إغلاق عيون قرطاج السينمائية: كيف تحدد معايير التضامن والحزن والحداد؟


2023-10-24    |   

إغلاق عيون قرطاج السينمائية: كيف تحدد معايير التضامن والحزن والحداد؟
المصدر: أرشيف وحدة أفلام فلسطين 1974

“تضامنا مع شعبنا الفلسطيني الشقيق، واعتبارا للأوضاع الإنسانية الحرجة التي يشهدها قطاع غزة وكافة الأراضي الفلسطينية المحتلة جرّاء العدوان الصهيوني الغاشم، قرّرت وزارة الشؤون الثقافية إلغاء تنظيم الدورة 34 من أيام قرطاج السينمائية.” هكذا وبمنشور قصير على صفحتها الرسمية على فيسبوك، أعلنت وزارة الشؤون الثقافية في تونس يوم 19 أكتوبر الجاري إلغاء الدورة 34 من المهرجان السينمائي الدولي الأقدم في القارة الإفريقية والمنطقة العربية، والتي كان من المفترض تنظيمها ما بين 28 أكتوبر و04 نوفمبر 2023. علما وأنه لم يسبق إلغاء أي دورة على الرغم من الأحداث الجسام التي عرفتها البلاد والمنطقة منذ تأسيس هذا المهرجان سنة 1966. حتى عندما وقعت عملية إرهابية في 29 أكتوبر 2018 –قبل ثلاثة أيام من افتتاح النسخة 29 من الأيام السينمائية- في المنطقة التي تحتضن الجزء الأكبر من فعاليات المهرجان (شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس) لم تُلغَ الدورة، وانتظمت كل الفعاليّات حسب البرمجة التي سبقت الاعتداء.

هذه الدورة التي كان عنوانها الرئيسيّ الاحتفاء بمئوية السينما التونسية، سبق أن أعلن مُنظّموها في 29 سبتمبر الفائت -أي قبل انفجار الأوضاع في غزّة والأراضي المحتلة- عن قرارهم بتكريم المُخرج الفلسطيني “هاني أبو أسعد” تقديرا لمسيرته الفنية المتميزة. وهذا التكريم للسينما الفلسطينية يُعدّ من تقاليد أيام قرطاج السينمائية، إذ يندر أن تغيب فلسطين وقضيتها عن أي دورة منذ التأسيس إلى اليوم. ويبدو أن البلاغ الصادر عن إدارة المهرجان يوم 16 أكتوبر، والذي أعلِنَ فيه إلغاء كل المظاهر الاحتفالية وانطلاق الدورة 34 مباشرة بعرض المسابقة الرسمية، لم يكن كافيا بالنسبة لوزيرة الثقافة ورئيس الجمهورية. تمّ الإلغاء النهائي رغم وضوح الموقف الأول واختيار الكلمات: “تنتظم أيام قرطاج السينمائية لسنة 2023 تضامنا مع فلسطين واحتراما لنضالات شعب يعاني التقتيل والتدمير ويقاوم من أجل استرجاع الأرض. […] تنعقد هذه الدورة بإيمان راسخ أن التزامنا بمعاناة أشقائنا يمر أساسا عبر منح الفضاء لمُبدعيهم من خلال عروض الأفلام والنقاشات واللقاءات الفكرية.  […]تظلّ السينما والفن والثقافة من بين وسائل المقاومة الأكثر قدرة على مواجهة الخطاب الغادر والماكر للعديد من الإنتاجات السمعية والبصرية.” 

لاقى قرار الإلغاء النهائي استحسانا لدى كثير من التونسيين، ولكنه لم يحظَ بالإجماع خاصة في أوساط المثقفين والعاملين في مجال السينما وعشّاق الفنّ السابع. في حين اعتبر المساندون أن الإلغاء ينسجم مع حالة الغضب الهائلة السائدة في تونس إزاء الجرائم الصهيونية التي تقترف في حقّ الغزاويين وكل الفلسطينيين، رأى آخرون أن “الكراسي الشاغرة” ليست سياسة عملية ولا تخدم القضية الفلسطينية أو أي قضية أخرى، وأنّ للفن -خاصة السينما- دورها في فضح مختلف أشكال الاضطهاد ومقاومتها. وهناك حتى من اعتبر أن قرار الإلغاء له منطلقات ودلالات تتجاوز التضامن مع الشعب الفلسطيني. 

في معايير وأشكال التضامن 

مساء الجمعة 20 أكتوبر، أي بعد يوم واحد من قرار إلغاء الدورة 34 من أيام قرطاج تضامنا مع الشعب الفلسطيني، نظمت نفس الوزارة حفلا غنائيا في مسرح الأوبرا تحت عنوان “سهرة التضامن مع الشعب الفلسطيني”. وأحيا هذا الحفل -الذي حضرته الوزيرة حياة قطاط القرمازي مصحوبة بممثلين عن السفارة الفلسطينية- الفنانون لطفي بوشناق ودرصاف الحمداني ولبنى نعمان من تونس، والفنانة الأردنية مكادي نحاس، بمشاركة الأوركستر السمفوني التونسي. واعتبرت الوزارة أن هذا الحفل “رسالة تضامن ودعم ومناصرة للشعب الفلسطيني الباسل في دفاعه الدائم عن أراضيه المحتلّة وعن مقدّساته وهويّته العربية، وفي رفضه لكلّ أشكال العنف والاعتداءات الغاشمة التي يتعرّض لها مؤخرا، والتي تتناقض مع كل بنود المواثيق الدولية والممارسات الإنسانية”. نعم للموسيقى والغناء، ولا للسينما!  هل اعتبَر أصحاب قرار الإلغاء أن السينما “تسلية” رخيصة لا يجب التشجيع عليها في زمن الأزمات والحروب؟ لا ندري كيف وُضعت معايير التضامن والحزن والحداد، وما هو منطقها؟ ربما هو نفس المنطق الذي جعل الدولة تعتبر أن تنظيم مهرجان سينما أمر غير لائق و”لا إنساني” يُلهي التونسيين عما يحدث من فظاعات في فلسطين، لكن لا حرج في تنظيم مقابلات كرة القدم وغيرها من الأنشطة الرياضية التي تبثّ عبر القنوات العمومية. علمًا أن هناك فوارق عددية ضخمة ما بين جمهور “سينما المؤلف” وكرة القدم. كما لم تُعلن البلاد حدادًا رسميا ولم تلغِ أيّ تظاهرات بخلاف أيام قرطاج السينمائية. هل هذا “التمييز” غير مقصود، أم أنّه مجرد سوء تقدير، أم أنّ هناك خلفيات أخرى؟ 

كانت فرصة لـ “عودة الروح”

يبدو أنه لم يكن مُقدّرًا لدورة العام الحالي من أيام قرطاج السينمائية أن ترى النور. إذ أنّه منذ حوالي سنة، في 7 نوفمبر 2022، أعلنت وزيرة الثقافة أن أيام قرطاج السينمائية لن تنظَّم سنة 2023 بل في سنة 2024، ممّا يعني العودة إلى نسق دورة كل سنتين كما كان الحال ما بين سنة الـتأسيس 1966 و2014. ابتداء من الدورة 25 سنة 2015 أصبحت “الأيام” تنتظم بشكل سنوي، وهو ما اعتبره كثيرون مكسبا للسينما التونسية. لذلك غضب كثيرون عندما قرّرت الوزيرة العودة إلى النسق القديم. القرار المذكور تراجعت عنه الوزيرة، ربما بسبب ضغوط أهل قطاع السينما، إذ أعلنت في أفريل 2023 أن الدورة 34 ستنظم هذا العام وتُخصّص للاحتفاء بمئوية السينما التونسية. هذه اللخبطة جاءت في أعقاب الغضب الذي أبداه الرئيس سعيّد في اجتماع مع وزيرة الثقافة بعد يوم من اختتام الدورة الفائتة (2022)، حيث عبّر عن استيائه ممّا شاب أيام قرطاج السينمائية “من ممارسات حادتْ بها عن الأهداف التي أنشئت من أجلها”. وكان الرئيس يقصد “السجّاد الأحمر” والمظاهر الاحتفالية المبالغ فيها وحضور شخصيات لا علاقة لها بالسينما وبالثقافة عموما مثل “المؤثرات” و”المؤثرين” في منصات التواصل الاجتماعي.  لم يكنْ الرئيس سعيّد هو الوحيد المستاء من هذه الممارسات والمظاهر التي بدأت تتسلل إلى أيام قرطاج في الدورات الأخيرة حتى ضربت هويتها و”روحها”. كثير من محبّي السينما و “الأيام” يُنبّهون إلى ذلك منذ سنوات، ويحذّرون من سيطرة شخصيات وتوجّهات بعينها على قطاع السينما وتنظيم المهرجانات.  

عندما تأسّست “أيام قرطاج السينمائية”، كان لها نفس سياسيّ ملتزم واضح: خلق مجال لسينما “عالمثالثية”، عربية وإفريقية، مستقلة ومناضلة من أجل الانعتاق من الهيمنة الخارجية والاستغلال الاقتصادي وثقل التقاليد والنظم المجتمعية. وكانت القضية الفلسطينية -ومازالت على الرغم من كل شيء- إحدى أهم هذه القضايا. بمرور السنوات وتراجع التيارات التقدمية في العالم -في السياسة كما في الثقافة- بدأت “الأيام” تفقد هويّتها تدريجيا خاصة في السنوات الأخيرة من حكم النظام الاستبدادي لزين العابدين بن علي. بعد الثورة، لم يكُن مناخ حريّة التعبير وإقرار التنظيم السنوي لدورات المهرجان كافيا لتعديل المسار واسترجاع “الروح” الأصلية. على العكس، هيمَنت حفلتا الافتتاح والاختتام على فعاليات “الأيام” وصارتا مادّة دسمة لتغذية مواقع التواصل الاجتماعي. كما اتّسمت الدورات الأخيرة بهيمنة المُنتجين السينمائيين على إدارة المهرجان، ونفوذ متزايد للمستشهرين والداعمين. 

كلّ هذا فيه الكثير من الصحة، لكنه لا يبرّر التدخّل الفجّ والفجائي للسلطة السياسية في الشأن الثقافي؛ تدخّل صار يتكرر في الأشهر الأخيرة، ففضلا عن تدخل رئيس الجمهورية فيما يخص أيام قرطاج السينمائية في السنة الفائتة، فإنه تدخّلَ أيضا في صائفة 2023 لإبداء غضبه من بعض العروض الكوميدية والموسيقية في “مهرجان قرطاج الدولي“. كما أن إلغاء دورة 2023 لأيام قرطاج السينمائية جاء بعد أشهر قليلة من قرار وزيرة الثقافة بإقالة مدير “المركز الوطني للسينما والصورة” على إثر المشاكل التنظيمية التي شابت افتتاح “مهرجان منارات للسينما المتوسطية” دورة 2023، وذلك على الرغم من أن الوزارة هي التي حرمت إدارة المهرجان من الوقت والإمكانيات اللازمة لإنجاح التظاهرة. طبعا من حقّ الدولة أن تكون لها سياسات ثقافيّة وأن تكون لها سلطة مراقبة ومحاسبة على التظاهرات التي تُنظّم بتمويل عمومي، لكن هذا لا يمنحها الحقّ في التحكّم في كل التفاصيل. ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المناخ الاجتماعي في وزارة الثقافة محتقن أيضا. فقد نشب منذ فترة صراع بين عدد من الموظّفين والمثقّفين من جهة والوزيرة وفريقها من جهة أخرى: مجالس تأديب وعزل ومقاضاة ونُقل تأديبية. وبالعودة إلى “أيام قرطاج السينمائية” فإن الوزارة أضاعَت فرصةً لضرب “عصفوريْن” بحجر واحد: دعم القضية الفلسطينية وإعادة إحياء هوية وتاريخ المهرجان. 

أيام قرطاج الفلسطينية

منذ دوراتها الأولى احتضنت “أيام قرطاج” السّينما الفلسطينية ولم تتخلَّ عنها مذاك الوقت. كانت البداية بأفلام الثورة الفلسطينية التي أنتجَهَا مخرجون منتسبون إلى فصائل منظّمة التحرير الفلسطينية مثل مصطفى أبو علي ورفيق حجّار وغالب شعث والمخرج الشهيد هاني جوهرية وجان شمعون وغيرهم. ثم جيل ميشيل خليفي ومحمد بكري وهاني أبو أسعد وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي ومي مصري وهيام عباس، واللائحة تطول. وهذا دون تعداد أفلام المُخرجين غير الفلسطينيين ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي عموما. منذ الدورة الخامسة لأيام قرطاج السينمائية (1974) وإلى حدود الدورة 33 (2022) حصَدَ المخرجون والممثلون الفلسطينيون قرابة 30 جائزة من جوائز المهرجان في كل الفئات، أبرزها “التانيت” الذهبي لفئات الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والتسجيلية كذلك. يندر أن تتالت دورتان من المهرجان دون أن تفوز فلسطين بإحدى جوائزه، أو أن تحتوي برمجة “الأيام” فعاليات خاصة بفلسطين: تكريم مخرج فلسطيني، مختارات من الإنتاج الفلسطيني، إحياء ذكرى النكبة، إلخ. هذا دون أن ننسى فضاءات النقاش والحوار وتشبيك العلاقات مع سينمائيين أفارقة وأوروبيين التي كان المهرجان يُتيحُها. 

كان بالإمكان استغلال الدورة الملغاة في خدمة القضية الفلسطينية عبر برمجة عدد كبير من الأفلام الفلسطينية وعرضها مجانا في الساحات الكبرى، وتخصيص عائدات العروض في القاعات لدعم الغزاويين المحاصرين أو تمويل إنتاجات سينمائية فلسطينية. كان بالإمكان استغلال تجمّع عدد كبير من المثقفين والفنانين من جنسيات مختلفة لإطلاق حملة تضامن دولية. عشرات الأفكار كانت ممكنة لدعم القضية الفلسطينية دون إلغاء الدورة 34 من أيام قرطاج السينمائية، وحتى إن كان الوقت لا يسمح بتغيير البرمجة، فهناك “أبغض الحلال”: التأجيل وليس الإلغاء. في كل الحالات نرجو أن لا يكون الوضع في قطاع غزة غطاءً لتمرير قرار له مبررات أخرى قديمة لا علاقة لها بفلسطين. 

لا نجد كلمات نُعبر بها عن هذا القرار أفضل من تلك التي جاءت على لسان “حمرون الحكيم” الشخصية الكاريكاتورية دائمة الحضور في رسومات فنان الكاريكاتور التونسي توفيق عمران: “قِيل: “السينما عين مفتوحة على العالم”… ياخي وزارة الثقافة متاعنا طمزتها”. (وزارة ثقافتنا فقأت تلك العين المفتوحة على العالم). 

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني