ككلّ صيف، حظيت المهرجانات الثقافية والفنية بحيّز كبير من الاهتمام في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. نقاشات و”معارك” تمسّ كل الجوانب: برامج المهرجانات وإداراتها وميزانياتها وقائمة العروض وأجور النجوم وجنسياتهم، إلخ. بدأ الجدل قبيل الانطلاق الفعلي لموسم المهرجانات بأيام مع الحفل الذي أحياه المغني المصري أحمد سعد في مدينة بنزرت بتاريخ 01 جويلية الفائت ضمن فعاليات المهرجان الدولي للتخييم والفنون والرياضة، مقابل أجر بلغ 80 ألف دولار. وقد أثار إعلان الخبر استهجان كثير من التونسيين في الوقت الذي تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة وشحّا كبيرا في العملات الأجنبية، خاصة وأن الحفل شهد عدة مشاكل متعلقة بتأخر صعود المغني إلى الركح وقِصر الوقت الذي قضاّه فوقه ورفضه المشاركة في ندوة صحفية عقب الحفل، وصولا إلى تلاسنه مع مديرة المهرجان بشكل اعتبره كثيرون مهينا للمرأة التونسية.
افتتاح أضخم المهرجانات التونسية وأقدمها “قرطاج الدولي” في 14 جويلية أثار هو الآخر كثيرا من الجدل حول القيمة الفنية لعرض “محفل” للفنان التونسي فاضل الجزيري واستمرار تقاليد المحاباة والدعم لفنانين تونسيين بعينهم مقابل تهميش آخرين. نفس المهرجان شهد أزمة “أخلاقية” بسبب فقرة للكوميدي الفرنسي AZ استعمل فيها عدة مرات كلمة “بذيئة” (التسمية العامية التونسية للعضو الذكري) فتهاطلت الاعتذارات وبيانات التوضيح، ودخلت وزارة الثقافة على الخط قبل أن يدلي رئيس الجمهورية قيس سعيّد بدلوه هو الآخر.
أيضا مهرجان السينما المتوسطية “منارات” في دورته الرابعة التي كان يفترض أن يستمرّ من 22 إلى 29 جويلية 2023 ألغي بعد أقل من 48 ساعة من انطلاقه إثر تواتر المشاكل التنظيمية وأقيل مدير المركز الوطني للسينما والصورة -الهيكل المنظم للمهرجان- في الساعة الثانية فجرا. بالإضافة إلى كل هذا هناك نقاشات قديمة ومتجدّدة لا تخلو من الأحكام الأخلاقوية حول الذوق العام والمستوى الفني و”الأخلاق العامة” و”إرضاء” مختلف الأذواق، من دون أن ننسى الشكوى المستمرة منذ عقود من مركزة الثقافة والتفاوت في ميزانية وإشعاع المهرجانات بين مختلف مناطق البلاد.
خمسون عاما من المهرجانات
ظهرت المهرجانات في تونس مع بداية القرن العشرين مع استقرار الأمر للاستعمار الفرنسي في البلاد. في ذلك السياق شهد الموقع الأثري الروماني بقرطاج تنظيم عروض وتظاهرات فنية فرنسية وأوروبية منذ سنة 1906، لكن بشكل غير منتظم وغير مهيكل. وكذلك الحال مع الموقع الأثري الروماني “دقة” (ولاية باجة) الذي احتضن أول المهرجانات منذ سنة 1921. وطبعا لم يكن الأهالي التونسيون معنيبن بهذه الأنشطة.
بعد استقلال تونس في 1956 شَرعت الدولة الفتيّة في صياغة سياساتها الثقافية، وكان إقرار تنظيم “كرنفال أوسّو” بمدينة سوسة في 24 جويلية من كل عام انطلاقا من سنة 1958 أولى الخطوات. لكنّ العمل الثقافي الرسمي والفعلي سينطلق في سنة 1961 مع إنشاء وزارة الثقافة على يد الشاذلي القليبي (الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية) والتي ستستلهم فلسفتها وسياسَاتها من التجربة الفرنسية التي انطلقت قبلها بسنتين مع إنشاء المفكّر والروائي الفرنسي أندريه مالرو لوزارة الشؤون الثقافية وإشرافه عليها طيلة عشرية من الزمن. كانت “الثقافة للجميع” و”دمقرطة الثقافة” و”لامركزية الثقافة” من أهم أعمدة فلسفة مالرو في إدارة الشأن الثقافي، وقد حاول جيل “الآباء المؤسسين” في تونس استنساخ بعض التجربة الفرنسية لكن بتفاوتات كبيرة بحكم محدودية الموارد البشرية والتقنية والمالية، والاستبداد السياسي الذي كرّسه نظام الحزب الواحد، والفوارق التنموية بين مختلف جهات البلاد.
شرعت الدولة التونسية أواسط الستينيات في بناء دُور ثقافة في مناطق متعددة وأرست تدريجيا سياسة دعم مالي للإنتاج الفني والثقافي واستثمرت في بنى تحتية ثقافية، وأسّست تباعا عدة مهرجانات دولية أغلبها ما زال موجودا إلى اليوم: قرطاج الدولي 1964، مهرجان الحمامات الدولي 1964، أيام قرطاج السينمائية 1966، مهرجان طبرقة للجاز 1970، مهرجان المنستير الدولي 1972، مهرجان “دقة” 1976، مهرجان صفاقس الدولي 1978، المهرجان الدولي للقصور الصحراوية بتطاوين 1979، مهرجان “السيليوم” القصرين 1979 ومهرجان مهرجان العبادلة الأثري الدولي 1980، مهرجان بنزرت الدولي 1982، أيام قرطاج المسرحية 1983، مهرجان الجم للموسيقى السمفونية 1986. جلّ هذه المهرجانات صيفية ومُخصّصة أساسا للغناء والموسيقى مع بعض العروض المسرحية والسينمائية، كما أن أغلبها يقام في مواقع أثرية أو سياحية: المواقع الأثرية الرومانية في شمال ووسط البلاد (تونس، باجة، زغوان، القصرين، المهدية) أو العربية الإسلامية (سوسة والمنستير) والأمازيغية (تطاوين). خلال فترة حكم الحبيب بورقيبة، كان تنظيم المهرجانات واختيار العروض وأماكن إقامتها ينبع من ثلاثة دوافع أساسية: دور الدولة الراعية في “تثقيف الشعب” و”الارتقاء بذوقه” (بعض التعبيرات الفنية الشعبية مثل “المزود”[1] كانت ممنوعة من المهرجانات ووسائل الإعلام في ظل حكم بورقيبة)، وربط الأنشطة الثقافية بالقطاع السياحي والترويج للمعالم الأثرية، وتسويق صورة البلد المنفتح على العالم والمزدهر فنيّا وثقافيا بفضل نظام سياسي “حداثي” وراعٍ للثقافة والفنون.
مع وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة إثر انقلابه على بورقيبة في خريف 1987 ستشهد المهرجانات طفرة حقيقية، على الأقل كمّيّا. مئات المهرجانات المحلية والجهوية -أغلبها صيفي- نَبتت في ربوع تونس ما بين 1990 و 2010، بشكل لا يخضع لمنطق اقتصادي أو تصور ثقافي واضح. حافظت أغلب المهرجانات “العريقة” على إشعاعها وجماهيريتها، لكنها أصبحت أقل “نخبوية” في برمَجتها وانفتحت أكثر على تعبيرات فنية شعبية تونسية مثل “الحضرة” و”البدوي” و”المزود” (عرض “النوبة” 1991 يعتبر “حدثا تاريخيا” في مسيرة المهرجانات التونسية) كما تراجع حضور المسرح (باستثناء الكوميديا) في قائمة العروض وتزايد حضور نجوم المشرق العربي الذين صنعت شهرتهم القنوات الفضائية وشركات الإنتاج الخليجية. هذه المتغيرات زادت في جماهيرية المهرجانات الصيفية، لكن كثيرين اعتبروا أنها حادت عن دورها الأصلي في “تثقيف” الشعب و”تهذيب” ذوقه.
إغراق البلاد بالمهرجانات في فترة حكم بن علي -بغض النظر عن جودة العارض والمعروض- يمكن أن يُفهم من عدة مستويات. على المستوى الداخلي اندرجت المهرجانات ضمن الدعاية للنظام الحريص على كسر عزلة “مناطق الظل” (الدواخل المهمشة)، وتطبيق مقولة “خبز وألعاب” أو سياسة الإلهاء، وشراء سكوت وولاء جزء هام من الفنانين والمثقفين ترغيبا وترهيبا. أما على المستوى الخارجي فإن وفرة المهرجانات الصيفية والإقبال الكبير عليها مفيد من حيث التسويق لصورة البلد “السعيد” والآمن وحتى للبرهنة على أن بن علي لا يقلّ عن بورقيبة اهتماما بالفنون والثقافة عموما.
رحيل بن علي في جانفي 2011 ستتبعه أيضا طفرة في المهرجانات، كمّيّا ونوعيّا هذه المرة. مناخ حرية التعبير والفعل السياسي والثقافي والارتخاء النسبي لقبضة السلطة السياسية المركزية التي أعقبتْ تخلخل النظام التونسي حفّزت المبدعين وبقية الفاعلين في المجال الفني والثقافي وفسحت المجال أمام تعبيرات جديدة مثل فنون الشارع والموسيقات البديلة وإبداعات الأقليات الإثنية والجنسية والجندرية، إلخ. كما أن قوة حضور المجتمع المدني كميا وفعليا في المشهد التونسي بعد الثورة وتوفر تمويلات وبرامج رعاية من جهات غربية وعربية للمشاريع الثقافية والفنية خَلَقَ إمكانات دعم وتمويل للمبدعين ومنظمي التظاهرات وبقية الفاعلين. هذا الوضع الجديد الذي بدأت ملامحه تختفي في السنوات الأخيرة سَهّلَ ولادة عشرات وربما مئات المهرجانات.
هناك اليوم حوالي 800 مهرجان في تونس حسب التقديرات التي وردت في ندوة نظمتها وزارة الثقافة في ماي 2022 تحت عنوان “المهرجانات قاطرة للتنمية”، نصفها يُنظم خلال شهري جويلية وأوت، وأكثر من 40% منها متعدد الاختصاصات. ومن بين هذه المئات من التظاهرات السنوية نجد 35 مهرجانا دوليا فقط.
وَفرة، ولكن!
800 مهرجان في بلد لا يتجاوز عدد سكّانه 12 مليون نسمة. يبدو الرّقم مُحترمًا ويُوحي بأن هناك دينامية ثقافية هائلة وطلبًا جماهيريا كبيرا على العروض الفنية. لكن هذا الرقم يشبه نسب النمو الاقتصادي التي كان يتباهى بها نظام بن علي، والتي كانت بمثابة الشجرة التي تُخفي غابة من التفاوت في التنمية بين الجهات وتوزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعية. وهذا التفاوت لم يغبْ عن المهرجانات التونسية منذ نشأتها إلى اليوم. في أعلى الهرم نجد مهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين اللذين يحظيان بالنصيب الأكبر من الاعتمادات التي ترصدها وزارة الثقافة لدعم المهرجانات الصيفية: في سنة 2022 بلغت ميزانية مهرجان قرطاج 3،9 مليون دينار، وحوالي 1،6 مليون دينار لمهرجان الحمامات في دورته الحالية. بعدهما نجد مهرجانات “طبرقة الدولي للجاز” و” دقة الدولي” و”الجم الدولي للموسيقى السمفونية” الذين تقدّر ميزانية كل واحد منها بحوالي نصف مليون دينار. هذه المهرجانات الخمسة تتعامل معها وزارتي الثقافة والسياحة باعتبارها “وجه البلاد” وتغدق عليها أكثر من بقية المهرجانات خاصة وأنها تشهد إقبالا من الأجانب. في المقام الثالث، تأتي بقية المهرجانات الدولية الموزّعة على مراكز الولايات خاصة في الواجهة الشرقية للبلاد. وهذه لا يتجاوز الدعم الذي تحظى به مائتي أو ثلاث مائة ألف دينار في أفضل الأحوال. أما المهرجانات المحلية و”المجهرية” فتتقاسم فيما بينها الملاليم المتبقية من ميزانية محدودة جدا.
التفاوت في الميزانيات يصبح أكثر حدة في الولايات التي لا توجد بها حركية اقتصادية كبرى مما يعني صعوبة أكبر في الحصول على عقود استشهار ورعاية من القطاعين العام والخاص. كما أن رداءة ومحدودية شبكات النقل العمومي (من حيث عدد الخطوط وطولها ومدة عملها اليومية) في أغلب المناطق التونسية تشكّل حاجزا أمام كثير من التونسيين الذين لا يمتلكون وسائل نقل خاصة تمكّنهم من الوصول بشكل مريح وآمن إلى فضاءات المهرجانات التي يقع جزء كبير منها في مناطق بعيدة نسبيا عن مراكز المدن.
في أغلب المهرجانات لا تغطّي مبيعات التذاكر النفقات الضرورية للتنظيم، فيظلّ الاعتماد على الدعم كبيرا. وتتداخل الجهات الداعمة والمموّلة للمهرجانات، فمن جهة هناك وزارات الثقافة والسياحة والسلطات الجهوية والمحلية والمؤسسات الاقتصادية العمومية الكبرى، ومن جهة أخرى القطاع الخاص وبعض مكوّنات المجتمع المدني. وعندما نتحدث عن الدعم، فبالضرورة ستكون هناك شروط أو على الأقل “توجهات” من قبل الداعمين يجب على منظمي المهرجانات أخذها في الحسبان: فرض أو إقصاء أذواق فنية وأسماء بعينها، التركيز على العروض التجارية الأكثر إغراءً للجمهور مما يمنح ظهورا أكبر للمستشهرين ومؤسساتهم، إلخ. وحتى بعيدا عن مسألة التمويل فإن اختيار برمجة كل مهرجان ليست بالأمر اليسير. فهناك من جهة هاجس الحفاظ على “هوية وعراقة” المهرجان و”الارتقاء بالذوق العام”، ومن جهة أخرى إرضاء أوسع قطاعات من الجمهور وضمان بيع أكثر ما يمكن من التذاكر. طبعا بعض المهرجانات مثل “جاز طبرقة” و”الموسيقى السمفونية بالجم” و”حمامات الدولي” وحتى بعض المهرجانات “الصغيرة” المخصصة لأجناس موسيقية أو مسرحية وسينمائية بعينها لا تُواجهها هذه المشكلة، فهويتها و”نخبويتها” واضحتان. بقية المهرجانات وبخاصة الدولية تعلن في أغلب الأحيان عن برامج غير متجانسة: أغلب العروض غنائية؛ جزء صغير منها مخصص لنجوم المشرق العربي وأحيانا لأسماء عالمية، والجزء الأكبر تونسي مُوزع بين عروض كلاسيكية موجهة لجمهور الكهول “الرصين والذواق” وأخرى شبابية و”شعبية” (مزود، راب، حضرة، الخ) للجمهور العريض. ويُضاف إلى كل هذا “رشة” من العروض المسرحية -الكوميدية بالأساس- أو السينمائية.
نادرا ما نجد عروضا مخصصة للأطفال، على الرغم من أن هذه المهرجانات تُنظم في قلب العطلة الصيفية. وعلى الرغم من هوس منظمي المهرجانات بـ “إرضاء مختلف الأذواق”، فإن الكثير من الأجناس والأنماط الفنية – خاصة التي تسمى بديلة والتي تهدد” القيم السائدة arts subversifs- تغيب تماما عن أغلب التظاهرات. الكلّ تقريبا يريد أن يتدخل في وضع قائمة عروض المهرجانات: الجهات الرسمية والممولين والجمهور (خاصّة بفضل ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من قوة تأثير وقدرة على التفاعل والتقييم الفوري). حتى النقابات الأمنية تضغط ولا تتردد في اتخاذ موقف من بعض العروض والفنانين. سبق لنقابات الأمن أن رفضت تأمين عدة عروض خاصة لمغني الراب احتجاجا منها على “رسائل الكراهية والتحريض” ضد الأمنيين والمس من معنوياتهم التي تحتويها بعض الأغاني. بل وحاولت في بعض الأحيان منع العروض، مثلما حدث مع الكوميدي لطفي العبدلي في مهرجان صفاقس الدولي في أوت 2022.
لا تقتصر مَشاكل المهرجانات على التمويل والبرمجة، هناك أيضا مسألة الإدارة. لطالما خضعت تسميات الهيئات المُشرفة على التنظيم لمعايير الولاء السياسي للنظام والحزب الحاكم والانتماء للشبكات الزبائنية المقرّبة من مركز القرار في وزارة الثقافة. ولئن تغيّرت الأمور قليلا بعد الثورة، فإنّ هذه “التقاليد” ما زالت سارية سواء تعلّق الأمر بمهرجانات دولية “عريقة” أو مهرجانات محلية “مغمورة”. ربما كنّا لننسى مسألة المحسوبية هذه لو أن أغلب المعينين لديهم الكفاءة الضرورية للوقوف على كل التفاصيل الضرورية لإقامة مهرجان ناجح، المشكلة أن عددا غير قليل منهم لا يتمتع بمعرفة كافية بالمجال الفني والثقافي أو لا خبرة لديه في الجوانب الإدارية والمالية والتواصلية، ممّا ينعكس بشكل واضح على المهرجانات من حيث ظروف العرض واستقبال الجمهور. وعلى الرغم من وجود متخصصين في التنشيط وإدارة التظاهرات الثقافية، فنادرا ما نجدهم يحتلون مواقع هامة في الهيئات المديرة للمهرجانات. حتى “المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية” التي أنشأت بمقتضى الأمر 733 لسنة 2014 والمكلفة بـ “تنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية الراجعة بالنظر إلى الوزارة المكلفة بالثقافة” فإن تدخلها فعليا يقتصر على مهرجان قرطاج الدولي وأيام قرطاج المسرحية ومعرض تونس الدولي للكتاب وأيام قرطاج الموسيقية، وكلّها تظاهرات تنظّم في العاصمة تونس.
ويمكن أن نضيف إلى الإشكاليات المتعلقة بالمهرجانات مسألة الشفافية، إذ يصعب الحصول على التقارير المالية للمهرجانات الدولية الكبرى التي تمنح مئات الآلاف من الدنانير المتأتية من الخزينة العامة. فما بالك بالمهرجانات الأصغر حجما والأبعد عن الأضواء؟ وإذا ما أمكن الحصول على بعض الأرقام فيما يخص الميزانيات المرصودة لعدد من المهرجانات فنادرا ما نجد أرقاما تفصيلية للنفقات والعائدات المالية لكل عرض مبرمج. الانتشار النسبي لثقافة بيع تذاكر العروض عبر المنصات الإلكترونيّة قد يعزّز شفافية الإدارة المالية للمهرجانات، لكن ليست كل التظاهرات منخرطة في البيع الإلكتروني. وحتى تلك التي تعتمد هذه الآلية قد تتراجع عنها مثل ما حدث في مهرجان صفاقس في دورته الحالية، حيث أعلمت الهيئة المديرة في 20 جويلية الأشخاص الذين حجزوا مقاعدهم عن بعد لعرض مبرمج يوم 21 من نفس الشهر بضرورة استبدال التذاكر الإلكترونية بأخرى ورقية تباع في نقاط البيع المادية التابعة للمهرجان.
الرئيس يُدلي بدَلوه
عقب حادثة الكوميدي الفرنسي التي أشرنا إليها في بداية المقال، استقبل رئيس الجمهورية السيّدة حياة قطاط القرمازي وزيرة الشؤون الثقافية يوم 18 جويلية في قصر قرطاج. ومثّل اللقاء مناسبة لشرح رؤية الرئيس سعيّد للمهرجانات الثقافية والفنية، إذ ذكّر “بالأهداف النبيلة التي أنشئت من أجلها المهرجانات في تونس في السنوات الستين من القرن الماضي، فمهرجان قرطاج ومهرجان الحمامات والأيام السينمائية لقرطاج وغيرها كان الهدف منها نشر الثقافة والارتقاء بالمجتمع”، وبأن “مسرحي قرطاج والحمامات، على وجه الخصوص، لم يكونا مفتوحين إلا أمام الفنّانين المبدعين الملتزمين ولم تكن تطأ أقدام أحد خشبتي هذين المسرحين من الذين لا علاقة لهم لا بالفنّ ولا بالثقافة، بل يتمّ الاختيار الدقيق على من هو جدير بالفعل بأن يشارك فيهما مشاركة تتناغم مع السياسة الثقافية للدولة”. ولم ينسَ الرئيس أن يوضحّ بأن “ما حصل على مسرح قرطاج يوم أول أمس فيه اعتداء لا على هذا المهرجان ذي التاريخ التليد، بل يرتقي إلى مرتبة الجريمة التي يعاقب عليها القانون”، ولم يفتْه الربط بين ما حدث في قرطاج بالمؤامرة الكبرى التي تحيك خيوطها أطراف مجهولة “فالتنكيل بالشعب في قوته ومعاشه وفي حقّه الطبيعي في الماء إلى جانب التنكيل به في التعليم والثقافة ليس من قبيل الصدفة، بل هو مدبّر له لضرب الوطن والدولة”.
هذا الخطاب تفوح منه روائح تونس الستينيات بقائدها “المثقف” ودولتها الحريصة على “تربية” الشعب و”حمايته” من الجهل والأفكار الهدّامة. ويبدو أن وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي تأثرت كثيرا بأفكار وتوجيهات الرئيس، فعقدت يوم 19 جويلية اجتماعا بالمديرة العامة للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية والسيد مدير عام المركز الثقافي الدولي بالحمامات دار المتوسط للثقافة والفنون وأعضاء هيئتي مهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين لتذكرهم بدورهم في “الرقي بالذوق العام من خلال مراجعة الاختيارات الفنية واحترام الجمهور التونسي وعدم الحياد عن السياسة الثقافية للدولة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز دور المهرجانات المرجعية في تحقيق ذلك.”
هذه الغضبة المشتركة بين رئيس الدولة ووزيرة الثقافة تشبه كثيرا غضبتهما إثر نهاية فعاليات أيام قرطاج السينمائية. فالرئيس لم يعجبه “البهرج” الذي رافق حفلي افتتاح واختتام “الأيام” واعتبرها “ممارسات حادت بها عن الأهداف التي أنشئت من أجلها”. وجاء هذا الكلام خلال لقاء مع وزيرة الثقافة التي تفاعلت بسرعة وأعلنت عن نيتها إطلاق استشارة وطنية لتطوير أيام قرطاج السينمائية التي صارت تحتاج إلى “عملية شد جلد un coup de lifting”، وتحدثت أيضا عن إمكانية تنظيم التظاهرة مرة كل سنتين بدلا من كل سنة، كما كان عليه الحال قبل ثورة 2011.
طبعا من حق وواجب رئيس الجمهورية أن يخوض في الشأن الثقافي، وهذه أيضا مهام وزيرة الثقافة. لكن الخوف أن تتحوّل هذه التدخلات إلى شهوة للتحكم الكامل في الحقل الإبداعي وفرض قيم محافظة وتسلّطية.
كثرة المهرجانات هي عموما أمر إيجابي ومبهج، ولا ينبغي أن تكون الفوضى و”الرداءة” مبرّرات لخنق هذه المتنفسات القليلة المتبقية للمبدع والجمهور التونسيين في واقع يحفّز على الإحباط والكآبة. لكن وبما أن أغلب المهرجانات تُلاقي صعوبات مالية وتقنية كبيرة، كثير منها لا تصمد أكثر من دورتين أو ثلاثة، فمن الضروري أيضا التخلص من العشوائية والمحاباة والشبكات الزبائنية في إدارة المهرجانات ووضع قائمة العروض وفرض رقابة صارمة في مسائل الإنفاق حفاظا على المال العام. ليست الدولة مجبرة على تمويل كل المهرجانات، لكن من واجبها الحرص على أن يتمتع كل التونسيين بإمكانية حضور عروض ثقافية وترفيهية بمقابل معقول وفي فضاءات مخصصة لذلك، وألا تتعامل مع المهرجانات وباقي التظاهرات التي تحظى بتمويل عمومي باعتبارها منّة منها، وهنا تظهر مشكلة عدم التمييز بين “الحكومي” و”العمومي” التي تظهر جلية في تمثل السلطة السياسية الراهنة لمعنى الشأن العام وكيفية إدارته.
[1] المزود هو نمط موسيقي شعبي في تونس، وهو آلة نفخ تصنع من جلد الماعز (الهامش من وضع المحرّر)