“أرى مغتصبي اليوم على شاشات التلفزة”: LAW توثق الجرائم ضدّ النساء في الحرب اللبنانية


2022-06-16    |   

“أرى مغتصبي اليوم على شاشات التلفزة”: LAW توثق الجرائم ضدّ النساء في الحرب اللبنانية
صورة من غلاف التقرير

تحذير: يحتوي هذا المقال على وصف تفصيلي للعنف الجنسي.

“تفاصيل وجهه محفورة في ذاكرتي. هو واحد من مجموعة شبان تناوبوا على اغتصابنا أنا وصديقاتي. لا زلتُ أراه. إنّهم يستضيفونه على المحطات التلفزيونية. لقد أصبح مشهوراً”. بهذه الجملة اختزلت إحدى ضحايا الحرب اللبنانية وجعاً لا يزال يرافقها منذ 42 عاماً، لتوثق غياب العدالة وصعوبة تحقيقها أواستحالتها في بلاد لم يُقرّ فيها قانون يعفي عن مجرمي الحرب وأمرائها فحسب، بل كوفئ فيها زعماء الميليشيات وأتباعهم وتربّعوا على رأس السلطة بدل زجّهم في السجون. بصوتها المتهدّج فقط، ومن دون الكشف عن هويّتها وصورتها، أدلت الضحية بقصّتها عبر فيديو قصير، عُرض داخل “بيت بيروت” في إطار إطلاق التقرير البحثي للحركة القانونية العالمية (LAW) حول “جرائم النوع الاجتماعي خلال الحرب الأهلية اللبنانية”.

وعن تفاصيل ما فعله المغتصب الذي يعتلي شاشات التلفزة اليوم، تخبر الشاهدة عبر صوتها في الفيديو: “سمعنا صوت صريخ آتٍ من بعيد. اقترب فتى صغير كان يركض مسرعاً وطلب منا أن نختبئ. لم نفهم لماذا ولم نتمكّن من الاختباء. ثمّ رأيناهم قد وصلوا! سيارات عسكرية وبداخلها مسلحين. اقتربوا منا واقتادونا جميعًا إلى مكان لا نعلمه. كان عددنا حوالي ١٧ فتاة وكنتُ أكبرهن. ما هي إلّا لحظات، حتى شعرت بلمسات أيديهم على جسدي. كانت تلك المرة الأولى التي يلمسني فيها رجل. اغتصبونا بكلّ الأشكال، وبطرق لا يمكن تخيّلها. تداولوا على اغتصابنا. هناك فتاة تدعى نادية وفتاة أخرى، توفّيتا على الفور. بالمناسبة، هناك أحد المعتدين الذي لا زالت تفاصيل وجهه محفورة بذاكرتي. إنّني أراه عندما يستضيفونه على المحطات التلفزيونية. لقد أصبح مشهوراً”.

ربما ليس أنسب من “بيت بيروت” الذي رُمم بطريقة لا تطمس واقع أن الحرب استوطنت ومرّت من هنا على أحد خطوط التماس الرئيسية (السوديكو) ليبقى شاهداً على ما حصل، لتعلو منه الشهادات على ما حصل كجرائم قائمة على النوع الاجتماعي، وللمرة الأولى بهذا الحجم الموثق بشهادات ضحايا وناجيات وشاهدات وشهود على جرائم استهدفت النساء في الحرب لتُغيّر في سردية طالما كانت شائعة وكأنّ الرجال هم من دفعوا بالدرجة الأولى ثمن التقاتل الداخلي على مدى أكثر من 15 عاماً من العنف الذي شهده لبنان قبل 1975 ولغاية 1990 حين أوقف اتفاق الطائف الأعمال القتالية. وكأنّ النساء كنّ محيّدات عن كل ما حصل.

ورفضاً لطمس قصص النساء اللواتي لم يتح لهنّ روايتها، جاء تقرير LAW بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، ليعرض الحقيقة المروعة للجرائم القائمة على النوع الاجتماعي التي ارتكبت ضدّ النساء والفتيات خلال الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990.

تعابير الصدمة اعتلت وجوه الحاضرين في القاعة حيث بدت قصص الناجيات والضحايا أقسى من أن تُصدّق، لتظهر شدّة بشاعتها مع كلّ نفس أخذنَه بين الجملة والأخرى. استعدنَ الماضي وكأنهنّ يعشنه في كلّ ثانية من الحاضر. قصص اغتصاب، واغتصاب جماعي، واغتصاب متعدد الجناة، وتشويه للأعضاء التناسلية، وتعذيب جنسي، وقتل للنساء والفتيات بعد اغتصابهن واختطافهن… جرائم لا تنتهي. لقد جني على هؤلاء النساء والفتيات (وأفراد الأسرة الذين شهدوا هذه الجرائم) مرّتين، مرّة بما تعرّضن له، ومرة أخرى بالعجز التام عن محاسبة الجناة، أو حتى بالاعتراف بما حدث، أو باعتذار.

“أرى أحد المعتدين عندما يستضيفونه على المحطات التلفزيونية. لقد أصبح مشهوراً”

ليس الجميع ناجيات

في قاعة “بيت بيروت” تقف سيدة بين الحضور لتدلي بشهادتها حول تعرّض صديقتَيها للاغتصاب متحفّظة عن ذكر الأسماء: “أعرف فتيات توفّين بعد الاغتصاب، وأخريات شهدنَ على تعذيب الميليشيات لآبائهنّ وإخوتهنّ عبر تقييدهم بالنوافذ واغتصابهم، وأعرف فتاة خُطفت! كما 15 فتاة تمّ أخذهنّ إلى ما كان يسمّى حينها بالمنطقة الشرقية، وبعد مفاوضات عدة تمّت إعادتهنّ إلى عائلاتهنّ في الجبل، إلّا أنّ إحدى الفتيات لم تتمكّن من متابعة حياتها بشكل عاديّ. سعدتُ لرؤيتها بعدما عادت إلى أهلها، ولكنّ الأمر لم يدُم على حاله طويلاً. لقد هربَت بسبب إدمانها المواد المخدّرة والكحول، وما تركه الاغتصاب من آثار جسيمة على حالتها النفسية، وبعد ما يقارب 4 سنوات وصلنا خبر وفاتها من دون أن نعلم سبب الوفاة الحقيقي. هي ضحية الحرب، وذنبها الوحيد أنها فتاة، فالنّساء يدفعنَ الثّمن دائماً”.

ووسط ذهول الحضور أيضاً، تقف سيدة فلسطينية لاجئة في لبنان: “الحرب تترك آثارها على الجميع. لقد خسرت أبي وإخوتي وشقيقتي الصغرى بعدما لجأنا من فلسطين إلى لبنان، حيث داهمت مجموعة من المسلحين منزلنا في بيروت ما بعد منتصف الليل. صفّوا أبوي وإخوتي عالحيط ورشّوهم بالرصاص. أمّا شقيقتي الصغرى التي تبلغ من العمر سنة و3 أشهر، فقد قُتلت برصاصة في الرأس وهي بين أحضاني، سمعتُ صوت طلقة واحدة وبعدها لم أسمع صوت شقيقتي، ولم يبقَ من عائلتي سواي لأحمل في قلبي وذاكرتي مشاهد موجعة لا تفارق مخيّلتي. إحدى أقاربنا أصيبت بشلل، جرّاء إصابتها، وعاد إليها المسلّحون أنفسهم مرة ثانية وقاموا بالاعتداء عليها. لم تنتهِ القصة هنا. بعد فترة أُعيد توقيفها هي وسائق سيارة الأجرة عند حاجز لإحدى الميليشيات، حيث تعرّضا لأبشع أنواع المضايقات”، وتتابع “أما أنا فنجوتُ عن طريق الصدفة. تمّ توقيفي عند أحد الحواجز، وحاول أحد المسلّحين أن يمدّ يده إلى صدري، ليتأكّد إذا ما كنت أخفي شيئاً، توسّلت إليه ألّا يفعل ذلك، ولكنّه أصرّ! إلّا أنّ أحد الشبان الذي تمّ توقيفهم أيضاً أتى في اللحظة الحاسمة وأنقذني من هذا الموقف المهين. هناك جرحٌ لم يلتئم في صدري، أبكي كل ليلة وشعور التعب لا يفارقني، ولكن من يعطيني حقّي؟”

وركزت الشاهدة الثالثة التي روت قصتها مباشرة، على الأثر الذي تركها عليها ما تعرّضت له: “كنتُ محظية أنّ المعتدي أشبع حاجته قبل أن يعبر بجسدي. اكتفى بمداعبة ثديَي. أنا اليوم لا أريد حماية من المجتمع والجمعيات، لأنني أصبحت قوية بما فيه الكفاية. لا أنكر أنّ مرحلة التعافي والتصالح مع جسدي بعد الاعتداء أخذت وقتًا طويلًا. اعتراني الخجل من حجم صدري لسنوات بسبب ما فعله بي المعتدي. وجود مجموعة كبيرة من الأصدقاء الذين يملكون مستوى كافٍ من الوعي إلى جانبي، ساعدني على تخطي فظاعة ما واجهته وتحويل الأزمة إلى فرصة للمواجهة. لقد دفعت ثمن حبّي لرجل من غير طائفة. نعم، نحن النساء ندفع الثمن دائمًا، ولكنّ المؤكّد أننا قويّات. لقد عملت على تطوير نفسي في مرحلة لاحقة، قمتُ بالانضمام إلى تنظيم سياسي ووجّهتُ طاقتي للعمل في كل ما يتعلّق بشؤون المرأة والطفل. ما هو أهم من الانتهاك الجسدي الذي تعرضنا له كنساء في ذلك الحين، هو الانتهاك الاجتماعي لحقوقنا الذي كان يمنعنا من الانخراط في الحياة تحت مفهوم الحماية. واليوم، نحن لا يمكننا أن نطلب من دولة مفككة تضمّ ميليشيات في موقع سلطة أن تحقق لنا العدالة والحماية”.

أنماط جرائم النوع الاجتماعي في الحرب اللبنانية

تشير المديرة التنفيذية في منظمة الحركة القانونية العالمية، أنتونيا مولفي، إلى أنّ أنواع عدة من العنف تمّت ممارستها في الحرب، ومنها جرائم العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي التي ارتُكبت بشكل ممنهج من قبل العناصر الحكومية والميليشيات الموالية للدولة والميليشيات غير الموالية للدولة، معلّقة بالقول “هذه الجرائم تلمسنا جميعًا كنساء، ونريد أن نضمن عدم تكرارها من خلال عرض هذا التقرير. نريد أن نتعامل مع الماضي ونحقّق العدالة. حقوق النساء لا يجب أن تكون مهملة عند الحديث عن الحرب، لذا يجب أن نروي كيف أثّرت الحرب عليهنّ ونكشف عن العنف الذي واجهنه”. وبحسب التقرير، شملت جرائم العنف الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاغتصاب متعدد الجناة وتشويه الأعضاء التناسلية والتعذيب الجنسي وقتل النساء والفتيات بعد اغتصابهن واختطافهن، والتعري القصري والإكراه على البغاء. استُخدم الاغتصاب كأسلوب من أساليب الحرب لاضطهاد أشخاص من مجتمعات معينة وإذلالهم وكسر إرادتهم وإضعاف أفراد الأسرة. حيث يقول رجل يبلغ من العمر 70 عاماً “أثناء فرارنا من منزلنا سمعنا امرأة تصرخ… كانت مستلقية على الأرض ويقوم رجلان باغتصابها. شُوّه فمها بطريقة وحشية. أوقفت عائلتها عند الحائط ثمّ أرديوا قتلى، وقد تمّ اختطاف أحد أطفالها”.

توصّلت LAW في خلال عملية التحقيق والبحث الأولية إلى تحديد خمسة أنماط من جرائم النوع الاجتماعي التي ارتكبتها ما جرى التعريف عنهم بـ “عناصر حكومية وميليشيات موالية للدولة وأخرى غير موالية لها اشتركت في الحرب اللبنانية، وتتوزع هذه الأنماط على الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاغتصاب متعدد الجناة والقتل والتعذيب الجنسي والإذلال جنسياً، بما في ذلك صعق الثديين والأعضاء التناسلية بالكهرباء، والتعري القسري والإكراه على البغاء.  

الاغتصاب

يُعرّف نظام روما الأساسي الاغتصاب بأنّه “اقتحام أو إيلاج ارتكب بالقوة أو بالتهديد باستخدام القوة أو الإكراه، مثل ذلك الناتج عن الخوف أو العنف أو الإكراه أو الاحتجاز أو الاضطهاد النفسي أو إساءة استخدام السلطة، أو عن طريق الاستفادة من بيئة قسرية”.

وأفاد الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أن اغتصاب النساء والفتيات طوال فترة الحرب اللبنانية ارتكبه جناة مختلفون. تم استخدام الاغتصاب كوسيلة حرب لاضطهاد أشخاص من مجتمعات معينة لإذلالهم وكسر ارادتهم وإضعاف الرجال من أفراد الأسرة: “تعرّضت النساء والفتيات للاغتصاب في منازلهن وفي الشوارع. وكان الجناة في معظم الأحيان يقتلون النساء والفتيات بعد اغتصابهن، ما يصعّب العثور على الضحايا والناجين. وفي بعض الحالات، كان يتمّ اغتصاب النساء أمام أفراد عائلاتهنّ ليُقتلن بعدها”، هذا بعض ما وثقه الشهود والناجيات والضحايا.

ويروي أحد الشهود ما رآه بأم العين عندما كان متطوّعاً مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لنقل الجثث في 1976: “رأيت جثث ثلاث نساء. أفترض أنهنّ تعرّضن للاغتصاب لأنّهن كنّ عاريات والدماء تسيل من بين أرجلهن. كما رأيت جثتي امرأة شابة من عائلة معروفة وابنها الرضيع. تعرفت على المرأة. تم اغتصابها وذبحها. تم تشويه أعضائها التناسلية بطلقات نارية. كما رأيت فتاة أخرى تعرضت للاغتصاب والقتل. لقد تركوا أجساد الفتيات عارية تماماً”. وهذه شهادة من شهادات عدة تضمنها هذا القسم من التقرير.

“رأيت جثتي امرأة شابة وابنها الرضيع. تعرّفت على المرأة. تم اغتصابها وذبحها”

الاغتصاب بواسطة أغراض غريبة

وفق الشهادات، تعرضت النساء والفتيات للإغتصاب بأغراض غريبة، بما في ذلك القوارير، ما يُعدّ اغتصاباً بموجب القانون، وفي هذا الإطار، أفاد مقاتل سابق كبير في السن بأنه رأى في العام 1976 جثثاً لسيدات مع مع زجاجات بيبسي مقحمة في مهابلهن.

وشهدت عاملة إغاثة شاهدة (65 عاماً) بما رأته: “كنت متطوّعة في العام 1976 (…) رأيت حوالي 19 فتاة تتراوح أعمارهن بين 9 و15 عاماً يتمّ اصطحابهنّ إلى المخيم. كنّ في حالة لا يمكن وصفها. ملابسهن وأرجلهن ملطخة بالدم (…) رأيت رجلاً حزيناً يبكي وينتحب سألته عما يجري فأخبرني بأن هؤلاء الفتيات تعرضن للاغتصاب بالقوارير وأنّهنّ ينقلن إلى المستشفى. أخبرني بأنّ اثنتين منهما ابنتاه، وبأنّ الصغرى ليست بينهنّ لأنّها ماتت. اغتصبت بواسطة قارورة كُسرت في داخلها. عانت من نزيف حاد وتوفيت. كانت ابنته التي توفيت تبلغ من العمر 9 سنوات”. 

الإكراه على البغاء يعدّ اغتصاباً

يوثق التقرير اضطرار بعض النساء إلى ممارسة الجنس أو إقامة علاقات جنسية مع عناصر من الميليشيات على أنواعها مقابل الغذاء أو الحماية، ليؤكد معدّوه أنه في إطار النزاع، يرجّح أن ممارسة الجنس أو إقامة علاقة جنسية بين مدنيين وأفراد جماعة مسلحة يشكل اغتصاباً لأن البيئة تبطل أي موافقة فعلية أو متصوّرة.

وتحدث إثنان ممّن تمت مقابلتهما عن شبكات دعارة تم إنشاءها لفائدة الميليشيات. ووصفت امرأة (57 عاماً) شبكة تم إنشاءها في جوار المدرسة التي كانت تعمل فيها في 1982: “تحاول عميلات سريات اصطحاب الفتيات للعمل معهن في الدعارة. أخذت إحدى جاراتنا فتيات أخريات للعمل معها في هذه الشبكة”.  

وقالت عاملة اجتماعية (46 عاماً): “لم يكن هناك حدّ للسن. كان هناك الكثير من الفتيات اللواتي أجبرن على دفع الثمن. فتيات تتراوح أعمارهنّ بين 14 و16سنة. كانت هناك فتاة تبلغ من العمر ثماني سنوات وكانت والدتها تعلم بهذا الأمر، لكنها لم تستطع فعل أي شيء لأنّ الأب مسجون ولا يمكنها إعالة الأطفال”.

“ابنته الصغرى ماتت. اغتصبت بواسطة قارورة كُسرت في داخلها”

الاغتصاب الجماعي والمتعدد الجناة

تعرّضت النساء والفتيات خلال الحرب للاغتصاب الجماعي والاغتصاب المتعدد الجناة. ويعرّف الاغتصاب الجماعي بأنه حادثة واحدة تنطوي على اغتصاب ضحيتين أو أكثر من قبل اثنين أو أكثر من الجناة في الزمان والمكان نفسهما. أمّا الاغتصاب متعدد الجناة فينطوي على اغتصاب ضحية واحدة من قبل اثنين أو أكثر من الجناة في نفس الوقت أو مداورةً. وفي هذا الإطار أخبرت شاهدة عن رؤيتها “4 رجال يغتصبون صديقتها ثم يقتلونها” في العام 1975، فيما أفادت شاهدة أخرى (52 عاماً) ما يلي: “صديقتي إحدى الناجيات من اغتصاب متعدد الجناة. قام 10 مسلحين من أفراد الميليشيات باغتصابها أمام والديها قبل أن يقتلوها”. وروت ناجية من مجزرة (51 عاماً) ما شاهدته بأم العين: “كنت في المخيم عندما قسّمت إحدى الميليشيات النساء بين لبنانيات وفلسطينيات. رأيت الميليشيا تمسك الفتيات والنساء من شعرهن لتأخذهن بعد ذلك إلى غرفة. سمعتهنّ يصرخن. أنا متأكدة من أنهن تعرّضن للاغتصاب، إلّا أنني تمكنت من الفرار. أنقذتني امرأة بادعائها أنني ابنتها، فسمحت لي الميليشيا بالذهاب”. وقالت شاهدة (73 عاماً) : “أخبرني جيراني عن عمليات ارتكاب اغتصاب جماعي في دار مسنين أثناء المجزرة”، واضافت أخرى “أعرف فتاة قُتل أشقاؤها ووالدها. أصيبت ساقها، ولكن عندما وجدوا أنها لم تمت، قام مجموعة رجال باغتصابها”.

التعذيب الجنسي

يُعتبر الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي بمثابة تعذيب بموجب القانون الدولي في حالات معينة، وقد تمّت ممارسته في المعتقلات وعند الحواجز وفي الشوارع خلال فترات الحصار والمجازر. فيقوم المسؤولون في المعتقل بصعق حلمات الضحايا وأثدائهنّ وأعضائهنّ التناسلية وباعتداءات جسدية مكثفة عليهنّ في فترة الطمث. وماتت فتيات لا تتجاوز أعمارهنّ 21 عاماً.

وقالت ضحية تعذيب جنسي (52 عاماً) “قامت الميليشيا بتعذيبي بإجباري على التعري وخلع حجابي. ضربوني بعصا وركلوني في جميع أنحاء جسدي. أُجبرت على حمل كرسي معدني فوق رأسي. كانوا يركلونني بين فخذي وأعضائي التناسلية. قاموا بصعق حلمتي بالكهرباء (…)”

ويفيد معتقل سابق (68 عاماً) عن “تعرض الكثير من النساء للتعذيب الشديد لدرجة أنهن أصبن بإعاقات جسدية وعقلية (…)”، وأبلغت شاهدة تبلغ من العمر 79 سنة: “كانوا في بعض الأحيان يربطون الفتاة في سيارتين ويقودونهما في اتجاهين معاكسين. رأيت فتاة ماتت بعد أن فعلوا ذلك بها. كانت تبلغ 12 أو 13 عاماً”. 

“كانوا يركلوني بين فخذي وأعضائي التناسلية. قاموا بصعق حلمتي بالكهرباء”

قتل النساء والفتيات والرّضع واختطافهم

ارتكبت هذه الجرائم على يد الميليشيات خلال المجازر وفترات الحصار وعند الحواجز وفي الشوارع، وكانت غالبيتها تقع في الليل عندما يقتحم رجال الميليشيات منازل الضحايا ويقتلون عائلات بأسرها. كانوا يُقتلون على أساس المكان الذين ينتمون إليه وانتقاماً أو عقاباً على حوادث أخرى، وتحدث عن هذه الجرائم 91 شخصاً ممن جرت مقابلتهم. وتحدث رجل يبلغ 80 عاماً عن مقتل كل أفراد اسرته خلال إحدى المجازر في العام 1976 “تم اختطاف بعض النساء وأخذهن إلى البعيد، حتى الراهبات اختطفهن، وتم اختطاف أكثر من 15 امرأة وفتاة قيل أنه يتم استجوابهن بشأن جنود”. 

ووثق أستاذ جامعي (49 عاماً): “لم يتم قتل الأجنّة فحسب أثناء (حادثة). فكانوا يلقون الأطفال في الهواء ويطلقون النار عليهم أمام أمهاتهم ثم يغتصبون الأمهات ويقتلوهن”، فيما قالت شاهدة (73 عاماً) : “كثير من النساء والفتيات اللواتي أعرفهنّ مكثن في المخيمات. قُطعت رؤوسهن بواسطة فأس. قُتلت النساء الحوامل بالفؤوس أو بالرصاص”.

ويستذكر محامي (39 عاماً) :”لقد نجا والدي من مجزرة، أخبرني عن اغتصاب نساء من عائلة معروفة في المنطقة، حتى النساء الحوامل كن يقتلن على أيدي الميليشيات”.

الاختفاء القسري للرجال

كان الرجال يختفون قسراً في الغالب على أيدي الميليشيات، وهذا كان له أثره على النساء والفتيات وترتّب عنه انعكاسات سلبية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، إلّا أنّ النساء تعرّضن للاختفاء أيضاً. كان الضحايا يختفون من الشوارع والمستشفيات والمعتقلات وعند الحواجز. ويقدّر عدد الأشخاص المختفين قسراً على أيدي الميليشيات المسلّحة بنحو 17500 شخصاً. وكانت معاناة النساء من الاختفاء القسري ثلاثية الأبعاد وتشمل فقدان أحد افراد ألأسرة، فقدان المعيل، ومن ثم الخطر على السلامة الشخصية.

وهنا تحكي سيدة تبلغ من العمر 71 عاماً كيف فُقد شخصان من عائلتها في 1975: “أخذ مسلحون شقيقي الأكبر ولم نره مرة ثانية. خبأنا أشقائي الأخرين، وفي الصباح بدأوا بإطلاق النار على الصبية ورأيت أربعة يقتلون، كما اختفى نسيب شقيقي. أعطونا في اليوم التالي بطاقته. انضممنا إلى لجنة عائلات المختفين”.

وأفاد مقاتل سابق (63 عاماً) بما يلي: “كان أشخاص من مختلف الأديان يختطفون أشخاصاً من الجانب المعارض. كان لدي صديق يبيع الصحف. ذات يوم، اختفى فجأة إلى أن وجدنا جثة بعد عملية بحث. كان عمري 17 عاماً حينذاك. وعنما ذهبت لأرى ما حدث، كانت عيناه قد اقتلعتا وأنفه ولسانه اقتطعا. نكّلوا به تنكيلاً”.

العنف الأسري المرتكب ضدّ النساء والأطفال

تمّ توثيق العنف الأسري المرتكب ضدّ النساء والأطفال خلال الحرب، ويبدو تفاقمه بسبب النزاع، حيث أرغم نحو مليون شخص على ترك منازلهم مما أجبر هؤلاء على العيش في ظروف معيشية مؤلمة ولا يمكن تحملها. وتسببت الظروف إلى جانب مناخ الضغط المتزايد باعتداءات جنسية انتهازية في مناطق النزاع كما في المناطق البعيدة عن النزاع.

وناقشت عاملة اجتماعية ما سمعته عن أفراد أسر يستغلّون الفتيات نتيجة لظروف المأوى غير الكافية، بخاصة في الحالات التي تضطر فيها العائلات للسكن في أماكن صغيرة. وقالت: “كان ستة أو سبعة افراد ينامون بجانب بعضهم البعض في غرفة صغيرة كلاجئين، تعرّضت فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً للتحرش على يد شقيقها لأنهما كانا ينامان بجانب بعضهما البعض”.

وتنوّع العنف الأسري من الضرب والإساءة اللفظية والجنسية من قبل الأزواج وأفراد الأسرة الذكور نتيجة الآثار النفسية المطوّلة للحرب. وأفادت محاضرة في العلوم السياسية: “رأينا الكثير من النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب من قبل أزواجهن. كان ذلك بسبب الحرب. أخبرتني إحدى النساء بأنّ زوجها كان يمارس الجنس في أذنها وفي إبطها. أفقدها ذلك صوابها. أخبرتني بأنّه كان تحت تأثير المخدر”.

وقالت ناجية (58 عاماً): “كنت على وشك التعرّض للاغتصاب في مراهقتي. لا أعرف من كان الجاني. ذهبت والدتي لإحضار اللوازم وكنت وحدي في المبني. تبعني فتى في العشرينات من عمره يحمل سكيناً إلى المبنى. لم تكن ملابسه تبدو وكأنه رجل ميليشيا. طلب مني أن أمشي أمامه وأخذني إلى السطح. أراد أن يرى ثديي. ففعلت ذلك. انهرت. كل ما فعله في النهاية هو ممارسة العادة السرية أمامي وغادر عندما وصل للنشوة. أثّر هذا فيّ كثيراً. خشيت مغادرة المنزل لمدة شهر تقريباً”.

“كانوا يلقون الأطفال في الهواء ويطلقون النار عليهم أمام أمهاتهم ثم يغتصبون الأمهات ويقتلوهنّ”

دور المرأة في الحرب

أدت النساء دوراً نشطاً في الحرب كأعضاء في الميليشيات على أنواعها، وكان دوراً غير قتالي في الغالب. وحسب مصادر موثوقة للتقرير، كن يلتحقنفي كثير من الأحيان في سن مبكرة بداعف العقيدة والحاجة إلى حماية مجتمعهن، ويشاركن في النزاع للتحرر من القيود المجتمعية والأعراف الخاصة بالنوع الإجتماعي. وعملت النساء على جميع المستويات في النزاع اللبناني، بما في ذلك كمقاتلات وممرضات وطاهيات وعناصر استخبارات ومسؤولات لوجستيات. ولكن دور المرأة غالباً ما تبلور في تقديم خدمات الطهي والتنظيف ونادراً ما كنّ يشاركن في القتال. ويؤكّد الأشخاص الذين قابلهم معدو التقرير أنّ النساء اضطلعن بأدوار متنوعة بما ذلك كمقاتلات او مقدمات رعاية صحية. وقالت امرأة التحقت بالميليشيات خلال فترة المراهقة أن انتسابها إلى المجموعة يعود في جزء منه إلى كونها نشأت وهي تحمل ضغائن ولكن أيضاً للحصول على مزايا بما في ذلك الطعام والمساعدة الطبية. وأضافت “عندما كنا فتيات صغيرات في بداية المراهقة تدربنا على يد امرأة على القتال، كانت تعلمنا كيفية الهجوم واستخدام القنابل اليدوية. كنا ما يقارب 40 فتاة”. تمّت ترقية السيدة التي تتحدث لاحقاً إلى دور قيداي لتولي شؤون المرأة في إحدى الميليشيات وعملت كممرضة.

وأفادت مقاتلة سابقة عن “تعرض النساء للتحرّش داخل ميليشياتهن”،  فيما أخبرت مقاتلة سابقة أخرى (65 عاماً)  تجربتها “كان عمري أقل من 20 عاماً. كنت مسؤولة عن النساء وأحاول تقديم الدعم الطبي للناس. كنت أحضر الخبز وتعرضت لتهديدات كثيرة. رأيت الكثير من الجثث وأصبت بالاكتئاب. كانت النساء جزءاً من الصراع. لقد قدّمن الدعم للرجال”.

ثقة الضحايا والناجيات بتحقّق المساءلة مفقودة

يشير تقريرLAW  إلى أنّ الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي التي ارتكبت خلال الحرب اللبنانية تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وتحديداً المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف. وتتعلّق الانتهاكات بالفقرتين الفرعيتين 1(أ) و1(ج) اللتين تحظران “الاعتداء على الحياة وعلى الشخص، ولا سيما القتل بجميع أنواعه، وضروب التشويه والمعاملة القاسية والتعذيب”، و”الاعتداء على الكرامة الشخصية، وبالأخص المعاملة المهينة التي تحطّ بالكرامة”.

أفلتت العناصر الحكومية والميليشيات الموالية للدولة والميليشيات غير الموالية للدولة تمامًا من العقاب على ما ارتكبته من جرائم قائمة على النوع الاجتماعي خلال الحرب، وللأسف، لم يتمّ إحراز أي تقدم يذكر لمحاسبة الجناة حتى تاريخ نشر التقرير، علماً أنّ الوصول إلى العدالة في ما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية اللبنانية منعدم، لا سيما في ما يخص الجرائم القائمة على النوع الاجتماعي. ويشير التقرير إلى أن هذا الأمر قد يكون نتيجة مباشرة لقانون العفو العام اللبناني رقم 84 لعام 1991 الذي منح العفو عن معظم الجرائم المرتكبة في فترة الصراع، بما في ذلك جميع الجرائم ضد المدنيين. ووفقًا للاستطلاع الذي أجرته LAW، أفاد المستجيبون بنسبة 99% بأنهم لا يؤيدون قانون العفو، لكونه قد أسهم في الإفلات من العقاب الذي اتسمت به حقبة ما بعد الصراع في لبنان، إلّا أنّ هذا ليس السبب الوحيد وراء عجز الناجيات/ين عن الوصول إلى العدالة.

وفي هذا السياق قالت امرأة تبلغ من العمر 46 عاماً “لن تروي النساء الضحايا قصصهنّ، فهنّ يحتجن إلى الحماية إذا ما قرّرن القيام بذلك. توصم الفتيات بالعار إذا ما تعرّضن للاغتصاب أو التحرّش لأنهنّ يمثّلن شرف العائلة”. كما قال أشخاص خلال المقابلات والمناقشات إنّ المساءلة بعد الصراع لم تكن قابلة للتحقيق. ويحمّل معظمهم مسؤولية ذلك للسياسة الحالية في لبنان التي تسيطر عليها الميليشيات التي تحولت إلى أحزاب سياسية، أو لمجرّد مرور الكثير من الوقت على ذلك. وفي ما يتعلّق بالسياسة، قالت امرأة تبلغ من العمر 60 عامًا “تشكّل الأحزاب السياسية العقبة الحقيقية، قانونيًا وطبيًا ونفسيًا. لا أثق في الحكومة اللبنانية”. وقالت سيدة أخرى اعتُقلت وتعرّضت للتعذيب في فترة حملها في العام 1982 “لا يمكننا ملاحقة الأحزاب السياسية”. كما لخّص أحد الأشخاص المشاعر العامة التي تنتاب الكثيرين ممّن تحدثت إليهم LAW، بالقول “هناك قوانين لجميع الحالات إلا أنها لا تُنفّذ. لا عدالة في لبنان”.

من جهة أخرى، أعربت المديرة التنفيذية في منظمة الحركة القانونية العالمية LAW أنتونيا مولفي عن الوعي الكامل تجاه الظروف التي يمرّ بها لبنان، موضحة أنّ النظر في الماضي اليوم هدفه توعية الأجيال عمّا حصل لمنع تكراره من جديد، وتضيف “هذه الجرائم تطال المجتمع ككلّ وأثرها يستمر بشكل دائم، لذا لا بدّ من إعادة النظر بها”، لافتة إلى أنّ عددًا من الأسر والأفراد لا زالوا يعيشون حياتهم يومياً بلا عدالة، ومنهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت، معربة عن تخوّفها من تكرار الجرائم التي حصلت سابقاً في الحرب اللبنانية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، جندر ، احتجاز وتعذيب ، منظمات دولية ، اختفاء قسري ، الحق في الخصوصية ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني