أسباب لرفض دستور قيس سعيّد (3): رحلة التيه بين إبن تيمية وكارل شميت


2022-07-12    |   

أسباب لرفض دستور قيس سعيّد (3): رحلة التيه بين إبن تيمية وكارل شميت

يعلن مشروع دستور الرّئيس قيس سعيّد في فصله 26 أنّ “حرية الفرد مضمونة”. هذا التنصيص الهام، والذي تفرّد به مشروع دستور 2022 لا يمكن أن يكون له دلالة وجدوى عمليّة خاصة مع ربطه بالإطار الذي تمارس فيه حرّيات الفرد من ناحية وغياب الضمانات الفعليّة لحمايتها. إذ أنه وانطلاقا من دستور 2014، دخل مفهوم الحريّات الفردية النصّ الدستوري وجاء الفصل 21 لينصّ على أن الدولة تضمن للمواطنين والمواطنات الحقوق الفردية والعامة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”. وهو ما استنسخه الفصل 22 من مشروع دستور الرئيس قيس سعيّد، مضيفًا اليه الفصل 26 والذي يقرّ: “حرية الفرد مضمونة”.

هذا الإقرار الهام لحرية الفرد والذي يتطابق مع ما تطالب به حركات الدفاع عن الحريات الفردية يبقى في نظرنا مجرّد  تمويه وإعلان سياسيّ غايته فقط الإشهار الشكلي للداخل والخارج بأهمية حرية الفرد بالنسبة لواضع مشروع الدستور. إذ أنّه لا يمكن الفرد أن يتمتع بحرياته في إطار منظومة لا تعترف بالفرد من ناحية وفي غياب ضمانات فعلية لتحقيق هذه الحرية.

حرية الفرد بين “الشعب يريد” ومقاصد الإسلام

ينبني مشروع دستور الرّئيس على فكرة أساسية: المجموعة فوق كل شيء: المجموعة هي الأمة، الشعب، الأسرة، المجتمع… وهذه الرؤية لا يمكن أن تضمن “حرية الفرد”.

الشعب لا يريد الفرد:

يتبنّى الرئيس سعيّد فكرة الشعب الكائن العضوي المنسجم الذي يعرف ما يريد وصرّح بما يريد. ويعكس ذلك في مشروع الدستور الذي يقترحه على الاستفتاء، فالشعب المنسجم مع قائده يمثل مجموعة مسيطرة على كافة المجالات والأفكار ولا يمكن للأفراد أن تخرج عنها. فالمنظومات الشعبيّة من ناحية والقائمة على الشعبوية من ناحية أخرى لا وجود فيها للفرد والقبول بالاختلاف وبما يجسد تفرّد الأشخاص. فالشعب يوضع دائما في مواجهة الفرد ويكون هذا الأخير هو الخاسر دائما في مواجهة الفكر الجماهيري الذي ينفي الأفراد. والأمثلة على ذلك عديدة جدا: الجماهرية الليبية، الصين، كوريا الشمالية… فأينما تمّ اعلاء الشعب، سُحق الفرد وغاب تماما، فأي حرية للفرد تجاه هذا المفهوم المخيف؟ الشعب الذي بنيت على أساسه الأنظمة الناطقة باسمه؛ من فاشية ونازية وستالينية وكل الأنظمة الكليانية القائمة على إقصاء الفرد وخصوصياته وطبعا حرياته وحقه في الاختلاف.

الأمة في عداء مع مفهوم الفرد:

يعلن الفصل الخامس من مشروع دستور الرئيس أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل في نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. ويطرح السؤال في هذا الإطار كيف تضمن حرية الفرد صلب مفهوم الأمة بالمعنى الديني؟ فالأمة كالشعب مفهوم هلامي متخيّل غايته بناء وحدة ما على أسس مختلفة كاللغة والدين والتاريخ المشترك أو المستقبل المشترك.

فالأصل تغييب الفرد لصالح الأمة وبقائها. ولذا غالبا ما تنزلق الدول التي تتبنى فكرة الأمّة الدينيّة إلى تقييد حريّات الأفراد وصولا أحيانا إلى سحقها. والأمثلة التاريخية عديدة جدّا تاريخيا (إسبانيا الكاثوليكية أيام محاكم التفتيش، الدول الأوروبية أثناء الحروب الدينية…) وفي الزمن الحاضر كما هي أحوال المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تكرّس الأمة الإسلامية في المادة 11 من دستورها. والأكيد أنّ هذه الأنظمة التي تنبني على مفهوم الأمة بالمعنى الدينيّ لا تضمن حرية الفرد إلا ضمن ما تتيجه معتقداتها. يُضاف الى ذلك أن الدستور التونسي قد جعل الدولة هي القائمة على تحقيق مقاصد الإسلام، من دون أن يحدّد كيفية ضمان الحرية الفردية (حرية اختيار القرين، العلاقات خارج الزواج، المثلية الجنسية، حرية المعتقد، حرية الرأي..) عند تعارضها مع هذه المقاصد أو الأصحّ مع كيفية تفسير من سيتولى تحقيق هذه المقاصد لها. ومن شأن هذه الإحالة أن تشكل تهديدًا للحريات الفردية، بخاصة عندما تكون ضمانات هذه الحرية صورية.

حرية الفرد بين الأمن العام وغياب مدنية الدولة:

أقر مشروع الدستور ضمان الدولة للحريات الفردية (الفصل 22) وحرية الفكر (الفصل 26) ومجموعة من الحريات الفردية (سريّة المراسلات وحماية الحياة الخاصة وحماية المعطيات الشخصية (الفصل 30) حرية الضمير والمعتقد وممارسة الشعائر (الفصلين 27 و 28) إلا أنّ هذه الحريات وغيرها مما أعلنه مشروع الدستور في بابه الثاني: الحقوق و الحريات، تبقى رهينة مجموعة من الضوابط التي من شأنها التقليص منها إن لم تقم بنسف جوهرها. إذ أن ممارسة الفرد لحرياته تبقى رهينة عنصرين هامين: غياب مفهوم الدولة المدنية من ناحية وهيمنة هاجس حماية الأمن العام على ممارسة الحقوق والحريات.

الحريات الفردية في غياب مدنية الدولة:

لقد غاب التنصيص على مدنية الدولة عن مشروع دستور الرّئيس سواء في نسخته الأصلية، الصادرة في 30 جوان 2022 أو نسخته المعدلة الصادرة في 8 جويلية 2022. وعليه، لم تعد الدولة المدنية إطارا لقياس مدى ضرورة القيود المفروضة على الحقوق والحريات. وإذ انتقدتْ مكوّنات المجتمع المدني والديمقراطي نسحة 30 جوان لهذه الجهة، حاولتْ النسخة المعدّلة للمشروع تجاوزه باستعادة مفهوم النظام الديمقراطي كضابط لشرعية تقييد الحقوق والحريات المضمونة دستوريا. إلا أن ذلك لا يعوّض أبدا مفهوم مدنية الدولة. فالنظام الديمقراطي يمكن أن ينظر اليه بصفة شكلية فقط: نظام يقوم على الانتخاب وتعدّد المشاركين فيه. وهذا ما يتأكد بوجود دول دينية تعلن أنّها ديمقراطية سواء في دساتيرها أو في خطابها السياسي. وبعلّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية خير دليل على ذلك. فضمانة المدنية والتي تتنافى مع الدولة العسكرية والدولة الدينية، لم تعد موجودة في مشروع الدستور. وبذلك يجد الفرد نفسه في مواجهة دولة تدّعي أنها ديمقراطية، ولكنها بالحقيقة مجرّد ديمقراطية صورية، لا ضرو من تقييد الحريات والحقوق فيها عملا بفهم الحاكم لمقاصد “الإسلام الحنيف”.

حرية الفرد في مواجهة الأمن العام:

رغم تصحيح الفصل 55 من الدستور من الأخطاء التي “تسرّبت” إليه (ومنها حذف ضابط الآداب العامة الذي يجوز تقييد الحريات على أساسه)، إلا أن الأصل لا يزال قائما. فبحذف ضابط الآداب العامة من هذا الفصل، لا يعني أن الحقوق والحريات لن تخضع لهذا القيد مستقبلا. فمفهوم الأمن العام من ناحية، (المذكور في الفصل 55) ومقاصد الإسلام الحنيف المذكورة في الفصل 5 من مشروع الدستور كفيلة بأن تحتوي تحت عباءاتها مسألة الآداب العامة والأخلاق الحميدة والتجاهر بفحش وبما ينافي الحياء. وهو ما تمّ صراحة التنصيص عليه مثلا في الفصل 28 من مشروع الدستور حيث تحمي الدولة حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخلّ بالأمن العام.

هذا المفهوم المطاط، الذي يمكن تطويعه حسب الأحوال لتقييد الحقوق والحريات، نراه في التطبيق أكثر الضوابط استعمالا لضرب الحريات: حرية التظاهر، حرية اللباس، ممارسة القناعات الفكرية أو الدينيّة (الإفطار في رمضان) الحريات الجسديّة واختيار الشريك/القرين… ولذا يمكن أن نتصور كيف ستكون وضعية الحريات مع نظرة كليانية للحكم وهيمنة الحاكم الواحد على الدولة واحتمائه بمفهوم الأمن العام والدفاع الوطني وبمقاصد غير محددة للدين الحنيف. فكيف ستكون المجلة الجزائية بصدور هذا الدستور؟ كيف نتصوّر مجلة الإجراءات الجزائية ومجلة الأحوال الشخصية والقانون المنظم للمخدرات؟ والأهمّ كيف سيكون تفسير هذه القوانين في ظلّ إعلاء أهمية كل هذه المصالح من دون ضابط؟ ويبدو أنّ ربط النظام الديمقراطي بتحقيق مقاصد الإسلام يمثل أبرز تجلّ لجسر نجح الرئيس سعيّد في إقامته بين فقه إبن تيمية في القرن الثالث عشر وأفكار كارل شميت في القرن العشرين، حيث لا يجب أن ننسى أن النظام الفاشي عند شميت هو ديمقراطية أصيلة وعميقة ومباشرة تجد شرعيتها في مبايعة/مباركة الشعب، هذا الشعب الذي لا ينطق باسمه إلا قائده هذا القائد “إمام المؤمنين” الذي تتوجب طاعته لأنه ممثل الإله على الأرض.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، عدالة انتقالية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني