إنتاج زيت الزّيتون في تونس: ماذا تُخفي “أسطورة التصدير”؟


2024-01-31    |   

إنتاج زيت الزّيتون في تونس: ماذا تُخفي “أسطورة التصدير”؟
المصدر: وكالة الأناضول

انطلق الديوان الوطني للزيت، في الفترة القليلة الماضية، في ضخّ كميّة من زيت الزيتون المُعلّب داخل المساحات التجارية الكبرى، في إطار ما سُمّي بـ”البرنامج الوطني للإستهلاك الداخلي”. وقد أشار الديوان الوطني للزّيت إلى أنه سيُوفّّر 10500 طن في إطار هذا البرنامج، يتمّ توزيعها على كامل السنة بسعر 15د للتر الواحد[1] (يبلغ سعر اللتر في السوق حدود 25 د). هذا الإجراء يأخذ طابعًا دعائيا، لأنّ الكميّة التي سيتمّ توفيرَها لا تتجاوز 5% من الإنتاج الوطني ولا تغطّي سوى جزء من حاجيات السوق الداخليّة المحدودة بطبيعتها والتي تتراوح بين 20 و30 ألف طن. ويَعُود ذلك إلى الارتفاع المتواصل لسعر الزّيت الذي يَخضع لتقلّب الأسعار في السوق العالميّة، نظرا لارتباط الإنتاج بالتصدير.

عَادة ما يَجري تَنَاول ملفّ زيت الزيتون التونسي، بخاصة على المستوى الرسمي، من منظور سياسة التّصدير وقُدرة هذا القطاع على استجلاب العملة الصعبة. وقد أدَّت هذه النظرة إلى التهميش شِبه الكلّي للاستهلاك المحلّي، وخلَقَت مفارقة يُجّسدها وجود وَفرة في الإنتاج مُقابل عدم قدرة التونسيّين على تغطية حاجياتهم من هذه المادّة، وذلك بسبب ارتفاع أسعارها في السوق المحليّة. لذلك تبدو الإشادة بالاكتفاء الذاتيّ في قطاع زيت الزيتون مُجانبَة للواقع.

“أسطورة التصدير” التي تُسوّق كقصّة نجاح تونسيّة نموذجية، لم تَحرِم التّونسيّين من زيت الزّيتون فقط، ولكنها فرضَت تغيير النمط الزراعي بشكل عام، ضمن سياسة دَفع الطّاقة الإنتاجيّة إلى أقصاها على حساب زراعات أخرى أساسيّة كالقمح الصّلب. كما أهملت مراعاة العوامل المناخيّة. ويُمكن القول أن منظومة إنتاج زيت الزيتون تُثبت مرة أخرى أنّ السّياسات العموميّة لا تتمحور حول مصلحة المجتمع في المقام الأوّل، بل تتمركَز حول مصالح قطاعية وظرفية.

معضلة التّكثيف الزّراعي

حَسب المعطيات الأوّلية للديوان الوطني للزيت تُقدّر صابة زيت الزيتون للموسم الحالي 2023-2024، بحوالي 210 ألف طن، وهو نفس مستوى الموسم الفارط الذي يَتوافَق مع المعدّل العام الوطني لإنتاج زيت الزيتون[2]. تَستَحوذ جهات الوسط والجنوب على 80% من الإنتاج الوطني للزيتون، وهي الجهات التي تتركّز فيها الزياتين على مساحات تقدر بـ90% من المساحة الجمليّة لغراسات الزيتون في البلاد التي تمتدّ على 1.8 مليون هكتار. وهو ما يعادل أيضا 78.2% من مساحة الأشجار المثمرة وما يقارب 40% من الأراضي الزراعية المُستغلّة[3].

تُبرِز الأرقام الدّور المحوري لقطاع زيت الزيتون في الفلاحة التونسية، إذ يَستأثر هذا القطاع على حوالي 15% من القيمة الإجمالية للإنتاج الفلاحي الوطني[4]، ومن المتوقّع أن تَحتلّ تونس المركز الخامس عالميّا في قائمة البلدان الأكثر إنتاجًا لزيت الزيتون خلال الموسم الحالي، ما سيؤهّلها للمساهمة بنسبة 6.6% من الإنتاج العالمي من هذه المادة وفقا لتوقعات المجلس الدولي للزيتون. هذه الحصيلة المتميزة في السوق العالمية لزيت الزيتون هي نتاج مسار تاريخي من التخصّص الزراعي لغراسات الزياتين في جهات الوسط والجنوب، أسّس لهَا الاستعمار الفرنسي في نهاية القرن العشرين عبر استغلال المشاكل المتعلّقة بالمخزون العقاريّ للجهات المذكورة للاستيلاء عليها وتَسخِيرها لغايات استثمارية. استندَ الاستعمار في هذه السياسة على معطيات تاريخية وعلمية تُبرز القدرة الإنتاجية لجهتي الجنوب والوسط في مجال الزيتون، نظرا لتوفّر العناصر المناخية الملائمة لذلك[5].

تهدف الزراعة المتخصصة أو “الزراعات الأحاديّة Monocultures” التي ركَّزَها الاستعمار الزراعي إلى الاستغلال المكثّف لعوامل الإنتاج، من أجل دَفع القدرة الإنتاجية لمنتوج فلاحي وَحيد إلى مداها الأقصى بهدف التصدير لغرض تجاري ربحي. ويتناقض هذا النمط الزراعي مع الحاجيات الغذائية المتنوعة والأساسية للمتساكنين، حيث أدّى إلى تغيير كيفيّة إستغلال الأرض، وتغيير نمط وعلاقات الإنتاج. وقد واصلَت الدولة الاستقلالية تكريس هذه السياسة الفلاحية المتواصلة، حتى الآن، ولنفس الغاية التصديريّة. ويَظهر ذلك عبر تواصل نسق التشجير بشكل حثيث، في إطار سياسة عمومية ممنهجة انطلاقا من تشجير “الأراضي الدولية” المسترجعة من المحتلّ، وتشجيع صغار ومتوسطي الفلاحين على المضي في نفس التوجّه، منذ تجربة التعاضد إلى غاية إطلاق برنامج “المشروع الخصوصي لتنمية قطاع الزيتون” سنة 2016، الذي قام على غراسة 10 ملايين أصل زيتون على امتداد السنوات الثلاث الموالية. في هذا السياق، قفز عدد غراسات الزيتون من حوالي 27 مليون شجرة سنة 1956[6]إلى ما يُقارب 100 مليون شجرة زيتون سنة 2020[7].

أدّى هذا التوجّه الرّبحي إلى تَهميش منتوجات فلاحية أخرى ضرورية للتنوّع الغذائي بشكل عام، وتَهميش الزراعة المعيشية التي تُغطّي المنتوجات الفلاحية الضروريّة للمتساكنين المحليّين والقائمة على مبدأ الاكتفاء الذاتي بشكل خاصّ، حتى أنّ مساحَات غراسات الزياتين فاقَت بكثير المساحة المخصّصة لإنتاج القمح الصّلب التي قدّرت بـ560 ألف هكتار سنة 2023،[8] وذلك رغم العجز الذي يشهده قطاع الحبوب. وقد أدّى انخراط تونس في بداية السبعينات في مسار الانفتاح الاقتصادي ذي النزعة الليبراليّة إلى تبنّي مبدأ “الأفضلية النسبيّة “L’avantage comparatif”، الذي يُشكّل إحدى ركائز التجارة العالميّة ويَقضي بضرورة تخصّص الدّول (الشركات) في إنتاج السّلع التي تتمتّع فيها بأفضليّة على مستوى تكاليف الإنتاج، ممّا يَضمن لها ميزة تنافسيّة في السوق العالميّة.

أدّت هذه السياسة النّفعية، التي تُدير الدّولة بمنطق الشّركة الباحثة عن تحصيل العملة الصّعبة، إلى تحوير النمط الفلاحي التونسي وتركيز التّبعيّة الغذائيّة، وذلك عبر تهميش الفلاحة العائلية وزراعَات الحبوب لصالح الزراعات التصديريّة، وهي بالأساس غراسات الزيتون والنخيل والقوارص. وهكذا تمّ اعتماد أطروحة الأمن الغذائي المُرتبطة بالتوفير الدّائم للسّلع في السوق العالمية للأغذية، والذي يَستَوجب الاستغلال المكثّف للأرض لرفع الطاقة الإنتاجية دون احترام للموارد الطبيعيّة والعوامل المناخيّة، وهي في الحقيقة أطروحة غير مُحايدة وتَتنَاسب مع الشعوب المرفّهة القادرة على تلبية احتياجَاتها المختلفة في جميع الفصول.

وفي هذا السياق، انتهجَت تونس سياسة التكثيف الزراعي لغراسات الزّيتون في الهكتار، لهذا الغرض التجأت إلى الأصناف الأجنبية المتأتيّة من الأسواق المنافسة (إيطاليا، إسبانيا، اليونان) لأنّها صغيرة في الحجم مقارنة بالأصناف التونسية وتتميّز بمردوديّة عالية وسريعة. جميع تلك الأصناف سقويّة، وأكثرها انتشارا “الأربيكنا” و”الكورنيكي” “والأربوزانا”، وقد تم التحصّل عليها في أحيان عدّة في شكل هبات وتم توزيعها على الفلاحين بشكل مجاني. وفي هذا الصّدد يمكن العثور على آثار التشجيع على هذه السياسة ضمن برامج حكومة سابقة، على غرار “البرنامج الرئاسي المتعلّق بإعادة غراسة الزياتين الهرمة وإحداث غراسات مرويّة مكثّفة سنة 2004″ والمخطط التنموي العاشر (2002-2006)” اللّذين شجّعا على توسيع زراعة المشاتل السّقويّة لضمان تواجد زيت الزيتون في الأسواق الخارجية في مواسم تراجع الإنتاج بسبب الجفاف.

وقد بَيّنَ السّيد كمال القرقوري الباحث بمعهد الزيتونة (مؤسسة عمومية)، للمفكرة القانونيّة، أنّه وَقعَ إدخال صنف “الكورنيكي” اليوناني في الثمانينات في تجربة محدودة في جهة عقارب من ولاية صفاقس. وفي التسعينات قام المعهد في إطار مشروع بحثي بتركيز مَجمَع أصناف يَضمّ أصنافا أجنبيّة، بينما كانت ذروة دخول مشاتل الزيتون الأوروبية لغرض اقتصادي بين 2006 و2010 في إطار نمط إنتاج جديد. في هذا الصّدد ذكر أنّه وقع انتقاء أصناف أجنبيّة مُوجّهة لنمط الإنتاج المكثّف جدّا (الأربوزانا والأربكينا) القائم على المكنَنَة، أين يمكن أن تصل الكثافة إلى أكثر من 1000 شجرة في الهكتار. وهذا الصنف من الغراسات يَدخل حيز الإنتاج بعد مرور السنة الثالثة من الغراسة، وتدوم إنتاجيته 20 سنة، بَعدها يتم تجديد الأشجار عبر تقليمها لتعود للإنتاج بعد سنتين. وهناك أصناف موجّهة لنمط الإنتاج المكثّف (الكورنيكي) أين تَمتدّ الغراسات بين 200 و300 شجرة في الهكتار، وتبدأ في الإنتاج في السنة الخامسة ويمكن أن يصل عمرها إلى 50 سنة. وحسب كمال القرقوري تبقى هذه المعطيات مجرّد تقديرات نظرا لحَدَاثة الضيعات التي تعتمد الشتلات الأجنبيّة. كما ذكر أيضا أن المشاتل الأجنبيّة أصبحت تُنتج في مخابر تونسيّة لأنّها مطلوبة في الفلاحة التونسيّة، وقد وقَعَ منع استيرادها منذ سنة 2016 توقّيًا من إدخال بكتيريا “ْXylella fastidiosa”.

تسبّبت سياسة تَكثيف الغراسات وإنهاك التّربة في تعميق أزمة المياه في تونس، لأنّ الشّتلات الأجنبيّة تستحقّ ريّا متواصلا لتُحافظ على مردوديّتها. وللإشارة تَخطّت تونس عتبَة الإجهاد المائي المحدّدة بـ500 متر مكعب للفرد في السنة، عبر تسجيل معدّل 400 متر مكعب للفرد سنويّا وفق معهد الموارد المائيّة. ويحتدّ العجز المائي في جهات الوسط والجنوب، أين تتمركَز غراسات الزيتون. في المقابل، تتمتّع الأصناف المحليّة من الزيتون بقدرة طبيعيّة على التأقلم مع المناخ التوّنسي المتّسم بالجفاف، لأنّها وليدة بيئتها ويمتدّ عمرها إلى مئات السّنين، كما تتميّز بقدرة وراثيّة عالية ومناعة قويّة تُجاه الأمراض أكثر من المشاتل المستوردة. وهو ما يؤهّلها إلى البقاء في دورة الإنتاج حوالي 70 سنة. أدّت هذه الخصائص إلى اعتراف عالمي بجودة الأصناف التونسيّة، التي تتجاوز 100 صنف، وأكثرها انتشارا “الشملالي” و”الشتوي” و”المسكي”. كما أن أغلب غراسات الزيتون مَطَريّة.

اقتصاد زيت الزّيتون

رَغم تَذبذب إنتاج زيت الزيتون جرّاء التقلّبات المناخية، حافظَت تونس على وَفرة في الإنتاج أهّلتها لتكُون ضمن الدول الخمس الأوائل عالميّا، طيلة العشرينية الأخيرة على مستوى التصدير. يَعُود ذلك لانتشار كُروم الزيتون، ولكن أيضا إلى المنحَى التنازلي للاستهلاك الداخلي، مقابل ارتفاع تصدير زيت الزيتون وما يُحقّقة من فائض هام على مستوى المداخيل الماليّة. حسب المرصد الوطني للفلاحة بلَغَت صادرات الموسم الفارط 194.6 ألف طنّ بمداخيل ناهزت 3400 مليون دينار، مقابل 208 ألف طن للموسم 2021/2022 الذي قدّرت عائداته بـ 2036.4 مليون دينار. ووفقًا لبيانات وزارة الفلاحة يَبلغ معدّل حجم الصّادرات بين الفترة الممتدّة من 2005 إلى 2018، 88% من الإنتاج، وهو ما يتوافَق مع طبيعته كقطاع تصديري بالأساس. حتى أنّ مستوى التصدير في بعض المواسم يتجَاوز مستوى الإنتاج، وذلك عبر اللجوء إلى مخزون الموسم السّابق. على سبيل المثال بلغ الإنتاج في 2018/2019، 140 ألف طنّ بينما وقع تصدير 170 ألف طنّ. في هذا الصّدد تَجدر الإشارة إلى أن هذا القطاع يستحوذ على معدّل 35 % من إيرادات صادرات المنتوجات الفلاحيّة الغذائيّة[9].

ينخرط في منظومة زراعة الزياتين حوالي 310 ألف فلاح، أي قرابة 60% من إجمالي الفلاحين، وعلى غرار قطاع الفلاحة ككلّ يتّسم هذا النّشاط بدرجة كبيرة من العشوائيّة، إذ تُوجد نسبة مهمّة من المستثمرين في هذا المجال لديهم ازدواجيّة وظيفيّة ويقطنون بعيدًا عن مُستغلاتهم الفلاحيّة التي تَربطهم بها علاقة موسميّة (فترة الجني) ولا يتمتّعون بالتّأهيل الضروري في المجال، مما أدى إلى إهمال الكثير من هذه المستغلاّت. ويُوفّر قطاع الزياتين طاقة تشغيليّة مهمّة تقدّر بـ 35 مليون يوم عمل في مجمل قطاع الإنتاج والتصنيع، ما يمثّل 20% من فرص العمل الجمليّة للقطاع الفلاحي[10]. في المقابل هو سوق عمل غير منظّم، وتخضع فيه الأجور لقاعدة العرض والطلب، لذلك تُساهم في إحداث فروقات في تكاليف الإنتاج حسب الجهات. لكنّ الأجور في العموم تبقى مُتدنيّة -رغم الارتفاع الذي شهدته في الآونة الأخيرة- مُقارنة بتكلفة اليد العاملة في الدول المنافسة، وذلك التزاما بقاعدة الأفضليّة النسبيّة التي تتبنّاها تونس لدعم التصدير.

بُنيَ منوال التصدير بالأساس على تغطية النّقص في حاجيات الاتّحاد الأوروبي من الزّيت. وتُقدّر هذه التغطية بحصة سنوية مُتناسبة مع حجم الإنتاج الموسمي للاتحاد الأوروبي، وتتلاءم مع المنظومة الحمائيّة لمُنتجيه. وقد استأثر هذا الأخير سنة 2022 بـ 66% [11] من مُجمل الصادرات التونسية من زيت الزيتون. يُوفّر هذا المنوال قيمَة مضافة مُنخفضة تفوّت على تونس مداخيل إضافيّة، لأنّ 87% من مجمل الصادرات في شكل زيت سائب يُعَاد تعليبه في الأسواق المورّدة، ليُباع بأضعاف سعره الأوّلي. ورغم حجم التصدير وارتفاع عدد المنتجين، فإن 10% (320 شركة مصدّرة) فقط من المتدخّلين في القطاع يَحتكرون هذه السوق ويتحكّمون في عمليّة الجني.

يَتوزّع المنتجون على شريحتين؛ تُمثّل الشريحة الأولى كبار المستثمرين الذي يَملكون معاصر الزّيت ويتدخّلون في كامل السلسلة أو في جزء منها على مستوى الإنتاج والتّحويل والتصدير. أما الشريحة الثانية فهي تضمّ صغار الفلاحين الذي لا يَملكون سوى الأشجار. وهؤلاء إمّا يشرفون على الجني بأنفسهم ويبيعون الزيت للمعاصر أو يؤجّرون الأشجار إلى الخواصّ -في حال عدم امتلاك الموارد الماليّة اللازمة- وهذه الحالة تتطلّب تدخّل عدّة وسطاء ليصل الزيتون للمعصرة ثمّ إلى التّصدير. وفي كلتا الحالتين يمثّل الفلاح هنا الحلقة الأضعف من حيث المردود المالي. في المقابل تُحقّق الشركات المصدّرة فوائض ربح مرتفعة، بخاصّة وأنّها تشتري الزّيت من الفلاح تقريبا بسعر موحّد، من دون اعتبار الجودة التي يتمّ دمجها في السعر عند التسويق.

يَعود الاختلال الكبير في التصدير إلى ارتهانه لمنظومة الريع، التي قيّدته بشروط إدارية ومالية مُجحفة متعلّقة بالخصوص برأس المال الأدنى (700 ألف دينار) وطاقة الخزن (100طن) وكميّة البيع الدّنيا (500 طن). وقد تَمَّ مؤخّرا إصدار كرّاس شروط جديد يُنظّم تصدير زيت الزيتون، تم التّخلي فيه عن تلك القيود لفتح المنافسة في المجال. ولكن بالتوازي مع ذلك لم يَقع فتح خطوط تمويل مخصّصة للاستثمار في تصدير الزيت، لأنّ تسهيل الإجراءات الإداريّة في غياب التمويل لن يكون له أثر ناجع على المنافسة.

في الأثناء تتجلّى معضلة منوال التصدير، الذي مأسَسته الدّولة، في ضرب الاستهلاك الدّاخلي من زيت الزّيتون. بل أكثر من ذلك، أنتَجَت هذه السياسة مُفارقة فريدة من نوعها تتمثّل في أنّ تونس التي تعدّ من أكبر المنتجين في العالم تأتي في ذيل الترتيب من حيث الاستهلاك المحلي، مقارنة ببقية الدّول المُنتجة والمُصدّرة لزيت الزيتون، إذ لا يتعدّى الاستهلاك في العقود الأخيرة 20% من الإنتاج. وقد عُرف نصيب الفرد منحى تَنازليا رغم التطوّر الدّيمغرافي، حيث انخفض من 6 كغ للفرد سنة 2000 إلى حوالي 3.5 كغ ، حاليا[12].

بالتوازي مع ذلك، شَهدَ استهلاك الزيوت النّباتيّة نموّا متواصلاً لتعويض الفارق الحاصل، جراء انخفاض إستهلاك زيت الزّيتون. يُفسّر هذا التغيّر النوعي والكمّي للنّمط الغذائي للتونسيّين بتغير النمط الزراعي والتشجيع الرسمي على سياسة التصدير. ولكن يعود هذا التغيير أساسا إلى منظومة الدّعم، حيث أدّى إرساء الصّندوق العام للتّعويض بصيغته الحالية، سنة 1971، إلى إجبار التّونسيّين على تغيير عاداتهم الغذائيّة الصحيّة وتوجيه استهلاكهم من القمح الصّلب إلى القمح الليّن، ومن زيت الزّيتون إلى الزّيوت النّباتيّة. بل أكثر من ذلك، هناك توجّه لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الزيوت النباتيّة عبر تخصيص 150 ألف هكتار لزراعة السّلجم الذي يستخرج منه زيت “الكولزا”، لتبقى الزيوت النباتيّة للتّونسيّين وزيت الزيتون للتصدير.

  1. تصريح للسيد حامد الدالي حسن، الرئيس المدير العام للديوان الوطني للزيت، النشرة الرئيسية للأخبار قناة الوطنية الأولى، 4 ديسمبر 2023.
  2. تقرير الديوان الوطني للزيت، “سير الموسم الزيتي 2023-2024 إلى غاية 12 جانفي 2024”.
  3. بلاغ وزارة الفلاحة بتاريخ 19 أفريل 2017.
  4. موقع وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، بيانات 2020.
  5. مجموعة العمل من اجل السيادة، “غذاؤنا فلاحتنا سيادتنا، تحليل للسياسات التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية”، جوان 2019.
  6. المرجع السابق.
  7. موقع وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، بيانات 2020.
  8. موقع وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، بيانات 2023.
  9. دراسة إستشرافية حول الأمن الغذائي وتنمية الصادرات في أفق 2030، المرصد الوطني للفلاحة، 2019. https://urlz.fr/pfRT
  10. “تونس: دراسة وتحليل منظومة زيت الزيتون”، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، روما، 2018.

    https://urlz.fr/pgpb

  11. observatoire tunisien de l’économie, « Politique d’exportation d’huile d’olive tunisienne : les intérêts de la Tunisie noyés ! », https://urlz.fr/pgZv
  12. المصدر: تونس: دراسة وتحليل منظومة زيت الزيتون”، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، روما، 2018. https://urlz.fr/pgpb
انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني