أسباب لرفض دستور قيس سعيّد (2): الرئيس أولاً وثانياً وأخيراً


2022-07-11    |   

أسباب لرفض دستور قيس سعيّد (2): الرئيس أولاً وثانياً وأخيراً

يواصل د. وحيد الفرشيشي نشر الأسباب التي تدعو لرفض دستور قيس سعيّد. وكانت المفكرة القانونية نشرت من قبل مقالين له، الأول بعنوان “قراءة في مشروع دستور 2022: المخاطر الكبرى لدستور الزمام الأحمر” والثاني بعنوان “منطلقات مشروع الدستور: الهوس بالتاريخ إلى حدّ تحويره” (المحرّر).  

يؤسس مشروع دستور الرئيس قيس سعيد لمنظومة حكم قوامها حكم الفرد، وعلوية الرئيس على كل المؤسسات والسلطات والوظائف. هذه المنظومة المؤسسة على جعل شخص الحاكم في قلب منظومة الحكم، تستند على منطلقات “فكرية” “إيديولوجية” وعقائدية لا يمكن أن تؤسس إلا للانفراد بالسلطة وتغليب شخص الحاكم على بقية المؤسسات. هذا التصور لم يتغير بعدما نشر الرئيس مشروع دستوره المعدل في 8 جويلية 2022. مدّعيا أن نسخة 30 جوان قد تسرّبت إليها بعض الأخطاء.

أسس “نظرية” و”إيديولوجية” مؤاتية لتغليب حكم الفرد:

انبنى مشروع الرئيس قيس سعيد على مبادئ نظرية لا يمكن أن تؤسس إلا لحكم الفرد المطلق.

مقاصد الإسلام:

يؤكد مشروع الدستور على: “الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. هذا الفصل 5 والذي يجعل الدولة المحقق لمقاصد الإسلام، يمكن أن يؤدي كما في عديد الدول التي جعلت الإسلام من مقومات الحكم والتشريع فيها إلى تطبيق تعاليم الإسلام المتعلقة بالحفاظ على النفس والعرض والدين والمال وذلك باللجوء إلى الآليات والحدود التي وضعها فقهاء الدين على مرّ العصور والتي أنتجت فيما أنتجت فقه ابن تميمة وغيره. وقد جعلت بعض هذه التعاليم الحاكم المطلق الناطق باسم الاله هو المحدد لمقاصد الإسلام وتعاليمه، سواء في نظام الحكم، أو العلاقة بين النساء والرجال، أو ممارسة الحريات الفكرية أو الجسدية… يكفي النظرْ إلى بعض نماذج دول المنطقة التي أحالتْ ضمن دساتيرها إلى هذه المقاصد لنتبيّن المخاطر التي تتهدد الحريات العامة والخاصة فيها. والأمثلة عديدة جدا في مقدمتها المملكة السعودية وإيران والسودان وموريتانيا ومصر. 

الشعبوية الأخلاقية المحافظة: في مأسسة الفاشية:

يؤسس الرئيس سعيد دستوره على الدين والأمن العام و الأسرة. بالرجوع الى مشروع الدستور نلاحظ أن الأسس والمرجعيات الدينية حاضرة بشكل ملفت للنظر: الإحالة إلى الأمة الإسلامية ومقاصد الإسلام وإسلام رئيس الدولة (التوطئة، الفصل 5 والفصل 88) وعدّ الأسرة الخليّة الأساسية للمجتمع والتي على الدولة حمايتها (الفصل 12)، ثم مفاهيم الدفاع الوطني والأمن العام التي يمكن أن تحدّ من الحقوق والحريات (الفصل 55). هذه المقوّمات الثلاثة التي ترتكز عليها كل الأنظمة المحافظة والتي تعتنقها الدكتاتوريات بأنواعها وبخاصّة اليمينيّة منها لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى منظومات قانونية وسياسية عامة محافظة أخلاقوية دينية. 

هذه المقوّمات تزداد خطورتها مع الأبعاد الشعبوية الكثيرة لدستور الرئيس سعيّد. فالشعب كمفهوم عام، مفهوم غامض هلامي حاضر في عديد فصول الدستور وفي توطئته. فهو صاحب السيادة وهو صاحب الثروات، يسحب الوكالة من ممثليه، هذا التوصيف للشعب والذي يجعل منه كائنا منسجما متناسقا متجانسا يتوافق تماما مع الأفكار الشعبوية والتي تجعل فقط من “القائد” الرئيس، الناطق باسمه والمجسد لإرادته. وهو ما يتجلى في دستور قيس سعيد فالرئيس فقط هو الذي ينتخب انتخابا عاما، حرّا، مباشرا وسريّا (الفصل 90) بينما يتم انتخاب أعضاء المجالس النيابية وفق ما يحدّده القانون لمن دون التأكيد على وجوب أن يكون انتخابهم حرّا، مباشرا، عامّا وسريّا.

فضلا عن ذلك، الرئيس وحده لا يُساءل مطلقا (الفصل 110)، في حين تُساءل السلطات والهياكل كافة: المجلس النيابي يمكن سحب وكالة أعضائه، ويمكن للرئيس حله. والحكومة مسؤولة أمام الرئيس وتُساءل أمام المجلس النيابي ويمكن للرئيس إقالتها. ولكن الرئيس صاحب الحصانة المطلقة، القائد الأسمى الذي لا يخطئ. هذه المنطلقات نظر لها Carl Schmitt وجعل القائد هو الممثل الحقيقي للشعب والمجسّد الحي للشعب بينما لا يمثل البرلمان إلاّ تجسيدا مجردا ومعوّجا لهذا الشعب. هذه المنطلقات كانت قد مهّدت للتمجيد للفاشية والنازية والستالينية وجعلت منها شكلا أصيلا من أشكال الديمقراطية الحقيقية والمباشرة تستمد مشروعيتها من المبايعة الشعبية. ولا أظن أننا نحتاج التوسّع بشأن الجرائم التي ارتكبتها هذه الأنظمة وغيرها ضد شعوبها وضد الإنسانية.

هذه المنطلقات شرعت ولمدة عقود للاستبداد وللحكم الفردي المطلق وللانتهاكات الصارخة للحقوق والحريات ولكرامة الأفراد. وهو ما يمكن أن يتم بتمرير دستور قيس سعيّد و ما يحتويه من مؤسسات صورية يهيمن عليها الحاكم الفرد. 

“مؤسسات” صورية خاضعة لحكم الفرد:

إن المنظومة الدستورية التي أسس لها مشروع دستور قيس سعيّد تنبني على فكرة القائد الملهم الذي يتماهى مع شعبه: “هو الشعب والشعب هو”. ولذا فان أغلب مؤسسات الحكم هي اما خاضعة للرئيس أو تابعة له، أو يمكن أن يحلها ويغيرها كيفما ووقتما يشاء.

رئيس يسأل و لا يُساءل:

لا مسؤولية لرئيس الدولة. حيث يؤكد مشروع الدستور على أن الرئيس أعلى من المؤسسات ومن كل الوظائف في الدولة. فقد تحوّلت الهياكل الأساسية للدولة: التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى وظائف و لم تعد سلطات، ذلك أن السلطة/السيادة هي للشعب وحده، لا يشاركه فيها أحد، وكل الهياكل والمؤسسات هي وظائف لدى الشعب. وبما أنه يجب أن يكون هناك من يجسد هذا الشعب اختار مشروع الدستور أن يكون الرئيس، رئيس الدولة هو المتحكّم في كافة مؤسسات الدولة ومفاصلها: فله أن يحلّ البرلمان (الفصل 106) وأن يعيّن الحكومة وأن يقيلها (الفصلان 101 و102) وأن يسمّي القضاة (الفصل 120) وأن يعيّن أعضاء المحكمة الدستورية (الفصل 120) وأن يعيّن الوظائف العليا المدنية والعسكريّة (الفصل 106) وأن يصادق على المعاهدات الدولية (الفصل 74) وأن يستفتي الشعب متى شاء (الفصل 97) وأن يقترح تعديل الدستور (الفصل 136) خاصة وأن المؤسسات التي نص عليها الدستور ضعيفة ومكبلّة بسطوة الرئيس. “القائد الأسمى” الناطق باسم شعبه والمجسّد لإرادته، و لذا لا يمكن مساءلة الرئيس، هذه الوضعية التي كانت تونس قد عرفتْها بصفة متواصلة من 1959 إلى 2011 أفرزت ولمدة 50 سنة دكتاتورية مقيتة وقوية أنتجت الاستبداد والتصحّر السيّاسي وغياب ترسيخ الآليات الديمقراطية و استبطانها… 

هذه السطوة للرئيس على جميع الهياكل والمؤسسات تتجلى أيضا في لجوء الرئيس لآليات الاستثناء.

رئيس حاكم مطلق وسيّد الاستثناء:

حافظ مشروع دستور الرئيس على الفصل 80 من الدستور الحالي )ليصبح في النص الجديد الفصل 96( هذا الفصل الذي شرّع لحالة الاستثناء التي تعيشها تونس منذ 25 جويلية 2021، والتي أعطى الرئيس بمقتضاها لنفسه صلاحيات وسلطات واسعة. ولذا حفظ مشروع الدستور هذا الفصل لأنه الفصل المفتاح في الأنظمة الاستبدادية بعدما أزال منه الضوابط الواردة فيه، حيث يكون سيّدا وحاكما من كانت له صلاحية النطق بحالة الاستثناء. والخطورة تكمن ليس في أنّ الرئيس قيس سعيّد فصّل دستورا قد يمكّنه من التفرّد في الحكم، لكنه أنه وضع أساسًا يمهّد لمن سيخلفه من استعمال هذه الآليات لإرساء منظومة حكم ليست بغريبة عنّا فما فصّله بورقيبة لنفسه وورثه بن علي عنه. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، محاكم دستورية ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، استقلال القضاء ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني