أي أثر لقرارات المجلس الدستوري أمام القضاء الاداري؟ (قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010 نموذجا)


2013-01-31    |   

أي أثر لقرارات المجلس الدستوري أمام القضاء الاداري؟ (قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010 نموذجا)

في دراسة نشرت في الكتاب السنوي للمجلس الدستوري 2012 (ص 87-161)، لفت طارق المجذوب النظر الى أمر بالغ الأهمية قوامه أثر القوة الملزمة للقرارات الصادرة عن المجلس الدستوري على صعيد القضاء وخصوصا مجلس شورى الدولة. فمبدئيا، وعلى خلاف دول عدة، ليس للمتقاضي الطعن مباشرة بدستورية نص قانوني فذلك يبقى امتيازا للرؤساء الثلاثة ولعدد من النواب يمارسونه ضمن فترة زمنية محددة (شهر بعد صدور القانون)، مما يؤدي الى ابقاء نصوص عدة نافذة رغم اتفاق عام على عدم دستوريتها بل سوئها، مع ما يستتبع ذلك من مظالم. وقد ورد في الخطة الوطنية لحقوق الانسان التي اقرتها لجنة حقوق الانسان في المجلس النيابي وجوب تعديل القانون لاعطاء المواطن هذه الصلاحية. ولكن ماذا يحصل اذا كان تسنى للمجلس الدستوري اعلان عدم دستورية نصوص، هي في مضمونها مماثلة لنصوص أخرى يتعين على القضاء تطبيقها في قضية معينة؟ فهل تتغير الوضعية اذ ذاك؟ هل يمنح ذلك المتقاضي بابا لاستبعاد هذه النصوص ومعه سلاحا قويا للتملص من سوئها المحتمل؟ بل هل يكون القاضي ملزما بذلك، مع ما يستتبع ذلك من تغيير على صعيد الوظيفة القضائية؟ هذه هي الأسئلة التي سعى الكاتب الى الاحاطة بها في الدراسة المنشورة، من خلال قراءة نقدية لتوجهات متناقضة تجلت في اطار عمل مجلس شورى الدولة. وتقوم المفكرة القانونية بنشر مقتطفات من هذه الدراسة بالنظر الى أهميتها العلمية والعملية الفائقة (المحرر).

أمام مثل هذه الأسئلة، (…) آثرنا، بشكل أساسي، اتخاذ قرارات مجلس القضايا نموذجا، خصوصا وأن مجلس القضايا هو أعلى هيئة قضائية في مجلس شورى الدولة. وهو يتصدى في الغالب لمسائل تنتهي بقرارات يشكل بعضها منعطفا اجتهاديا مهما في مجال القضاء الإداري على الخصوص، والقضاء على العموم.
وتحسن الإشارة، بهدي من المنهج العملي المتبع في هذه الدراسة، إلى قرار مجلس شورى الدولة (مجلس القضايا) رقم 672 تاريخ 12/07/2010[1]. ننطلق منه، لا لأهميته الخاصة في مجال الإجتهاد المتعلق بالقضايا التأديبية للقضاة العدليين، بل لأنه مرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع البحث الراهن.
فقد تقدم المستدعي في 22/01/2010 بمراجعة، سجلت أمام مجلس شورى الدولة تحت الرقم 518/2010 (مجلس القضايا)، يطلب فيها نقض القرار رقم 9 الصادر في 23/12/2009 عن الهيئة القضائية العليا للتأديب (الذي رد شكلا الطعن الاستئنافي المقدم منه في 3/10/2007، والذي طلب فيه إبطال قرار المجلس التأديبي للقضاة رقم 9 تاريخ 24/07/2007 القاضي بإنزاله أربع درجات تأديبيا في سلم درجات القضاء العدلي).
وفي 8/03/2010، وضع المستشار المقرر تقريره وانتهى إلى «رد المراجعة لعدم الصلاحية..»،لأن مجلس شورى الدولة غير صالح للنظر فيها.
وعلى العكس، خالف مفوض الحكومة بالإنابة، في مطالعته تاريخ 23/03/2010، ما ورد في تقرير المستشار المقرر والنتيجة التي انتهى إليها.
(…) ونرى مفيدا إثبات معظم المقاطع الواردة في مطالعته التي ستكون لنا السند في تحليلنا الذي سيأتي بيانه:
«بما أن التقرير قد فسر بصورة خاطئة وشوه معنى مضمون قرار المجلس الدستوري بشكل مباين للقضية المحكوم بها.
وقد أغفل التقرير الواقعات التالية:
وبما أنه وبتاريخ 31/05/2000 صدر القانون رقم 227 الذي عدل نظام مجلس شورى الدولة وقد ورد في المادة 64 ما يلي:
“لا تخضع القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى للمراجعة بما في ذلك مراجعة النقض.
يطبق الفقرة السابقة على المراجعات التي لم يصدر فيها حكم مبرم.
وبما أنه وبتاريخ 27/06/2000 صدر عن المجلس الدستوري قرار قضى بإبطال الفقرة الثانية والثالثة من المادة 64 المذكورة أعلاه لمخالفتهما الدستور وللمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية.
وبما أنه وبتاريخ 31/12/2001 صدر القانون رقم 289 الذي عدل المادة 87 من المرسوم الإشتراعي منها 150/83 قانون القضاء العدلي وقد ورد في الفقرة الأخيرة منها ما يلي: “لا يقبل قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب أي طريقة من طرق المراجعة بما فيها التمييز”.
وبما أنه يتبين بجلاء أن المشترع اعتمد في سنة 2001 نفس النص بمضمونه وشكله الذي أبطله المجلس الدستوري عام 2000 الذي ورد في نظام مجلس شورى الدولة.
(…)
وبما أن المجلس الدستوري قد أبطل الفقرة الواردة في نظام مجلس شورى الدولة المادة 64 التي وردت بذات النص في المادة 87 على أساس وأنه لا يجوز أن يشرع أن يفقد إحدى الضمانات التي عنتها المادة 20 من الدستور ومن ضمنها حق الدفاع وبعدم إقفالها باب المراجعة أمام المتقاضي الذي يتعرض لتدابير تأديبية وأن هذا الحرمان هو من الضمانات الدستورية ويشكل انتقاصا من الضمانات التي أوجبت المادة 20 من الدستور اللبناني حفظها للقضاة.
وبما أن المشترع عندما يسن قانونا يتناول الحقوق والحريات الأساسية فلا يسعه أن يعدل أو أن يلغي النصوص النافذة الضامنة لهذه الحريات والحقوق دون أن يحل محلها نصوصا أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقل فاعلية.
وبما أن القرار الدستوري قد اعتبر هيئات التأديب بمثابة هيئة إدارية ذات صفة قضائية وليس قضاء ولا تشكل المراجعة أمامها الضمانة الدستورية.
(…)
وبما أنه يتبين من نص المادة 63 الواردة أعلاه أن قرارات المجلس الدستوري تتمتع بقوة القضية المحكمة في حين أن هذه القرارات النهائية التي تفصل بمراحل النزاع من جهة وتكون نهائية بالنسبة لما فصلت فيه وتصبح متمتعة بحجة مطلقة تجاه الكافة Erga omnes.
وبما أن الاجتهاد الدستوري قد وسع نطاق الحجية لتشمل قانونا وضع بشكل وبطريقة مختلفة ولكن بموضوع مشابه لموضوع القانون الذي أعلنت أحكامه غير مطابقة للدستور.
(…)
وبما أن احترام قرارات المجلس الدستوري في إلزاميتها هي مطلقة حيث أنه لم يسمح لمجلس النواب لنفسه تشريع قانون لنص راقبه المجلس الدستوري واتخذ بشأنه موقفا سلبيا.
(…)
وبما أنه على المحاكم كافة أن تتقيد بقرارات المجلس الدستوري وعليها مطابقة قراراتها مع منحى واجتهاد المجلس الدستوري.
وبما أن إلزامية قرارات المجلس الدستوري ترمي إلى اعتبار القوانين التي تمت مراقبتها واعتبرت غير دستورية لا تعود قابلة للتصديق ولا للتطبيق كما لا يجوز تشريع نص مخالف لقوة القضية المحكوم بها تحت طائلة اعتبارها غير مطابقة للدستور.
(…)
وبما أنه ينبني على ما تقدم اعتبار الفقرة الأخيرة من المادة 87 غير دستورية ومستوجبة عدم التطبيق.
ونرى اعتبار مجلس شورى الدولة صالحا للنظر في المراجعة الحاضرة وفقا مع ما قضى بالمجلس الدستوري من مبادئ دستورية عامة».
الا أنمجلس القضايا في مجلس شورى الدولة[2]، تجاوز هذه المطالعة متبنيا بالإجماع وجهة نظر المستشار المقرر، فرد المراجعة الحاضرةلعدم صلاحية مجلس شورى الدولة النظر في موضوعها. وقد جاء في أسباب القرار ما يلي:
«وبما أن الفقرة الأخيرة للمادة 87 من المرسوم الاشتراعي رقم 150/83 تاريخ 16/09/1983، المعدل بموجب القانون رقم 389 تاريخ 21/12/2001 تنص على ما يلي: “لا يقبل قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب أي طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز ويكون نافذا بحد ذاته بمجرد إبلاغه إلى صاحب العلاقة بالصورة الإدارية”.
وبما أنه يتضح من النص أعلاه أنه جاء قاطعا بعدم قبول قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب لطرق المراجعة كافة بما فيها طريقة التمييز.
وبما أنه ولئن كانت قرارات المجلس الدستوري ملزمة لسائر السلطات العامة، فإن مفاعيلها تنحصر بالنص القانوني الذي كان موضع طعن أمام المجلس الدستوري، ولا تتعداه إلى سائر النصوص الأخرى.
وبما أنه وفي نطاق النزاع المثار في المراجعة الحالية فإن المجلس الدستوري قد أبطل بقراره رقم 5/2000 تاريخ 27/06/2000 الفقرتين الثانية والثالثة للمادة 64 من نظام مجلس شورى الدولة. وبالتالي فإنه لم يتطرق إلى أحكام المادة 87 من المرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 16/09/1983 إذ انها لم تكن موضع طعن لديه، فتبقى هذه المادة المعدلة بموجب القانون رقم 389 تاريخ 11/12/2001 نافذة ومنتجة لآثارها القانونية كافة (…)»[3].
وأعاب البعض على قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010عدم إشارته إلى عدد من النصوص القانونية التي كان يمكن أن تمنح مجلس شورى الدولة صلاحية النظر في موضوع المراجعة الراهنة. فما هي هذه النصوص؟

أ –تسلسل النصوص القانونية ذات العلاقة وتداخلها:

طبقا للمادة 132 من قانون القضاء العدلي (المرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 16/09/1983، وتعديلاته) «تطبق على القضاة أنظمة الموظفين في كل ما لا يتعارض مع أحكام هذا المرسوم الإشتراعي». ويكون مجلس القضاء الأعلى الهيئة الوحيدة المختصة للنظر في تأديب القضاة العدليين، من نحو أول، و«ينظرمجلس شورى الدولة في النزاعات المتعلقة بتأديب الموظفين»[4]، من نحو ثان. ويكون مجلس شورى الدولة، إذا،المرجع الصالح للنظر في المراجعات المتعلقة بقرارات مجالس أو هيئات التأديب، ومن بينها مجلس القضاء الأعلى (…).
وجاء القانون رقم 227 تاريخ 31/05/2000 (القانون 227/2000) يعدل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة (مشروع القانون المنفذ بالمرسوم رقم 10434 تاريخ 14/06/1975، وتعديلاته)، منها المادة 64. ونصت الفقرة الثانية من المادة 64 الجديدة على ما يلي: «لا تخضع القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى للمراجعة بما في ذلك النقض». وبعد إبطال المجلس الدستوري لهذه الفقرة[5]، صارت صياغتها على الشكل التالي: «خلافا لأي نص آخر ينظرمجلس شورى الدولة في النزاعات المتعلقة بتأديب الموظفين». وهكذا نرى أن المشرع تبنى، مجددا، في الصيغة الأخيرة، النص القديم للمادة 64المتوافق مع المادة 117 من نظام مجلس شورى الدولة (أي تمييز الأحكام الصادرة بالدرجة الأخيرة عن الهيئات الإدارية ذات الصفة القضائية وإن لم ينص القانون على ذلك).
وفي 21/12/2001، صدر القانون رقم 389 (القانون 389/2001) الذي عدل المادة 87 من المرسوم الإشتراعي 150/83، فصارت فقرتها الأخيرة  كما يلي: «لا يقبل قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب أي طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز ويكون نافذا بمجرد إبلاغه إلى صاحب العلاقة بالصورة الإدارية. (…)». ويبدو جليا من ظاهر التعديل أنه استبعد أي دور لمجلس شورى الدولة للنظر في القرارات التأديبية لمجلس القضاء الأعلى والهيئة القضائية العليا للتأديب (…).
ويتحصل من تعاقب وتوالي تعديلات النصوص المتعلقة بتأديب القضاة العدليين أنهم يخضعون، نظريا، في مجال التأديب لنص خاص (…).
فماذا كانت حيثيات أو أسباب قرار المجلس الدستوري رقم 5/2000 تاريخ 27/06/2000؟

ب – حيثيات دستورية …

قضى المجلس الدستوري في قراره رقم 5/2000 تاريخ 27/06/2000 بأن الفقرة الثانية من المادة 64 من القانون 227/2000 «مخالفة للدستور وللمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية، ويقتضي بالتالي إبطالها» (…).
ونرى من المفيد إثبات بعض حيثيات أو أسباب القرار التي ستكون لنا المدد فيما سيأتي بيانه:
«بما أن استقلال القضاء، فضلا عن النص الدستوري الذي يكرسه، يعتبر من المبادئ ذات القيمة الدستورية.
وبما أن استقلال القضاء لا يستقيم إذا لم يتأمن استقلال القاضي بتوفير الضمانات اللازمة التي تحقق هذا الاستقلال ومن ضمنها حق الدفاع الذي يتمتع بالقيمة الدستورية، وعدم إقفال باب المراجعة أمامه عندما يتعرض لتدابير تأديبية.
وبما أن حق مراجعة القضاء هو من الحقوق الدستورية الأساسية وهو يشكل بالنسبة للقاضي في القضايا التأديبية عندما يكون محل مؤاخذة مسلكية، إحدى الضمانات التي عنتها المادة 20 من الدستور.
وبما أن مجلس القضاء الأعلى عندما يمارس سلطة التأديب أو الهيئة المنبثقة عنه، وفقا للمادة 85 وما يليها من المرسوم الاشتراعي رقم 150/83، يعتبر هيئة إدارية ذات صفة قضائية مثله مثل أية هيئة تأديبية للموظفين منحها القانون صلاحيات معينة.
وبما أنه إذا كان إناطة مجلس القضاء الأعلى سلطة تأديبية يشكل ضمانة من الضمانات التي نصت عليها المادة 20 من الدستور، فإن إعطاء الحق للقاضي العدلي بالطعن في هذه القرارات التأديبية التي تصدر عنه عن طريق النقض يشكل ضمانة لا غنى عنها، مكملة للضمانة التي يوفرها اشتراك مجلس القضاء الأعلى في القضايا التأديبية المتصلة بالقضاة العدليين.
وبما أن منع القاضي العدلي من الطعن بقرارات المجلس التأديبي يؤدي إلى حرمانه من ضمانة دستورية ويشكل بالتالي انتقاصا من الضمانات التي أوجبت المادة 20 من الدستور حفظها للقضاة،
وبما أن المادة 117 من نظام مجلس شورى الدولة تنص على أنه يمكن تمييز الأحكام الصادرة بالدرجة الأخيرة عن الهيئات الإدارية ذات الصفة القضائية، وإن لم ينص القانون على ذلك، مما يعني أن مراجعة النقض لهذه الأحكام تتعلق بالإنتظام العام،
وبما أن قرارات المجلس التأديبي للقضاة العدليين هي من نوع الأحكام التي تصدر بالدرجة الأخيرة عن هيئات إدارية ذات صفة قضائية، والطعن بها أمام القضاء المختص، يشكل بالنسبة للقاضي العدلي، إحدى الضمانات التي نص عليها الدستور، وحرمانه من حق المراجعة يتعارض إذن مع أحكام الدستور ومع المبادئ العامة الدستورية.
وبما أنه إذا كان يعود للمشرع أن يلغي قانونا نافذا أو أن يعدل في أحكام هذا القانون دون أن يشكل ذلك مخالفة للدستور أو أن يقع هذا العمل تحت رقابة المجلس الدستوري إلا أن الأمر يختلف عندما يمس ذلك، حرية أو حقا من الحقوق ذات القيمة الدستورية (قرار المجلس الدستوري رقم 1/2000 تاريخ 1/02/2000).
وبما أنه عندما يسن المشرع قانونا يتناول الحقوق والحريات الأساسية فلا يسعه أن يعدل أو أن يلغي النصوص النافذة الضامنة لهذه الحريات والحقوق دون أن يحل محلها نصوصا أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقل فاعلية وضمانة، وبالتالي فإنه لا يجوز للمشترع أن يضعف من الضمانات التي أقرها بموجب قوانين سابقة لجهة حق أو حرية أساسية سواء عن طريق إلغاء هذه الضمانات دون التعويض عنها أو بإحلال ضمانات محلها أقل قوة وفاعلية (قرار المجلس الدستوري رقم 1/1999 تاريخ 23/11/1999).
وبما أن النص المطعون فيه، بحرمانه القاضي من حق الدفاع عن نفسه أمام المرجع القضائي المختص وإقفال باب المراجعة بوجهه يكون قد ألغى ضمانة من الضمانات التي نص عليها الدستور والتي تشكل للقاضي إحدى أهم ميزات استقلاله.
وبما أن الفقرة الثانية من المادة 64 من القانون 227/2000 تكون إذن مخالفة للدستور وللمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية، ويقتضي بالتالي إبطالها».
وفي ضوء ما سبق من أسباب أو حيثيات، نستنتج أن كل نص يحرم القضاة من نقض القرارات التأديبية مخالف للدستور لأنه لا يؤمن الضمانات الكافية لهم، التي يعترف بها الدستوروالمبادئ العامة ذات القيمة الدستورية. والقرار ليس طليعيا في هذا المجال أو فريدا. فقد بلور المجلس الدستوري اجتهادا مستقرافي كل ما له علاقة باستقلال القضاة وضماناتهم[6]، مما يوجب على المشرع مراعاة هذا الإجتهاد بالنسبة إلى التشريعات التي سيضعها في المستقبل.
وهكذا نرى أن الفقرة الأخيرة من المادة 87 من المرسوم الاشتراعي 150/83، المعدلة بالقانون 389/2001، مماثلة للفقرة الثانية من المادة 64 من القانون 227/2000، التي قضى المجلس الدستوري بإبطالها لمخالفتها «للدستور وللمبادئ ذات القيمة الدستورية».ويظهر بشكل جلي أن الفقرة الأخيرة من المادة 87 يجب أن تكون، كذلك، مخالفة للدستور.
(…)

ج – تشكيك بقوة القضية المحكوم بها لقرار المجلس الدستوري

(…)
لا تقتصر حجية قرارات المجلس الدستوري المكرسة في المادة 13 من قانون إنشاء المجلس الدستوري على الفقرة الحكمية فقط بل تنسحب أيضا على الحيثيات أو الأسباب[7].(…) ولا يمكن لهذه الحجية إلا أن تكون مطلقة وتنسحب على كل قانون جديد يحتوي (ولو كان ذلك بحلة جديدة) على مضمون قانون قديم ملغى بقرار المجلس الدستوري. وترتبط حجية القرار بالنص المعروض وفقا لمضمونه. وقد اعتبر أحد رجال القانون في فرنسا[8]أنه ليس هناك قانون وإنما نصوصأمام المجلس الدستوري[9].وبعبارة أخرى، إن رقابة المجلس الدستوري ليست شكلية أو رسمية فقط، تعتمد على المظهر الخارجي للقاعدة أو على الجهة التي أصدرتها، بل هي موضوعية أو مادية أيضا. فلا يهم رقم القانون وتاريخ صدوره، إنما مضمونه (أي تعتمد رقابة المجلس الدستوري على مضمون القاعدة أو جوهرها دون النظر إلى شكلها أو مصدرها).
(…)
ولإعطاء كل بعد مجد للمادة 13، المعطوفة على المادة 22 من قانون إنشاء المجلس الدستوري، نرى أن إبطال مضمون القانون هو الذي يحكم حجية القرار، بحيث لا يستطيع المشرع أن يقر قانونا جديدا بمضمون القانون القديم الملغى بقرار المجلس الدستوري.
ويبدو أن الإجتهاد الدستوري لم يرض بحجية تبقى محصورة (أو مقيدة) بنص القانون الذي طعن فيه لعدم دستوريته، ولم يأخذ، إذا، بالمعيار الشكلي فقط. وحصل ذلك في قرارات صدرت عن المجلس الدستوري الفرنسي، وقد جاء في حيثيات أحدها[10]:
« [L]’autorité attachée à une décision du Conseil constitutionnel déclarant inconstitutionnelles des dispositions d’une loi ne peut en principe être utilement invoquée à l’encontre d’une autre loi conçue en termes distincts, il n’en va pas ainsi lorsque les dispositions de cette loi, bien que rédigées sous une forme différente, ont, en substance, un objet analogue à celui de dispositions législatives déclarées contraires à la Constitution »
(…)
وفي هذه الحالة، لم يلتفت مجلس شورى الدولة إلى الحجية المطلقة لقرار المجلس الدستوري 5/2000. ومن خلال التفسير الذي اعتمده مجلس شورى الدولة يتبين أنه اكتفى بمعيار شكلي بحت لا يتوافق مع روح الرقابة على دستورية القوانين وتقنياتها، ولم يعط إلا حجية نسبية ضيقة لقرار المجلس الدستوري (…).

د – «فهم ملتبس»لنظرية القانون الحاجب

كي لا يتعرض للنقد، حاذر مجلس القضايا، في قراره رقم 672 تاريخ 12/07/2010، الإنغماس في الرقابة على دستورية المادة 87 من المرسوم الاشتراعي 150/83، المعدلة بالقانون 389/2001. فاعتبر أنه طالما لم تعرض المادة 87 المعدلة على المجلس الدستوري، فإن مجلس القضايا غير معني بالإضطلاع بهذا الدور الرقابي، وهو محق، نظريا، في هذا التوجه.
وطبقا للفقرة الثانية من المادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري، و«خلافا لأي نص مغاير، لا يجوز لأي مرجع قضائي أن يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن أو بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور أو مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص». (…) إن مبدأ تسلسل القواعد القانونية (أو تدرجها)، الوارد في المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية والمفروض على المحاكم العادية، والذي يبني النظام القانوني اللبناني على قواعد متسلسلة متصاعدة شبيهة بهرم متدرج تتقيد فيه كل درجة بما يعلوها من درجات، وهو مفروض على المحاكم العادية… إن هذا التسلسل يقف، إذا، عند عتبة (أو درجة) الدستور (…) ولا يشكل لجوء المحاكم العادية إلى الدستور إلا سبيلا إلى تفسيره عند غياب نص قانوني. وينسجم هذا المنحى مع نظرية القانون الحاجز Théorie de l’écran législatif، أو الحاجب (…).
ويتبين من قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010 أن مجلس شورى الدولة أراد التمايز والإبتعاد عن اجتهاد سابق منتقد لإحدى غرف مجلس شورى الدولة (القرار رقم 71 تاريخ 25/10/2001، الدولة/السفير إلياس غصن)[11]. وورد في هذا القرار «أن قرارات المجلس الدستوري هي إذن ملزمة للقضاء، كما للسلطات العامة. وهذا يعني أن إبطال المجلس لنص تشريعي لا يؤدي فقط إلى بطلان هذا النص، بل ينسحب على كل نص مماثل أو قاعدة قانونية مشابهة للقاعدة التي قضى بإبطالها، سواء كانت متزامنة مع قرار المجلس أو سابقة له، وذلك لتعارضها مع أحكام الدستور أو مع مبدأ عام يتمتع بالقيمة الدستورية لأن هذه القاعدة تكون قد خرجت من الانتظام العام القانوني بصورة نهائية بحيث لا يستطيع القضاء، سواء القضاء العدلي أو الإداري أن يطبق نصا مخالفا للقاعدة أو للمبدأ الذي أقره المجلس الدستوري وذلك احتراما لمبدأ الشرعية وخاصة لمبدأ تسلسل أو تدرج القواعد القانونية».
وجاء في حيثية أخرى للقرار ذاته ما يلي: «وبما أن تطبيق القضاء الإداري أو العدلي لقرارات المجلس الدستوري لا يتوقف على تعديل أو إلغاء المشترع للقاعدة القانونية المخالفة للدستور أو لمبدأ يتمتع بالقيمة الدستورية التي يبطلها المجلس الدستوري، لأن الأخذ بعكس ذلك يؤدي إلى تعطيل قرارات المجلس الدستوري في كل مرة يتأخر أو لا يبادر المشترع إلى تعديل أو إلغاء النص أو القواعد القانونية التي تتضمنها القوانين النافذة والتي تنطوي على نصوص مشابهة».
وهكذا نلاحظ أن القرار اعتبر أن كل النصوص القانونية التي أبطل المجلس الدستوري مثيلا لها باطلة، وأن القضاء الإداري لن يأخذ بها.
ورغم مساهمة قرار مجلس شوى الدولة في تغليب حق مراجعة القضاء (أو حق الطعن في قرارات الهيئة العليا للتأديب) وتأكيد منزلته القانونية الرفيعة كحق من الحقوق الدستورية الأساسية، إلا أنه يجب الإقرار والاعتراف بأن وحدة الموضوع والسبب لم تكن مثبتة في هذا القرار، ولم يكن للنصوص القانونية المذكورة «موضوع مماثل Objet analogue»[12]. وقد حفز توسيع هذا القرار لاختصاص مجلس شورى الدولة ورقابته، إستنادا إلى فكرة قوة القضية المحكوم بها للقرارات الصادرة عن المجلس الدستوري، قيام ردة فعل رافضة لتمتع هذه القرارات بقوة كهذه[13].
لقد ضيق مجلس القضايا، كما فعلت غرف مجلس شورى الدولة المختلفة، إلى أبعد الحدود، نطاق قوة القضية المحكوم بها للقرارات الصادرة عن المجلس الدستوري وأثرها في المراجعات أمام مجلس شورى الدولة.
(…)
فالمفروض في السلطة التشريعية ألا تتدخل في عمل المجلس الدستوري، فلا تصدر قوانين يكون الغرض منها، عن قصد أو غير قصد، تعطيل مفعول قراراته (أي إبطال أو تعديل قرار أصدره المجلس الدستوري). والمفروض في القضاء اللبناني (الإداري والعدلي، مثلا)، أن يمتنع، أيضا، عن التدخل في عمل المجلس الدستوري وأن يقوم بتنفيذ قراراته. ويتوجب على القضاء الإمتناع عن تطبيق النص الذي قرر المجلس عدم دستوريته في جميع القضايا المعروضة عليه، أو التي ستعرض عليه. ولا يؤديإبطال المجلس الدستوري لنص تشريعي إلى بطلان هذا النص فقط، بل ينسحب إلى كل نص مماثل، أو قاعدة قانونية مشابهة للقاعدة التي قضى بإبطالها، دون حاجة لإعادة الطعن فيها بفعل مراجعة جديدة حتى يمكن اعتبارها معدومة الأثر وغير دستورية. فأثر قرار المجلس الدستوري المبطل يسري على القانون الذي صدر القرار بشأنه، وتمتد، عفوا، آثار هذا القرار، إلى كل قانون آخر مستجد.

دكتوراه في القانون العام وقاض في مجلس شورى الدولة

نُشر في العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية


[1] مراجعة القاضي محمد درباس/الدولة رقم 518/2010 تاريخ 22/01/2010. لقد ثابر مجلس القضايا على هذا التوجه الإجتهادي في قرارات عديدة له، غير منشورة، مشابهة للمراجعة الراهنة، سابقة ولاحقة لهذا القرار (رقم 316 تاريخ 2/03/2010، ورقم 104 تاريخ 4/11/2010، ورقم 105 تاريخ 4/11/2010، ورقم 360 تاريخ 15/03/2012)، فاعتبر أن مجلس شورى الدولة غير صالح للنظر في موضوع هذه المراجعات.
[2] تشكلت الهيئة الحاكمة الناظرة في المراجعة الحاضرة من رئيس مجلس شورى الدولة، ومن رئيسين لغرفتين وثلاثة مستشارين (من بينهم المستشارالمقرر).
[3] قرار مجلس شورى الدولة (مجلس القضايا) رقم 672/2009-2010 تاريخ 12/07/2010، ص 5-6.
[4] المادة 64 القديمة من نظام مجلس شورى الدولة (أي قبل تعديلها بالقانون رقم 227 تاريخ 31/05/2000 ).
[5] المجلس الدستوري، قرار رقم 5/2000 الصادر في 27/06/2000، بشأن الطعن في القانون رقم 227، الصادر في 31/05/2000، والمتعلق بتعديل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة، منشور في كتاب: الجمهورية اللبنانية، المجلس الدستوري (1997-2000)، ص 453-465.
[6] راجع، مثلا، قرار المجلس الدستوري اللبناني: قرار رقم 2/1995 الصادر في 25/02/1995، بشأن إبطال القانون رقم 227، الصادر في 12/01/1995، والمتعلق بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم القضاء الشرعي، السني والجعفري، منشور في كتاب: الجمهورية اللبنانية، المجلس الدستوري (1994-1997)، ص 45-46.
[7] راجع، مثلا:
Cass. fr., Ass., arrêt du 10 octobre 2001, Bull. plén., n° 11 ; Bull. crim., n° 206.
– Guillaume Drago, L’exécution des décisions du Conseil constitutionnel – L’effectivité du contrôle de constitutionnalité des lois, Economica/PUAM, 1991, pp. 33 et s.
[8] راجع كتاب:
Nicolas Molfessis, Le Conseil constitutionnel et le droit privé, Paris, LGDJ, 1997, pp. 320-321.
[9] هذا ثبت بالجملة الفرنسية:
« Il n’y a plus de loi devant le Conseil, mais des textes ! » (p. 321).
[10] راجع:
– Cons. const. fr., décision 89-258 DC du 8 juillet 1989, Loi portant amnistie, Rec., p. 48, § 13.
Cons. const. fr., décision 96-373 DC du 9 avril 1996, Loi organique portant statut d’autonomie de la Polynésie française, Rec., p. 43, § 5.
[11] راجع الإنتقادات التي ساقها د. غالب محمصاني على القرار خلال ندوة نظمها مركز الدراسات الحقوقية للعالم العربي (CEDROMA) حول دور مجلس شورى الدولة في الرقابة على دستورية القوانين (كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة القديس يوسف، في 22/03/2002).وكذلك:
Michel Tabet, « Jurisprudence constitutionnelle et jurisprudence administrative », in Université Saint-Joseph, CEDROMA (Beyrouth), Le Conseil constitutionnel libanais : Gardien, régulateur, protecteur (Colloque de Beyrouth du 17 mai 2002, Bruylant, 2003, pp. 56-58.
[12] راجع، على سبيل المثال، قراريالمجلس الدستوري الفرنسي:
Cons. const. fr., décision 89-258 DC du 8 juillet 1989, Loi portant amnistie.
Cons. const. fr., décision 96-373 DC du 9 avril 1996, Loi organique portant statut d’autonomie de la Polynésie française.
[13] نلفت النظر إلى أن صدور قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010 (القاضي محمد درباس/الدولة) تم بالإجماع دون تسجيل أي مخالفة، رغم مشاركة مستشار كان في الهيئة الحاكمة التي أصدرت قرار المفتش الممتاز في الأمن العام جوزف معوض/الدولة المشابه لقرار الدولة/السفير إلياس غصن. وصدر قرار مجلس القضايا رقم 316 تاريخ 2/03/2010، بذات معنى قرار مجلس القضايا رقم 672 تاريخ 12/07/2010، دون تسجيل أي مخالفة، رغم مشاركة قاضيين كانا في الهيئة الحاكمة التي أصدرت قرار المفتش الممتاز في الأمن العام جوزف معوض/الدولة (المحرر).
انشر المقال

متوفر من خلال:

غير مصنف ، مجلة لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني