أخلاقيّات العدالة: كيف تُسهم في ضمان محاكمات أقلّ تهميشًا وأكثر إنصافًا للعاملات المنزليّات المهاجرات


2023-05-18    |   

أخلاقيّات العدالة: كيف تُسهم في ضمان محاكمات أقلّ تهميشًا وأكثر إنصافًا للعاملات المنزليّات المهاجرات

مقترَح دليل عملي للقضاة والمحامين

بشأن الدعاوى المتّصلة بالعاملات المنزليّات المهاجرات

قبل الحرب اللبنانيّة (1975-1990)، كانت العائلات الميسورة تستقدم من القرى اللبنانيّة والدول العربيّة المجاورة، لا سيّما من سوريا، وبدرجة أقلّ من فلسطين ومصر، فتيات قاصرات للعمل لديها. ودرجت العادة على استمرار الفتيات بالعيش في منازل تلك العائلات، حتّى يحين وقت زواجهنّ، وعلى اقتصار زيارة أهاليهنّ على مرّة واحدة في السنة لقبض الرواتب[1].

خلال الحرب، وبعدها بشكل خاص، بدأت ظاهرة استقدام عاملات المنازل من دول أجنبيّة، لا سيّما الدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا، التي شجّعت هجرة الفتيات لديها إلى الخليج والشرق الأوسط، للحصول على عائدات بالعملة الأجنبيّة. تشير الدراسات إلى أنّ المكتب الأوّل لاستقدام العاملات من سريلانكا فتح أبوابه في لبنان عام 1978[2]. وقد ازداد عدد المكاتب بشكل ملحوظ بعد عام 1993، في ظلّ غياب أيّ تنظيم لقطاع الرعاية المنزليّة أو أيّ سياسة عامّة للهجرة، وتحوّل استخدام العاملات المهاجرات في الخدمة المنزليّة إلى شكل من أشكال الوجاهة الاجتماعيّة. وقد بلغت قيمة التحويلات من لبنان إلى الخارج عام 1996 نحو 10 ملايين دولار في الشهر الواحد[3]. وهذا الأمر ما كان ليتمّ لولا تدنّي أجور العاملات مقابل ارتفاع قيمة العملة اللبنانيّة، والصورة النمطيّة الدونيّة للعاملات في الخدمة المنزليّة والعمل المنزلي بشكل عام[4]، والأهمّ، نظام الكفالة الذي سمح لأصحاب العمل باستغلال العاملات من دون وجود أيّ آليّة جدّية للتظلُّم، أو إمكانيّة الانتقال إلى عمل آخر، أو العودة إلى الوطن. ولم يقتصر الاستغلال على نوع العمل والراتب فحسب، وإنّما تعدّى ذلك حتّى بات يمسّ أبسط حقوقهنّ الإنسانيّة، ممّا أنتج شكلًا من أشكال الإتجار بالبشر المنتشر، والمتعارف عليه اجتماعيًّا. فقد صار صاحب العمل يتصرّف كمالك لهذه “السلعة”، أو كما لو أنّ العاملة جزء من مقتنياته المنزليّة، يستغلّها بلا أيّ ضوابط، ويبادلها، ويُتاح له التخلّي عنها لأنّها لم تعُد تعجبه، أو لأنّ بإمكانه أن يحصل، بدلًا منها، على سلعة يراها أفضل، وذلك بحسب الجنسيّات والمهارات اللغويّة، حيث تتحدّد أجور العاملات وفق هذه المتغيّرات، وليس وفق الكفاءة و/أو نوع المهامّ الوظيفيّة وحجمها[5].

وقد سعتْ بعض الدول المصدّرة للعمالة إلى تكريس حدّ أدنى من شروط العمل، أو فرض حظر على السفر لمنع مواطنيها من العمل في لبنان لعدم توافر بيئة سليمة (ومنها سريلانكا وأثيوبيا ومدغشقر سابقًا، وإندونيسيا وسيراليون والسودان والفيليبّين حاليًّا)[6]، ولكنّ نجاحها بقي محدودًا، لا بل عرّض العاملات في بعض الأحيان للمزيد من المخاطر[7]. في المقابل، صُوّرت أيّ محاولة من المراجع الرسميّة اللبنانيّة للحدّ من استغلال العاملات أو تحسين شروط عملهنّ (سواء لجهة تمتّع العاملة بحرّية الخروج من مكان العمل “المنزل” خلال أوقات الراحة أو العطلة، أو وضع حدّ أقصى لساعات العمل، أو تأمين غرفة خاصّة بها، أو ضمان حقّها في الحدّ الأدنى للأجور، أو التواصل مع الآخرين)، أو تمكينهنّ من اللجوء إلى القضاء، أو التمتّع بأيّ حماية قانونيّة أو قضائيّة، بمثابة تهديد للوحدة العائليّة ولحقّ المرأة في العمل خارج المنزل، وبمعنًى آخر، لمجموعة من الحقوق التي بات استخدام عاملة مهاجرة شرطًا لضمانها (بخاصّة رعاية الأشخاص المسنّين وذوي الحاجات الخاصّة والأطفال). ويمكن اعتبار أنّ ضمان حقّ استخدام عاملات بأجور متدنّية لفئات واسعة من الناس شكّل أحد العوامل التي استخدمتها السّلطات العامّة لتحسين حياة المواطنين، ولو على حساب الحدّ الأدنى من مبادئ الكرامة الإنسانيّة والنظام العام[8]. وعليه، وفي حين استمرّ نظام الكفالة، فإنّ السلطات الرسميّة فشلت في إقرار نصوص حمائيّة، كإلغاء استثناء العاملات من تطبيق أحكام قانون العمل، وإقرار عقد عمل موحَّد يتلاءم مع معايير العمل الدوليّة، وتفعيل آليّات فعّالة للشكاوى وحلّ النزاعات.

وبالرغم من الواقع المؤلم الذي تعيشه أغلبيّة العاملات نتيجةَ عدم التوازن في علاقات العمل، لم ينجح القضاء، وبشكل خاص النيابة العامّة، في إعادة بعض التوازن إلى هذه العلاقات. كما لم تتمّ محاكمة أيّ من أصحاب العمل بجرم الإتجار بالبشر، بالرغم من وجود شبهات قويّة على تعرّض العاملات للاستغلال والعمل الجبري، وبالرغم من وجود نصوص لبنانيّة ودوليّة نافذة في هذا الإطار. وهذا ما نستشفّه من التقارير الصادرة عن هيئات حقوقيّة عديدة في السنوات الأخيرة[9].

انطلاقًا من الثغرات المذكورة أعلاه والتوصيات المعلَّلة في هذه التقارير، كان لا بدّ من وضع هذا الدليل، أوّلًا، لتأكيد دور القضاة والنوّاب العامّين والمحامين في الحدّ من الممارسات المجتمعيّة التي أصبحت أعرافًا بالرغم من عدم قانونيّتها وانتهاكها أبسطَ حقوق الإنسان (وأبرزها احتجاز جواز سفر، والادّعاء بالسرقة، والتأخُّر أو الامتناع عن تسديد الأجور…)؛ وثانيًا، لتسهيل القيام بهذا الدور من خلال وضع توجّهات عمليّة مسنَدة إلى الاتّفاقيات الخاصّة بحقوق الإنسان ومعايير العمل الدوليّة والممارسات الفُضلى في هذا المجال.

وعليه، يتضمّن هذا الدليل أربعة أقسام. يستعرض القسم الأوّل واقع عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، لجهة أعدادهنّ وجنسيّاتهنّ وأوضاع إقاماتهنّ (نظاميّات وغير نظاميّات) وظروف عملهنّ، مع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات الناتجة من الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا الصحّية. كما يتناول القسم الثاني أبرز خصائص النظام القانوني الحالي الذي يُطبَّق عليهنّ، والنتائج المترتّبة على ذلك، ومدى تعارض هذا النظام مع حقوق الإنسان والتزامات لبنان الدوليّة على صعيد حقوق العمل، والتي يمكن الاستناد إليها من أجل تحسين واقع العاملات في لبنان. أمّا القسم الثالث، فهو مخصّص لدراسة الأهداف الأساسيّة المتّصلة بالوظيفة القضائيّة ومهنة المحاماة، والواجب مراعاتها عند النظر في الدعاوى المتّصلة بالعاملات المنزليّات المهاجرات، فضلًا عن الآراء والتصوّرات المسبقة التي تمّ رصدُها في النزاعات القضائيّة، والتي يجدر التنبّه لها لتعارُضها مع مبادئ المحاكمة العادلة والمهنيّة، مع التذكير بأهمّ الأحكام القضائيّة ومبادرات المحامين التي أدّت إلى تطوير الحماية القانونيّة ومحاربة التحيُّزات الاجتماعيّة أو الآراء المسبقة. يخصَّص القسم الرابع لعرض التطبيقات والتوصيات العمليّة أمام القضاء الجزائي وقضاء العجلة ومجلس العمل التحكيمي ومجلس شورى الدولة.

لتحميل الدليل، إضغطوا هنا


[1] عن هذا الأمر، راجِعْ دراسة راي جريديني “Women Migrant Domestic Workers in Lebanon”، ص. 2 على الرابط الآتي: https://fudepa.org/Biblioteca/recursos/ficheros/BMI20060000461/imp48e.pdf

[2] المرجع نفسه، ص. 2.

[3] المرجع نفسه، ص. 3.

[4] لطالما كان العمل المنزلي غير محمِيّ ويطال الفئات الأكثر تهميشًا في العالم. وهذا ما أكّدته ديباجة اتّفاقية منظّمة العمل الدوليّة للعمل اللائق للعمّال المنزليّين رقم 189 بالقول إنّ العمل المنزلي في العالم لا يزال منتقص القيمة ومحجوبًا، وإنّ النساء والفتيات هنّ اللواتي يضطلعن به بصورة أساسيّة، والكثيرات منهنّ من المهاجرات أو من أفراد مجتمعات محرومة، وهنّ معرّضات على وجه الخصوص للتمييز فيما يتعلّق بظروف الاستخدام والعمل ولغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان. وأضافت أنّ العمّال المنزليّين يشكّلون نسبة كبيرة من القوى العاملة في البلدان النامية التي تشهد على مرّ التاريخ ندرة في فرص العمل في الاستخدام المنظّم، ويظلّون من أشدّ العمّال تهميشًا.

[5] عن هذا الأمر، راجِعْ مقال لور أيوب المنشور في تاريخ 9/3/2021 على موقع المفكّرة تحت عنوان: “محمّد زبيب يقرأ نظام الكفالة في ظلّ الانهيار: أخشى تعميم ممارسة استغلال العمّال الأجانب على المقيمين”. 

[6] عن هذا الأمر، راجِعْ موقع المديريّة العامّة للأمن العام اللبناني على الرابط الآتي، علمًا أنّ التعميم لا يشمل الفيليبين من ضمن الدول التي منعت رعاياها من القدوم للعمل كعاملات منزليّات في لبنان، بالرغم من استمرار الحظر من الدولة الفيليبينيّة: https://www.general-security.gov.lb/ar/posts/38

[7] أدّى المنع إلى الالتفاف على الإجراءات النظاميّة في بلد المنشأ، وبنتيجة ذلك، ارتفاع تكاليف الاستقدام وتعريض العاملات لمزيد من الأعباء الماليّة والضغوط وأشكال الاستغلال. 

[8] عن هذا الأمر، راجِعْ مقال نزار صاغية وسعدى علوه المنشور في تاريخ 4/2/2021 على موقع المفكّرة تحت عنوان: “عاملات المنازل في زمن الكورونا وسائر الأزمات: نظام الكفالة المأزوم لم يفقد مخالبه بعد”.

[9] عن هذا الأمر، راجِعْ التقرير الصادر عام 2020 عن المفكّرة ومنظّمة العمل الدوليّة تحت عنوان: “متاهة العدالة: عاملات المنازل أمام المحاكم اللبنانيّة” على الرابط الآتي: https://legal-agenda.com/wp-content/uploads/Legal-Agenda_Report-2020_Arabic-migrant-workers-judiciary-2021.pdf

والتقرير الصادر عام 2018 عن منظّمة العفو الدوليّة تحت عنوان “بيتهم سجني: استغلال عاملات المنازل المهاجرات في لبنان” على الرابط الآتي: https://www.amnesty.org/ar/documents/mde18/0022/2019/ar/

والتقرير الصادر عام 2010 عن هيومن رايتس واتش تحت عنوان: “بلا حماية: إخفاق القضاء اللبناني في حماية عاملات المنازل الوافدات” على الرابط الآتي: https://www.hrw.org/ar/report/2010/09/16/256124

انشر المقال



متوفر من خلال:

دراسات ، قضاء ، محاكمة عادلة ، مساواة ، جائحة كورونا ، منظمات دولية ، قرارات قضائية ، عمل منزلي ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني