اقتراح لإنجاز الضمّ والفرز العام في منطقتي الهرمل ويونين

اقتراح لإنجاز الضمّ والفرز العام في منطقتي الهرمل ويونين
سهل مرجحين (تصوير كامل جابر)

يعدّ المرصد البرلماني في المفكرة القانونية تقريراً كاملاً عن أعمال المجلس النيابي والمبادرات النيابية لفترة 2019-2020. وقد باشرت المفكرة نشر أهمّ مواده تنبيهاً للرأي العام وبهدف إشراكه في صناعة القوانين أو التصدّي لما قد يشكّل إضراراً بالصالح العام. أعددْنا هذه المقالة بالشراكة مع استديو أشغال عامّة وهي تتناول الاقتراح لإنجاز أعمال الضمّ والفرز العامّ في منطقتي الهرمل ويونين وهما المنطقتان الوحيدتان اللتان لم تنجز الدولة هذه الأعمال فيهما، إذ أنّها متوقفة منذ 1934.

 

تقدّم النوّاب غازي زعيتر، وإيهاب حمادة، وعلي المقداد، والوليد سكرية، وإبراهيم الموسوي وحسين الحاج حسن باقتراح في 18/6/2019 للضمّ والفرز في منطقتَي الهرمل ويونين. وكان قد وضع على جدول أعمال جلسة 24/9/2019 وأفضى النقاش إلى إسقاط صفة العجلة عنه[1] وإحالته إلى لجنة الإدارة والعدل التي استهلّت دراسته في 15/4/2021.

يعمد الاقتراح إلى إجراء أعمال الضم والفرز العام في منطقتي الهرمل ويونين العقاريّتين في محافظة بعلبك الهرمل، بحيث يعيّن، بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل، قاضٍ للإشراف على أعمال الضم والفرز، ويتمتّع بأوسع الصلاحيات الاستثنائية وخصوصاً لجهة أعمال التحديد والتحرير والتخمين، والضم والفرز، على أن تفرز العقارات الخاضعة لهذا القانون في المنطقتين العقاريتين المذكورتين أعلاه من دون التقيّد بقانون التنظيم المدني لجهة مساحة القطع المفرزة وشكلها، وكذلك قانون البناء لجهة عامل الاستثمار والتراجعات والتراخيص.

أبرز الأسباب الموجبة التي يذكرها القانون:

– أنّ بعض العقارات في منطقتي الهرمل ويونين العقاريتين قد خضعت لعملية ضم وفرز في العام 1934

استناداً إلى قانون التحسينات الزراعية (1924) غير أنّه لم تنجز أي خطوة من أعمال الضم والفرز حتى العام 1973 حين صدر قرار عن دائرة التحسينات الزراعية لم يزد الأمور إلّا تفاقماً على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، فكانت الصراعات البينيّة، والنزاعات التي لا تزال تتفاقم إلى يومنا هذا.

– التطوّر السكّاني والعمراني وطغيان الملكيات الواقعية على الملكيات القانونية سواء على مستوى العقارات فيما بينها أو العقار نفسه.

– أنّ إدارة هذه العقارات خاضعة حالياً للأعراف والتقاليد والاجتهادات والمصالحات والتسويات.

– أنّ مشروع الضمّ والفرز الذي رصدت له اعتمادات في عام 1997 لم يصل إلى أي نتيجة مستجدّة.

– وحيث تبيّن ضرورة إعطاء صلاحيات استثنائية للقاضي المشرف على أعمال الضم والفرز ليتمكّن من إنجازها وسط التعقيدات المشار إليها أعلاه لما يشكّل ذلك من انتظام عام وحفظ الملكية الفردية وحمايتها وتحفيز الواقع الاقتصادي.

تاريخياً، شهد القرن التاسع عشر بدء تحويل مفهوم الأرض في لبنان وتنظيمها على أساس الملكيّة الفردية. في مطلع القرن التاسع عشر، كانت معظم الأراضي الزراعية في الإمبراطورية العثمانية “ميري”، أي مملوكة رسمياً للدولة فيما كان الفلّاحون يتمتّعون بحقوق عديدة في الأرض غير قابلة للتصرّف ما داموا يدفعون ضرائبهم. وفي العام 1839، أصدر السلطان الجديد ما سمّي بـ”التنظيمات”، وهو نظام إصلاحات يعِد بفصل الأراضي عن شبكة الحقوق المتعدّدة التي كانت تحظّر استغلالها تجارياً. وبهذا المعنى، فإنّ البرنامج الإصلاحي الذي أُعلن عنه في عام 1839 قد وعد بفتح المنطقة أمام رأس المال الأوروبي (مرجع: شاكر 2015). واعتباراً من العقود الأخيرة من الحكم العثماني، بدأت علاقات الأشخاص بالملكية تتغيّر في الواقع، عبر تأسيس سجلّ عقاري حديث في لبنان وسوريا وإلغاء الأراضي المشاع (غريّب 2000) وتفويض فرَق المسح بدخول القرى وتحديث سندات الملكية كافّة (مرجع: موندي 2007).

وخلال الانتداب الفرنسي، تغلغلت هذه الممارسات لتحديث الأرض في الحياة اليومية مع التخطيط الحديث بنسخته الفرنسية (مرجع: غريّب 2000، فيرديل 2010)، لا سيما في العام 1921 عندما تم تأسيس السجلّ العقاري Régie du Cadastre في لبنان وسوريا. وبالنتيجة، ظهرت اختلافات عميقة في مفاهيم مثل مفهوم “المشترك” الذي فُسّر بشكل مختلف في الإطار الفرنسي عمّا هو في الإطار العثماني، حيث لم يفهم في إطار مخالف للمفهوم “الخاص”. وفيما كانت التنظيمات العثمانية قد أعلنت بالفعل خصخصة الأراضي، إلّا أنّه لم يجرِ التخلّي عن المشاعات ولم تُطبَّق بشكل كامل خصخصة الأراضي – التي أعيد اعتبارها كضمانة تستخدَم لتأمين الربح المالي – إلّا تحت رعاية السجلّ العقاري. أتت هذه التحوّلات كنتاج حسابات متعمَّدة للإدارات الفرنسية، بهدف إحداث تغيير في العلاقات الاجتماعية وإنتاج نمط جديد من فهم المساحة وإدارتها. (مرجع: غريّب 2000)

بالنتيجة، أدّت عمليات المسح وتسجيل الأراضي وفرزها إلى تحديد واضح للملكية العقارية الفردية في غالبية المناطق اللبنانية، باستثناء محافظة بعلبك الهرمل التي تتكوّن اليوم 80% من أراضيها – أي ما يُعادل حوالي ثلث مساحة لبنان – من الملكيّات المشتركة أو من إدارة غير عقارية للأرض. وفي بلدات القاع ويونين والهرمل، الأراضي موزّعة بالقيراط، وهي وحدة قياس مساحة معتمدة من أيام الدولة العثمانية، تقسم مساحة العقار على العدد الإجمالي لمساحة القرية أو البلدة بالقيراط المحدّد فيها حسب سجلات الدولة. منذ التقسيمة الأولى في العهد العثماني، ما زال شكل الأراضي متراً في العرض وألف متر في الطول، وميزان الأرض هو القيراط وليس المتر المربع. وهو نظام زراعي بامتياز، لمستخدميه حقوق تصرّف (وليس حقوق ملكية)، وتمّ حلّه في كافة الأراضي اللبنانية باستثناء القاع ويونين والهرمل.

مع مرور الوقت، بدأت تشهد هذه المناطق تصادماً ما بين الممارسات الاجتماعية لمفهوم واستخدام الأرض (المتمثلة بالقيراط) بالأُطر الرسمية الحديثة التي تنظّم الملكية والتخطيط والعمران. وهذا ما أكّده في مقابلة مع أشغال عامّة المهندس جهاد حيدر (الرئيس السابق للتنظيم المدني في بعلبك-الهرمل)، إذ وصف بعض الإشكاليات التي تنتج اليوم عن “عدم تحديد القيراط الذي بحوزة أحدهم مكان الأرض التي تعود له، مما أنتج تصرفاً بالأرض من أحد أفراد العائلة من دون موافقة الشركاء ممّا زاد الشيوع ومعه المشاكل؛ أو قيام أناس لا يملكون أصلاً شيئاً، بالتصرّف بمناطق في القاع عند الكاتب العدل خلافاً للقانون، أو أشخاص تصرّفوا بالأرض في ظلّ الحرب واستثمروها، ومن ثمّ باعوها”.

في ظلّ بعض الإشكاليات التي ظهرت عبر السنوات والتمسّك بشكل عام بمفهوم الملكية الفردية في المخيّلة الجماعية، بدأت المطالبات بحلّ نظام القيراط وإفراز الأراضي منذ بداية التسعينيّات.

وفي العام 1997، خصّص مجلس الوزراء اعتماداً من موازنة الحكومة لإطلاق مشروع ضم وفرز عام ليونين والقاع والهرمل. تألّف المشروع من تنزيل جميع المستحدثات على خرائط المساحة، وتحضير ملفات محتويات العقارات، والقيام بمشروع الإفراز ودراسة شبكة الطرقات، ووضع حدود العقارات المستحدثة على الأرض وتنظيم محاضرها وخرائطها.

في منطقة يونين حيث المساحة تصل إلى 4000 هكتار، كانت قد قامت دائرة التحسينات العقارية بأعمال ضم وفرز في العام 1934 (مرسوم التحسينات العقارية في الأراضي الزراعية) وكانت قد وصلت الدراسة إلى مرحلتها النهائية وتمّت إحالتها للقاضي العقاري في حينه، ثم توقفت. وبناء لقرار مجلس الوزراء في العام 2008، طُلب من المديرية العامّة للشؤون العقارية متابعة أعمال الضمّ والفرز في يونين. تمّت مكننة خرائط ومستندات أعمال التحسينات العقارية القديمة (1934) من قبل مكتب “خطيب وعلمي” وسلّمت هذه المستندات إلى المديرية العامة للتنظيم المدني التي سلّمتها بدورها للقاضي العقاري للمباشرة بعملية النشر والتوزيع. على أرض الواقع، لم يستطع القاضي استكمال العمل بسبب خلافات ناتجة عن تعقيدات نظام القيراط في محاولة تحديثه وتحويله إلى أسهم عقارية.

أمّا في منطقة الهرمل (مساحة الدراسة 3500 هكتار)، تمّت دراسة ضمّ وفرز عام لعقارات وأقسام من العقارات في العام 1973 نتج عنها إفراز عقارات جديدة، إنّما اتّضح وجود إفادات عقارية لمالكين وبيانات عقارية لمالكين آخرين للعقار نفسه. لم يصدّق مشروع الإفراز من قبل القاضي العقاري المولج أعمال الضم والفرز العام، كما أنّ خرائط المساحة النهائية لمشروع الإفراز مفقودة. لذلك، تعذّر إلغاء المشروع القديم واستكمال الدراسة. توقّفت الأعمال وأحيل الملف لجانب مديرية الشؤون العقارية لإعادة تكوين خرائط مساحة نهائية. تم إعداد استدراج عروض لتلزيم أعمال كيْل وتنظيم خرائط نهائية ممكننة لعقارات الهرمل، إلّا أنّ أحداً من المتعهّدين لم يتقدّم لاستلام دفتر الشروط وبالتالي لم تتمّ الصفقة. وطلبت مديرية التنظيم المدني في العام 2012 اتخاذ إجراءات لتلزيم أعمال الكيل وتنظيم الخرائط للهرمل، وهو ما لم يحصل حتى اليوم.

أما في القاع (حيث المساحة الأكبر للدراسة 18000 هكتار)، صدر مرسوم في العام 2010 لتحديد حدود منطقة الضم والفرز، وأنجزت المرحلة الثانية من الدراسة من قبل ثلاثة مكاتب: مكتب ترانسكاد، المكتب الهندسي للتنظيم والأشغال العامة، ومكتب لاتيس. رفض مكتب التنسيق (خطيب وعلمي) استلام هذه المرحلة وهو المولج وفقاً للعقد بتدقيق هذه المرحلة والتنسيق ما بين المكاتب وإعداد تقرير نهائي. تمّ فسخ كافة الالتزامات مع المكاتب وافتتاح أعمال لجان التخمين وتمّ إعداد مشاريع ملاحق وعقود تحديث واستكمال لمشروع الضم والفرز في القاع، إنّما لتاريخه لم تتبلّغ مديرية التنظيم المدني بأمر المباشرة بالعمل.

على الرغم من أنّ أداة الضم والفرز هي إحدى الأدوات الرئيسة في قانون التنظيم المدني، إلّا أن عدم إمكانية تطبيقها في منطقة البقاع حتى الآن هو نتيجة للتناقض المتأصّل بين المفاهيم الاجتماعية (التقليدية) للأرض التي تعود إلى العهد العثماني وأنظمة تخطيط الدولة الحديثة. وتتفاقم الإشكاليات حول الأراضي في القاع ويونين والهرمل وتتخذ أشكالاً مختلفة نظراً للطرق التي استفادت بها الأحزاب المحلّية من ناحية اقتراح حلول شعبوية غير قابلة للتطبيق. من جانبها، لم تتناول المديرية العامّة للتنظيم المدني جوهر المشكلة، وفشلت عموماً في معالجة الأسباب الجذرية للتهميش الذي لطالما عانت منه محافظة بعلبك – الهرمل.

 

في هذا السياق، تقتضي معالجة هذه المعضلة بلورة سياسات تحمي القيمة الاجتماعية للأرض، وفي هذه الحالة، قيمتها الزراعية، بدلاً من فرزها لفتحها على سوق المضاربة العقارية. فالبقاع الشمالي يعتبر محيطاً زراعياً بامتياز، ويستمدّ أهميته من كونه أغنى المناطق اللبنانية بالموارد الطبيعية وعوامل الإنتاج، ففيه مصادر المياه ويضمّ 62% من المساحة القابلة للزراعة في البقاع و25.7% في لبنان. ويعتمد 70 إلى 75% من سكانه على الزراعة في تكوين مدخولهم، إضافة إلى مساهمته بنسبة كبيرة من الإنتاج الزراعي الإجمالي في لبنان.

إذاً، لا بدّ من ترسيخ أطر الملكية المشتركة المتمثلة بنظام “القيراط” بدلاً من حلّها، وبالتالي السماح لتلك الأراضي ذات الاستخدام المشترك بحجب أثر السوق العقارية عنها، مع مراعاة تنظيمها بشكل يتناسب مع خصائصها وحاجات سكان هذه المناطق.

  1. المفكرة القانونية-المرصد البرلماني، سدّ بريصا المثقوب يعرّي سياسة السدود الفاشلة: هل ينقذ فشل بريصا مرج بسري؟ (تعليق على نتائج جلسة 24 أيلول التشريعية)، نشر على موقع المفكرة القانونية في 26/9/2019
انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، البرلمان ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، الحق في السكن ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني