مشاهد “استيفاء الحقّ بالذات”: نظام الإفلات من العقاب يُعيدنا إلى زمن ما قبل الدولة


2022-01-21    |   

مشاهد “استيفاء الحقّ بالذات”: نظام الإفلات من العقاب يُعيدنا إلى زمن ما قبل الدولة
المصدر: AFP | تصوير: أنور عمرو

بعد سنتيْن من قهر المُودعين وإخضاعِهم لديكتاتورية المصارف، برزت حادثة استثنائيّة في الخطاب العام في صبيحة يوم 18/1/2022. فقد دخل المواطن عبد الله الساعي إلى بنك بيروت والبلاد العربية (فرع جبّ جنّين) مُطالبًا بتسديده المبلغ المودع منه. وتداولتْ وسائل الإعلام أنه كان حائزا على كمية من البنزين (وربما وفق بعض وسائل الإعلام مسدس وهو أمر نفتْه شقيقته) وهدد باستعمالِهما في حال عدم الوصول إلى غايته وتاليا بحرق الفرع بمن فيه وما فيه، من دون أن يتسنّى لنا التّأكد من هذه الوقائع. تبعا لذلك، نجح الساعي في الحصول على وديعته البالغة قيمتها 50 ألف دولار أميركي والتي يبدو أنه سارع إلى تسليمها لأحد أقاربه قبلما يُقدم على تسليم نفسه. وفي حين تمّ توقيفه من قبل النائب العامّ في البقاع منيف بركات في اليوم نفسه، فإنّ هذا الأخير نشر توضيحاً من خلال المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى بأنه أصدر إشارة بضبط المبلغ، وهو أمر يفهم منه أنّ المبلغ ما يزال بحوزة الأشخاص الذين استلموه منه. 

فور الإعلان عن هذا الحادث، انتشرتْ بشكلٍ واسع علامات التأييد والتعاطف، على خلفيّة أنّه نجح في خرق منظومة مصرفيّة سطتْ على أموال عشرات آلاف المودعين الذين وجدوا أنفسهم من دون أي حماية قضائية فعالة لحقوقهم الأساسية. وهذا ما عبّرت عنه بشكل خاصّ جمعيّة المودعين التي قالت أنّ “عائلة عبدالله الساعي أصبحت داخل مقرّ الجمعية وبحماية أعضائها وأنّ أيّ محاولة لسرقة مبلغ ال 50 ألف دولار من العائلة لصالح بنك BBAC سنُواجهها بالقوة شاء من شاء وأبى من أبى”. وقد ظهر التّعاطف من خلال شهادات عدّة على وسائل التواصل الاجتماعي أكّدت على تضامنها التامّ مع السّاعي وعائلته. فكأنّما السّاعي عبّر بفعله عما يختزنه عشرات آلاف المودعين من مشاعر قهر وغضب.

ويجدر التّذكير بأن هذه الحادثة تأتي تبعا لحادثتيْن أخرييْن عمد فيهما موظّفان من موظفي مصرفيْن مختلفيْن إلى إجراء قيود لسحب قيمة ودائعهما: الأول موظف في مصرف الاعتماد اللبناني فرع برج البراجنة وهو نائب مدير استغلّ تولّيه مسؤولية إدارته بسبب غياب المدير وقد عمد إلى سحب مبلغ تضاربتْ المعلومات حول قيمته بين 142 ألف أو 300 ألف دولار قبلما يغادر الأراضي اللبنانية.

الثاني، موظف لدى مصرف الاعتماد Credit Bank في فرع الجديْدة وقد استطاع سحب وديعته البالغة قيمتها 256 ألف دولار، سدّد منها 56 ألف دولار كقرضٍ متوجّب عليه وأخذ الباقي. تمّ القبض على هذا الأخير وهو في المطار بناء على إشارة المحامية العامة في جبل لبنان نازك الخطيب بتوقيفه ومنع سفره وذلك على خلفية ادّعاء قدّمه المصرف ضدّه بارتكاب جرّم سرقة. إلا أنّه بعد التحقيقات التي أجرتْها القاضية الخطيب وإبراز الموظف المدّعى عليه مستندات تُثبت امتلاكه حسابًا بقيمة الأموال التي أخذها من المصرف، أصدرت قرارا بتركه بسند إقامة قبلما تدعي عليه أمام القاضي المنفرد الجزائي في المتن ليس بجرم السرقة المدعى به، بل بجرم استيفاء الحقّ بالذات سندا للمادة 429 من قانون العقوبات والتي لا تتعدّى عقوبتها غرامة بقيمة 200 ألف ليرة لبنانية. ويُمكن تفسير قرار الخطيب بالعودة إلى تعريف جرم السرقة في المادة 635 من قانون العقوبات والذي يعتبر أنّ السرقة هي “أخذ مال الغير خفيةً أو عنوةً” في حين أن استيفاء الحق بالذات يفترض أن المال الذي تم وضع اليد عليه هو مال يعود للمدّعى عليه. 

كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المشاهد على اختلافها أعادتْ إلى الذاكرة مشاهد كانت اعتياديّة وشبه يوميّة حصلتْ في فترة ما بعد توقّف المصارف عن تسديد الودائع ابتداء من 17 تشرين الأول 2019. وقد تمثلت هذه المشاهد في التظاهر والاعتصام داخل المصارف وحولها لتمكين المودعين من الحصول على أموالهم، ولم تنحسر إلا بعدما استُخدمتْ الأجهزة الأمنية لحماية المصارف بقرار من وزيرة الداخلية آنذاك ريّا الحسن وصولا إلى منع التجمعات في أول فترات التدابير لمواجهة جائحة الكورونا. 

هذه المشاهد تستدعي الملاحظات الآتية: 

مشهدٌ مرتقب لبِلاد تسودها مشاهد الإفلات من العقاب

منذ 17 تشرين، نشهد مشاهد شبه يوميّة لإفلات كلّ ذي نفوذ من العقاب، وبخاصة أصحاب المصارف. وآخر هذه المشاهد الفاضحة، تدخُّل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من خلال النائب العام التمييزي غسان عويدات لتعطيل المداهمة التي قام بها المحامي العام القاضي جان طنّوس للحصول على معلومات من ستة مصارف في قضية رياض سلامة وشقيقه، وذلك في 11 كانون الثاني 2022. واللافت أن ميقاتي وصف الجهاز الأمني بالمسلحين، ذاهباً إلى حدّ القول أنّه ارتكب بفعل دخوله إلى المصرف لمؤازرة القاضي طنوس ما لم ترتكبه إسرائيل. وقبل أيام من وقف هذه المداهمة، كان الوزير علي حسن خليل الصادرة مذكرة توقيف غيابية بحقه في قضية تفجير المرفأ يتباهى بعقد مؤتمر صحافي منقول مباشرة بما يوحي عملياً أنه أقوى من القانون، وكل ذلك بعد سنة شهدتْ أكبر حملات التحقير والتنمّر والتهديد بحق القضاء وبخاصة بحق المحقق العدلي طارق بيطار الناظر في إحدى أخطر الجرائم المرتكبة في لبنان. الأمر نفسه انسحب على أعمال التهريب والتخزين التي شملتْ السلع المدعومة والتي انتهتْ في غالبها ربحاً فاحشاً في خزائن محتكرين ومهربين مقابل إذلال المواطنين أمام محطات البنزين وفي الأسواق للحصول عليها. علماً أنّ تمويل الدعم كان يتم بعلم الجميع من الاحتياطي المقتطع لدى مصرف لبنان من أموال المودعين. هذا دون الحديث عن وقوف محكمة التمييز في عدد من قراراتها الصادرة في 2020 و2021 في مواجهة حقوق المودعين باسترداد ودائعهم وعن التسوية التي جرت بين النائب العام التمييزي وجمعية المصارف وعن بقاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في منصبه رغم حجم الكارثة المالية التي أسهم بها وشبهات الفساد وتبييض الأموال التي تحوم حوله.   

وعليه، بفعل هذه المعطيات، بدا بوضوح محدودية الدور المتروك للقضاء بل عجزه في حماية المودعين والمواطنين عموما، الذين تحولوا إلى ضحايا لنظام لا يُعاقب مع ما يولّده ذلك من مشاعر قهر يتأرجح بين الغضب واليأس. ومن غير المُستغرب في ظلّ ظروف كهذه قوامها عجز الدولة عن ضمان العدالة لمواطنيها أن يستشعر هؤلاء أنه لم يعد لهم طريق للوصول إلى حقوقهم سوى استيفاء الحق بالذات وبالوسائل غير العنفية التي قد تتوفر لهم كما حصل مع موظفي المصارف في الجديدة وبرج البراجنة أو العنفية كما حصل  في جب جنين. ومن هذه الزاوية، بإمكاننا القول أن مشهدية جب جنين وما قد تحفزّه من مشهديات مشابهة هي نتائج شبه حتمية لمشهدية تدخلات القوى النافذة في جرائم المصارف كما في جرائم الاحتكار والانهيار والتفجير. وهي مشهديّة تؤكد أن المسؤولية الكبرى عن هذه الحادثة يتحملها كل من يدعم عن قصد أو غير قصد منظومة الإفلات من العقاب. 

عبد الله الساعي الضحيّة

على ضوء ما تقدم، لا يمكن فصل المسؤولية الجزائية لعبد الله الساعي عن عجز نظام العدالة عن ضمان حقوقه، بما حرمه من مدّخراته وحوّله إلى ضحيّة له. وتثبت وقائع الحادثة التي تداولتْ بها وسائل الإعلام (أخذه مبلغا معادلا لقيمة وديعته، تسليمه المال لعائلته وتسليم نفسه للقوى الأمنية) أن نيته لم تذهب نحو الإضرار بالغير (المصرف أو مدرائِه وموظّفيه)، بل فقط لاستيفاء حقّه الذي سطا المصرف عليه من دون زيادة. ومن شأن هذه المعطيّات أن تكون حاسمة في توصيف الفعل وتحديد المسؤولية. ففي حين أنه لا مكان للادّعاء بالسّرقة لمن استعاد وديعته إنما فقط بجرم استيفاء الحق بالذات تماما كما انتهت إليه القاضية الخطيب، فإن أيّ عمل عنفي أو تهديد قد يثبت أنه قام به لهذه الغاية (وهو يستدعي التشدّد بحقّه بحسب قانون العقوبات) يقبل أوسع الأسباب التخفيفية نظرا لكونه قبل كلّ شيء ضحية وتحديداً ضحية مصارف أعلنت نفسها فوق القانون. كما أنه يلحظ نتيجة لذلك أنه ليس للمصرف المطالبة باسترداد أي مبلغ طالما أن المبلغ الذي أخذه هو أصلا حقّ له ممّا يوجب على النيابة العامة التراجع عن إشارتها بضبط المبلغ المذكور.   

فعل إدانة لنظام الإفلات من العقاب وانتفاضة تضغط لوضع حدّ له 

انطلاقا ممّا تقدّم، يشكّل هذا الفعل (اضطرار الضحية على اللجوء إلى وسائل عنفيّة لتحصيل حقّها مع ما يستتبع ذلك من مخاطر واقعيّة وقانونيّة عليها) قبل كلّ شيء شاهدا على مستوى الظلم الذي وصل إليها النظام اللبناني وإدانة له ولكل من يسهم بدعمه بطريقة أو بأخرى، وفي الآن نفسه جرس إنذار لا يمكن تجاهل ضجيجه، يحذر من مخاطر الاستمرار في نفس المظالم بما يقوّض الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي. ومن هذه الزاوية، بإمكاننا القول بأن هذا الفعل هو بمثابة انتفاضة تُحرّك المياه الراكدة وتضع السلطة الحاكمة أمام مسؤولياتها التي طالما أخلّت بها. وما يزيد من قوة هذه الانتفاضة هو الدعم الشعبي الذي حظيَت به في الخطاب العام على اعتبار أن للجوء إلى وسائل عنفيّة لاستيفاء الحقّ بالذات أصبح الطريقة الوحيدة المتاحة بعدما ثبت فشل كل الوسائل الأخرى. 

ومن المهمّ في هذا الصدد، ومع تفهّمنا الكامل لمشاعر الضحايا بالقهر واليأس وما قد يقدمون عليه من جراء ذلك وتأكيدِنا على وجوب استفادة عبدالله الساعي من أوسَع الأسباب التخفيفيّة (فمن الظلم التركيز على محاسبة الضحية أيا كان فعلها في ظل الاستمرار في تجاهل جرائم الجهات التي تسببت بقهرها)، التنبيه بأن وسائل كهذه ليست متاحة للجميع وأنّها تشكّل بأحسن الأحوال انتفاضة ترعب السلطة وتحفّز الرأي العام لمزيد من الحراك والمواجهة من دون أن يكون بإمكانها أن تضع بحدّ ذاتها حدّا للمظالم المعمّمة والتي حوّلت المجتمع برمّته إلى مجتمع من الضحايا. وأكثر ما يجدر التحذير منه في هذا الخصوص هو أن تكون القوى نفسها المستفيدة حاليا من نظام الإفلات من العقاب (ومنها المصارف والأحزاب الحاكمة) هي نفسها المستفيدة من عودة نظام ما قبل الدولة بالنظر إلى فائض القوة الذي تتمتع به. 

وعليه، ومهما بلغ التعاطف مع الساعي ومحفزات انتفاضته وأثرها الإيجابي على الحراك العامّ، لا يجب أن ننسى أنّ وضع حدّ المظالم التي تسببها اللادولة يتم بمزيد من الدولة وليس بمزيد من اللادولة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، قضاء ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، مجزرة المرفأ ، محاكم جزائية ، انتفاضة 17 تشرين ، مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، مصارف ، قرارات قضائية ، ملكية خاصة ، استقلال القضاء ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني