ائتلاف استقلال القضاء: تصوّر جديد من أجل استعادة شرعية الدولة

ائتلاف استقلال القضاء: تصوّر جديد من أجل استعادة شرعية الدولة
وداد حلواني

نمرّ وطنيّا في أسوأ أيّامنا مقارنةً بما عشناه من قبل، وأسوأ ما في حاضرنا هو أن الغد يبقى مُشرّعا لأيام أكثر سوءاً وسواداً. إنها الكارثة، كارثة تشبه تماما ما قد يحلّ بشعب بعد سنوات من حروب طاحنة. المفارقة أن كارثتنا لم تنشأ فقط عن الحرب بل عن النظام الذي انبثق عنها. وهي لم تنشأْ عن أمور غير متوقعة أو عن قوّة قاهرة. هي بدأتْ حين طويْنا صفحة تلك الحرب دون أن نتعلّم منها شيئا. حين طويناها بتسوية تقاسم بفعلها أقوياء الحرب الحكم، تسوية لم يكنْ فيها مكان لمفاهيم الخير والشرّ، الخطأ والصواب، العدل والظلم، لم يكنْ فيها مكان للمساءلة أو المحاسبة. وعليه انتهت الأعمال الحربية، لكن استمرّت كلّ قيمها بما فيها استباحة القوانين ومعها الشرعية واقتسام الغنائم (بعدما تغيّر اسمها إلى محاصصة). وبفعل ذلك، أصبح مفهوم طيّ صفحة الحرب مفهوماً يُراد منه ليس فقط محو جرائم الماضي، لكن قبل كل شيء منح صكّ براءة على بياض للمستقبل، صك براءة يجيز انتهاك جميع القوانين من دون حساب. 

نعم، الكارثة التي تلفّنا اليوم لم تكن بنت الصدفة: هي صُنعتْ بالحصانات القانونية والفعلية، التستر بالسرية المصرفية، بمختلف فنون الإفلات من أي ضابط أو رادع، والأهم بإضعاف القضاء واستتباعه ليكون مركز نفوذ وأداة للأقوياء وليس حدودا لهم أو مطرقة في وجههم. وها نحن نعيش اليوم كمن يخرج من حرب جديدة، لا تقلّ تدميرا عن حروبنا السابقة. حرب أزهقت موارد الدولة والناس لتحصرها في أيادي أصحاب القوة، حرب نهشت مؤسسات الدولة وها هي تتسبب الآن بتطهيرها ليس من العناصر الفاسدة أو غير الكفؤة (كما وعدوا مرارا)، بل من الأنزه والأكفأ، من كل الذين اعتادوا العيش من رواتبهم وفقط من رواتبهم. حرب تعمل على تهجير خيرة أخوتنا وأبنائنا وأحفادنا. حرب ربما نعيش من بعدها زمنا طويلا قبل استرداد نذرٍ من الكرامة أو السيادة. 

ومن قلب هذه الكارثة بالضبط وردّا عليها، جئتُ بالنيابة عن جميع زملائي في ائتلاف استقلال القضاء، لنعلن مع النائب الدكتور أسامة سعد تقديم اقتراحنا حول قانون استقلال القضاء الإداري إلى المجلس النيابي. أهمية هذا الاقتراح أنه يُعيد تصور دور القضاء وبخاصة القضاء الإداري، أي القضاء الذي ينظر في كل النزاعات بين المواطنين والهيئات الإدارية العامة من وزارات وإدارات وبلديات على اختلافها، على نحو يمكّنه من أداء دوره في وضع حدّ لكلّ مسؤول أو إدارة تخالف القوانين أو تمسّ بحريات المواطنين أو حقوقهم أو بأموال الدولة وأملاكها، وإبطال أي قرار مخالف يتخذه أي من هؤلاء وعمليا كل ما تخفيه هذه القرارات من سمسرات وصفقات وهدر أموال. ومن المهم التذكير هنا أن هذا الاقتراح يأتي ليكمّل اقتراحا آخر حول استقلال القضاء العدلي الذي ينظر في القضايا المدنية والجزائية ويمنع استتباع القضاء أو التدخل في أعماله انحيازا لهذا المتقاضي أو ذاك. وكان الاقتراح الأول قُدّم للمجلس النيابي في 2018 وما يزال محل تشذيب وتسويف في مجلس النواب. ويمثّل هذان الاقتراحان من وجهة نظرنا خارطة طريق تضاف إلى خطط أخرى نضعها كائتلاف لاستعادة المؤسسات القضائية، فلا تكون مراكز نفوذ يتلاعب بها أصحاب النفوذ والسلطة، بل حصنا لكل مواطن في مواجهة الحاكم أيا يكن، حصنا للدفاع عن حريات المواطنين وحقوقهم والأهم عن موارد الشعب والدولة التي لا وجود لوطن من دونها. 

ربما لم نتعلّم شيئا من مآسي حروبنا السابقة. لكن تعلّمنا على الأقلّ أن علينا أن نرفض أن تنتهي حروبنا الجديدة كما انتهتْ. فالعفو ليس عفوا إذا حصل غصبا. والسلم ليس سلما إذا بقي القانون ومعه القضاء تحت سقف القوة بل هو مشروع عنف واستباحة، مشروع متواصل يتكرر بفعله الماضي بكل مآسيه وقيمه وصفقاته إلى ما لا نهاية. لذلك، أتينا هنا نواجه الكارثة بالدولة، الهيمنة بفصل السلطات، الزبائنية بالمؤسسات، الظلم بلغة العدالة والحقوق، الجريمة الموصوفة بالقضاء الذي يكون ولاؤه الأول للمجتمع والعدالة الاجتماعية، القضاء الذي يحكم باسم الشعب. فلا يكون لبنان الغد مثل ما هو اليوم أو ما كان عليه أمس. عندئذ، وفقط عندئذ، نعرف أن ثمة أملا أن يبقى أبناؤنا هنا، أن أوجاعنا ومعاناتنا كشعب لم تذهب هدراً والأهمّ لن تتكرّر.

ختاما، بقي أن أشكر باسم زملائي في الإئتلاف كل من ساهم ويساهم معنا في معركة استقلال القضاء، كما أشكر نقابة المحامين على استضافتنا آملين لها أن تبقى دائما رافعة لاستعادة مؤسسات الوطن وفي مقدمتها المؤسسات القضائية وسيادته. 

 

* كلمة ائتلاف استقلال القضاء خلال المؤتمر الصحافي الذي عُقد في بيت المحامي يوم الأربعا 17 آذار 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، البرلمان ، استقلال القضاء ، لبنان ، حراكات اجتماعية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني