا من الملك العام البحري. وفي هذه الحال يكون هناك توسّع للشاطئ وزيادة في مساحته على قدر هذا التقدّم”.

ولا يُردّ على ذلك أنّه لا يوجد أيّ نص قانوني لا في القرار 144 ولا خارجه يلحظ هذه الحالة (أي حالة غمر ملكية خاصّة بالبحر) وما يترتّب عليها من آثار، للأسباب الآتية:

  • إنّ القرار 144 ترك للطبيعة أن تفعل ذلك كما سبق بيانه من دون أن يحدّ الأملاك العامّة بتاريخ معيّن، وأنه لم يستثنِ المساحات المغمورة من أحكامه التي أتت عامّة. وهذا ما يحظى بإجماع الفقه والاجتهاد في فرنسا انطلاقًا من تعريف مماثل للأملاك العامّة للتعريف الوارد في القرار 144. وهذا ما نقرأه بشكل بليغ جدًا في المقال المنشور في المجلة القانونية عن البيئة، 2019 (ريمي روديغي)[2]. ومن أكثر المقاطع دلالة فيه الآتية:

L’expression commune selon laquelle « la nature reprend ses droits » est celle qui vient à l’esprit de tout badaud observant non sans fascination le caractère destructeur de la force houlomotrice lorsque celle-ci vient inlassablement s’abattre sur le rivage et que le jusant emporte avec lui les sédiments au large. C’est ce rapport de force entre les flux d’énergie – vents, courants marins, marées – et les sédiments qui génère en période de « pénurie sédimentaire » un phénomène d’érosion.

Or le phénomène d’érosion côtière ne laisse pas insensible le droit. Parce que selon Montaigne, « nature peut tout et fait tout », elle participe activement, non sans contribution de l’Homme, à façonner les côtes françaises et, avec elles, le domaine public maritime naturel. Ainsi et bien que l’idée doctrinale selon laquelle il existerait un domaine public par nature, c’est-à-dire un domaine public qui existerait en soi et recouvrirait une réalité objective, ait été suffisamment combattue pour ne plus être réaffirmée; on ne peut nier que la délimitation du domaine public maritime naturel, coté terre, s’en remet principalement à dame Nature.

Il découle de cette définition « naturelle » du domaine public maritime que les terres gagnées par la mer sont susceptibles d’avoir des conséquences fâcheuses sur le droit de propriété des riverains qui recule au rythme de l’avancée des flots.

وهذا أيضًا ما أعاد المجلس الدستوري الفرنسي التأكيد عليه في قراره الصادر في تاريخ 24/5/2013 حيث خلص إلى أنّ العقارات المغمورة بالبحر “تندمج تلقائيًّا مع المجال البحري الطبيعي العام” من دون أن يمسّ ذلك بمبدأ الملكيّة[3].

  • إنّ أيّ تفسير مخالف إنّما يؤدّي عمليًا إلى تشويه الشاطئ والأهمّ خرق مبدأ تواصله بصورة طبيعية، علمًا أنّ مبدأ تواصل الشاطئ قد تمّ تكريسه بموجب القانون رقم 45 تاريخ 21/08/2017، والقانون رقم 444/2002 ” الولوج الحرّ إلى السواحل والشواطئ الرملية” وهو أمر يرشح عن نتائج عبثية تمامًا.
  • كما أنّ من شأن أي تفسير مخالف أن يؤدّي إلى نتائج عبثية تمامًا في حال حصول تغيّرات طبيعية واسعة، كأن تغمر المياه مدنًا بأكملها أو تزحل قرى جبلية بشكل كامل.

ثانيًا: ليس لوزير الأشغال العامة أي صلاحية بمنح ترخيص بالردم

مما تقدّم، يتبدّى بوضوح أنّه ليس لوزير الأشغال العامّة أيّ صلاحيّة بمنح رخصة ردم البحر. يتحصّل ذلك سواء اعتبرنا المساحات المغمورة ملكًا عامًا (وهو الأمر الأكيد) أو حتى ولو سلّمنا جدلًا أنّها ملكية خاصّة. يتحصّل ذلك من الأمور الآتية:

  • لا يجوز القيام بأيّ عمل على الأملاك العامة البحرية إلّا بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الاشغال العامة والنقل وموافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني وذلك سندًا للقرار 144 والمرسوم 4810/1966 (نظام إشغال الأملاك العامة البحرية).
  • حتى ولو افترضْنا جدلًا أنّ المساحات المغمورة تبقى مساحات خاصّة (وهو أمرٌ يجافي المنطق كما سبق بيانه)، يبقى أنّ وزير الأشغال العامة عمد من خلال هذه الموافقة التي منحها إلى تفسير القانون ويبقى غير صالح لإثبات ذلك أو منح ترخيص مماثل لسببين: أولًا، لأنّه ليس له أي اختصاص في اتخاذ قرارات لحماية الملكية الخاصّة أو استردادها من أيّ نوع كان، إنّما يبقى ذلك من صلاحية القضاء وحده. ويتأتّى ذلك عن المادة 66 من الدستور التي تحصر دور الوزير بـ “إدارة مصالح الدولة ویُناط به تطبيق الأنظمة والقوانين كلّ بما یتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته وما خصّ به”. 

ثانيًا، أنّه في ظلّ عدم وجود نصّ صريح يضمن للمالك أن يستعيد المساحات المغمورة عن طريق ردمها ويخوّل وزارة الأشغال العامة القيام بذلك، فإنّ أيّ مطالبة باستعادة هذه المساحات تعدّ بمثابة منازعة ليس لأيّ مرجع إداري التفرّد في حلّها. أما أنْ يتفرّد وزير الأشغال العامّة بتقسير القانون وتطبيقه، فإنّه بذلك يفتح الباب لإصدار قرارات إدارية بالغة الخطورة. 

ثالثًا: أي حقوق لصاحب العقار المغمور؟

سبق وبينّا أنّه على فرض غمر البحر مساحات من ملكية خاصّة، فإنّ هذه المساحات تصبح فورًا بمثابة أملاك عامّة بحرية. وعليه، ينحصر التساؤل بشأن حقوق المالك السابق لهذه المساحة، وتحديدًا فيما إذا كان له المطالبة بأيّ تعويض من جرّاء فقدان ملكيته. طُرح هذا السؤال في فرنسا وتحديدًا أمام المجلس الدستوري الذي حسم المسألة بالنفي. وقد برّر المجلس الدستوري موقفه بأنه ليس لمن يفقد جزءًا من عقاره أيّ تعويض لأنّ الفقدان لم يحصلْ بإرادة الإدارة، نظرًا لأنّ معيار تحديد نطاق الأملاك العموميّة البحريّة بحسب تعريفها إنما يشكّل “معيارًا ماديًا موضوعيًا خارج عن سيطرة السلطات العامّة[4]” وبالتالي لا يرتّب أيّ مسؤولية عليها أو تعويض لصاحب العقار.

يضاف إلى ذلك أنّه جاء في أحد قرارات الترخيص (الصادر عن غازي زعيتر) أنّ تراجع البحر حصل بنتيجة “شفط وسرقة الرمول”، ممّا يرتّب مسؤولية على الشخص الذي قام بشفط الرمول. بمعنى أنّه إذا كان المالك هو الذي شفط الرمول، فإنّه يفقد حقه في التعويض طالما أنّه يكون تسبّب بفعل أعماله بالضرّر الذي تكبدّه. وإذا حصل ذلك بفعل شخص ثالث من دون موافقة المالك، فإنّه يكون مسؤولًا عن الضرر الذي تكبده. 

رابعًا: أيّ مسؤولية على وزير الأشغال العامّة؟ 

من البيّن أنّ وزير الأشغال العامّة، كما وزراء الأشغال السابقون، قد ارتكبوا من خلال إصدار تراخيص مماثلة مخالفات عدّة، أبرزها الآتية:

  • أنّ الترخيص الممنوح هو في حقيقته تمليك لمساحَات من الأملاك العامّة. وعليه، يكون بمثابة تخلّ عن أملاك عامة اؤتمن على حمايتها. ومن شأن ذلك أن يشكل إخلالًا بالعمل الوزاري يتولّد عنه شبهة ارتكاب المخالفات المشمولة في الفصل الأوّل (في الجرائم المخلّة بواجبات الوظيفة) من الباب الثالث من قانون العقوبات، لا سيّما أنّ هذا التخلي حصل لمصلحة أفراد بعينهم.
  • ما يفاقم من ذلك هو أنّ الوزير يصدر الترخيص تلو الآخر لتمكين أفراد من اقتطاع مساحات من الأملاك العامّة بحجّة ضمان حقهم في الملكية، في حين أنّه ما برح يهمل اتخاذ أيّ إجراء لاسترداد الأملاك العامّة المعتدى عليها منذ عقود خلافًا لأحكام قانون 2017. فكأنّما الوزير تحوّل من وزير يحمي الأملاك العامّة إلى وزير يحمي الأملاك الخاصّة على حسابها. ومن المهم بمكان هنا تذكير الوزير بقرار مجلس شورى الدولة رقم 242/2014-2015 تاريخ 18/12/2014، سلطانة فرنجية ورفاقها/ الدولة – وزارة الداخلية والبلديات، الذي قضى “بأنّ حماية الملك العام هو المبدأ الأساسي الذي يسود جميع الأحكام القانونية المتعلّقة بالملك العام وإشغاله، وأنّ موجب حماية الملك العام إلزامي وله طابع دستوري”.
  • فضلًا عن ذلك، يعرّض وزير الأشغال العامّة طبعًا مسؤوليته المدنية الناجمة عن التخلّي عن أملاك الدولة على النحو الذي تقدّم، ممّا يستدعي تحرّك ديوان المحاسبة وهيئة القضايا إلى جانب النيابات العامّة المختصّة لمطالبته بالتعويض عن الأضرار التي تسبّب بها وصولًا إلى تحميله نفقات إزالة الردم الذي أجاز للأفراد المذكورين القيام به. 

[1] CE, 12 octobre 1973, n° 86682, Kreitmann, AJDA 1973, p. 586. La délimitation côté terre du domaine public maritime s’effectue « au point jusqu’où les plus hautes mers peuvent s’étendre en l’absence de perturbations météorologiques exceptionnelles »

[2] Radiguet, Rémi. « Érosion côtière et domanialité publique : quand nature fait loi », Revue juridique de l’environnement, vol. 44, no. 1, 2019, pp. 31-43.

[3] Au vu des effets générés par ce critère physique qui implique, sous l’effet de l’érosion, un transfert automatique de la propriété privée submergée par les plus hauts flots dans le domaine public  (CE, 17 octobre 1934, Sieur Dupont, req. n° 36 688, Rec. p. 927).

Radiguet, R. (2019). Érosion côtière et domanialité publique : quand nature fait loi. Revue juridique de l’environnement, 44, 31-43. https://www.cairn.info/revue–2019-1-page-31.htm.

[4] “L’incorporation automatique de la propriété privée dans le domaine public sans indemnité préalable paraît contraire au droit de propriété prévu par les articles 2 et 17 de la DDHC. Pourtant, en se fondant sur un critère physique et en affirmant que celui-ci est indépendant de la volonté de la puissance publique, le Conseil constitutionnel dans sa décision du 24 mai 2013, SCI Pascal, a volontairement nié toute implication de l’État dans ce transfert unilatéral des propriétés privées pour en conclure l’absence de privation du droit de propriété au sens de l’article 17 de la Déclaration de 1789 . Ainsi, le Conseil constitutionnel nie volontairement l’existence d’une expropriation de fait.”

Radiguet, R. (2019). Érosion côtière et domanialité publique : quand nature fait loi. Revue juridique de l’environnement, 44, 31-43. https://www.cairn.info/revue–2019-1-page-31.htm.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، أملاك عامة ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني