أبعد من قضية المطران الحاج: حصانة رجال الدين- تابع


2022-07-25    |   

أبعد من قضية المطران الحاج: حصانة رجال الدين- تابع
الصورة من وكالة الأناضول

رأينا في مقالنا السابق أن القوانين اللبنانية لا تعترف بوجود حصانة جزائيّة لرجال الدين وأنّ هذه الحصانة لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تعتبر داخلة في نظام الأحوال الشخصية الذي تعترف به المادة التاسعة من الدستور اللبناني.

وقد أثرنا القانون 1060 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية لسنة 1990 الذي ينص على حصرية حق الحبر الأعظم (البابا) دون سواه في محاكمة الأساقفة في الدعاوى الجزائية، وهو القانون الذي استند اليه قاضي التحقيق العسكري فادي صوّان من أجل إعلان عدم اختصاصه في قضية المطران موسى الحاج، أي أن القاضي اعتبر أنّ الحصرية المنصوص عليها في هذا القانون تهدف إلى استبعاد صلاحية السّلطة المدنية للدولة واستبدالها بالسّلطة الكنسيّة.

في حقيقة الأمر، إن قراءة متأنّية لمجموعة قوانين الكنائس الشرقية تقودنا إلى خلاصة مختلفة تماما. فالحصرية التي ينص عليها القانون 1060 ليست موجهة ضد السلطة الزمنية في الدولة بل هي تهدف إلى منع أي سلطة أخرى في الكنيسة الكاثوليكية ذاتها من محاكمة الأساقفة في القضايا الجزائية، أي أنّ الحصرية هي أمر يخض الكنيسة في تنظيمها الداخلي بحيث لا يحقّ مثلا للبطريرك، أو لسينودس الأساقفة في الكنيسة البطريركية (اجتماع جميع الأساقفة برئاسة البطريرك)، أو للسينودس الدائم (الذي يتألف من البطريرك وأربعة أساقفة يعينون لخمس سنوات)، محاكمة الأساقفة بل يتوجب رفع قضيتهم مباشرة إلى الحبر الأعظم بوصفه السلطة العليا في الكنيسة.

وهذا ما يظهر جليا من خلال تحليل الباب السابع والعشرين من مجموعة قوانين الكنائيس الشرقية المخصص للقانون الكنسي الجزائي (droit pénal canonique) والذي يحمل العنوان الآتي: “في العقوبات الجنائية في الكنيسة”. فالعقوبات التي تفرضها قوانين هذا الباب تختلف حسب طبيعة الجرم، لكن الملاحظ أن كلّ هذه العقوبات وكلّ هذه الجرائم هي دينية بطبيعتها هدفها إما التأديب أو التكفير عن الذنب من أجل خلاص نفس مرتكب الجريمة كون العقوبة هي وسيلة للتوبة.

وهكذا يمكن لنا أن نستعرض بعض هذه العقوبات كي يصبح الأمر أكثر وضوحا:

  • عقوبات يقتضي فيها القيام بأعمال دينية أو أعمال عبادة أو محبة كالصوم والصلوات والحجّ التقوي والصدقة والرياضة الروحية (قانون رقم 1426).
  • التوبيخ العلني أمام شهود أو برسالة رسمية (قانون رقم 1427).
  • منع الإقامة في مكان ما أو الأمر بالإقامة في مكان معين (قانون رقم 1429).
  • الحرمانات الجزائية أي الحرمان من الوظائف والامتيازات والألقاب والشارات المتعلقة بالدرجة الكهنوتية أو الحرمان من التعليم في المعاهد اللاهوتية (القانون رقم 1430).
  • الحرم الأصغر (منع تناول القربان المقدس أو الاشتراك في القداس) والحرم الأكبر (المنع أيضا من تقبل كل أسرار الكنيسة ومن ممارسة أي منصب أو خدمة أو وظيفة في الكنيسة) المحددان في القانون رقم 1431 و1434.

أما الجرائم التي تطبق عليها هذه العقوبات فهي أيضا دينية بمجملها نذكر منها على سبيل المثال نكران عقائد الإيمان ورفض الخضوع للسلطة الكنسية الشرعية أو الحنث باليمين أمام مرجع كنسي أو انتهاك القدسيات.

أما الجرائم التي لا علاقة لها بالدين فيتم ذكرها أيضا، لكن العقوبات التي تترتب عليها هي فقط دينية. قالقانون رقم 1450 مثلا ينص على أن من يرتكب جريمة القتل يعاقب بالحرم الأكبر. فهل يعقل أن من يقتل انسانا أخرا سيعاقب فقط بهذه العقوبة الدينية بينما سيعفى من أي عقوبة أخرى تفرضها السلطات المدنية؟ كذلك الأمر بالنسبة للقانون رقم 1451 الذي يفرض عقوبة الحرم الأكبر على كلّ من يخطف إنسانا أو يحتجزه ظلما أو يجرحه جرحا بليغا، أو يعذّبه في جسده. فهل من المتخيّل أن وجود عقوبة الحرم الأكبر ستحجب سائر العقوبات الزمنية وتمنع تطبيق قانون العقوبات النافذ في لبنان؟

وما يحسم هذا الجدال نهائيا هو القانون رقم 1409 الذي ينصّ صراحة أنّ القاضي (بمعناه الكنسي) انسجاما مع ضميره وفطنته يستطيع أن يمتنع عن فرض العقوبة أو فرض عقوبة أخف بحقّ المتهم “إذا كانت السلطة المدنية قد عاقبته، أو من المتوقع أن تعاقبه عقابا كافيا”.

وهكذا يتبين لنا أن القانون الكنسي نفسه لا يحجب اختصاص السلطة المدنية، لا بل ينصّ فقط على العقوبات الجزائية بمعناها الكنسي وعندما يحصر صلاحية محاكمة الأساقفة بالحبر الأعظم فهم في حقيقة الأمر يقصد فقط العقوبات الجزائية التابعة للحق الكنسي. وهذا ما ينسجم مع المادة 20 من قانون تحديد صلاحيات المراجع المذهبية المسيحية لسنة 1951 والذي يقر بحصرية صلاحية الكنيسة من أجل فرض العقوبات الدينية، لكنه يحتفظ للدولة باختصاصها الجزائي كاملا دون أي مسّ أو انتقاص. فقرار قاضي التحقيق العسكري فادي صوان لا يخالف فقط التشريع اللبناني لكنه أيضا يخالف مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الذي تذرع به من أجل خلق حصانة لا وجود لها في النظام القانوني اللبناني ولا يمكن لها أن توجد في أي دولة حديثة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم عسكرية ، محاكم دينية ، محاكم مدنية ، محاكم جزائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني