أبرز الأحكام القضائية في 2014: حق المعرفة في مواجهة ذاكرة الأبطال


2015-02-16    |   

أبرز الأحكام القضائية في 2014: حق المعرفة في مواجهة ذاكرة الأبطال

كما في كل سنة، تستعيد “المفكرة” أهم الأحكام القضائية التي تم رصدها، والتي آلت الى تحقيق مكسب حقوقي هام. وقد تميزت هذه السنة بمجموعة من الأحكام التي بدا فيها القضاء في حال تفاعل حقيقي مع مطالب وحراكات اجتماعية بارزة، ولا سيما في قضايا ذوي المفقودين وحماية المرأة من العنف الأسري أو أيضاً حرية التعبير. كما تميزت هذه السنة بمجموعة من الأحكام الهامة في قضايا الفئات المهمشة قانوناً.

أولاً، الحكم المتصل بالأشخاص المفقودين:
في 4-3-2014، فاجأ مجلس شورى الدولة ذوي المفقودين والرأي العام بإصدار قرار تاريخي تضمن تكريساً واضحاً لحقهم بمعرفة مصائر هؤلاء كحق طبيعي لا يقبل أي استثناء أو تقييد. وقد أبطل المجلسقرار رئاسة مجلس الوزراء الضمني برفض تسليم ملف التحقيقات التي قامت بها لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين لذويهم، ليخلص الى إعلان حقهم بالاستحصال على نسخة عن الملف الكامل عملاً بحق المعرفة. وكانت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وجمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) قد تقدمتا في 24/12/2009، بدعوى الى مجلس شورى الدولة بهذا الخصوص.

ولهذا القرار أهمية مزدوجة:

–        أهمية قانونية فائقة، فهو شكل إحدى الحالات النادرة التي أدت الى استيلاد حق جديد هو حق المعرفة لذوي المفقودين. وقد توصل المجلس الى ذلك من خلال الاستناد الى عدد من الحقوق هي حقوق الإنسان بالحياة وبالحياة الكريمة وبمدفن لائق، وحق العائلة باحترام الأسس العائلية وجمع شملها، وحق الطفل بالرعاية الأسرية والعاطفية والحياة المستقرة، وهي حقوق كرّستها المواثيق والشرائع الدولية التي انضم اليها لبنان. الى ذلك، ذهب المجلس الى إعلان حق المعرفة حقاً طبيعياً لا يقبل أي تقييد أو انتقاص أو استثناء إلا بموجب نص قانوني صريح، وهو أمر غير متوافر في القضية الحاضرة.

–        أهمية سياسية واجتماعية: فعدا أن الحكم جاء بمثابة تتويج لنضالات ذوي المفقودين، فهو يقدم بذرة ذات طابع انقلابي على النظام السائد منذ انتهاء حرب 1975-1990. ففيما بُني هذا النظام على تمجيد أبطال الحرب ونكران ضحاياها بالكامل وطمس الذاكرة منعاً لأي اضطراب ضميري، وجد نفسه مع هذا القرار أمام نقيضه تماماً: حق ضحايا الحرب (ذوي المفقودين) بالمعرفة والعدالة مع ما يستتبع ذلك من تذكر واضطراب ضميري. فلا تكون الذاكرة مجموع ذاكرات بطولات تسجل هنا وهنالك، ذاكرة انتقائية طائفية، فيزيد الانقسام والاستقطاب الاجتماعيان حدة، إنما بالدرجة الأولى ذاكرة وجع، ذاكرة جماعية وطنية.

–        وبالنظر الى أهمية هذا الحكم، قدّم ذوو المفقودين طلباً رسمياً الى وزارة العدل بإنشاء نصب حيّ تخليداً لحيثية القرار المتصلة بإعلان حق المعرفة وتذكيراً بوجوب تنفيذها. وقد قدّموا بذلك فكرة النصب الحي، أي النصب الذي يرافق ويمهد لعمل العدالة ويذكّر به، على فكرة النصب التذكاري الذي غالباً ما عُرض عليهم بمثابة بديل من عمل العدالة. إلا أن الوزارة لزمت الصمت بهذا الشأن.

       
–        ثانياً: الأحكام المتصلة بالحريات العامة والحقوق الأساسية:
–        هنا، برز عدد من الأحكام، أبرزها الآتية:

–        1- جواز تغيير الاسم في حال ارتباطه بانتماء طائفي عملاً بحرية المعتقد:
–        هنا، نسجل الحكم القاضي بالسماح بقبول طلب سيدة لبنانية (27 سنة) بتغيير اسمها الذي يؤشر الى انتمائها الى طائفة معينة باسم آخر، وذلك عملاً بحرية المعتقد. وقد صدر هذا الحكم بتاريخ 24-3-2014، عن القاضي المنفرد الجزائي في جويا القاضي بلال بدر. ويفهم من نص الحكم أنها كانت قد طلبت منذ سنوات من محيطها مناداتها بالاسم الثاني، بعدما شطبت قيدها الطائفي من قيود السجلات الشخصية. كما يفرد القرار بعض مقاطعه لعرض دوافعها في هذا المجال: فهي اقتنعت “من خلال معايشتها للواقع اللبناني ورؤيتها لصراع الطوائف فيه، الذي وصل إلى حد الاقتتال … بعدم جدوى الانتماء إلى دين معين، وعموماً الى أي طائفة”وهي “تعتبر نفسها فتاة علمانية لا ترغب بالانتماء إلى أية طائفة لا من حيث الاسم ولا العقيدة” وهي “غير مقتنعة بالواقع الفعلي للطوائف والأديان في لبنان” وإن كانت “تؤمن بوجود الله”. وتالياً، جاء استدعاؤها استكمالاً لنضالاتها السابقة التي هدفت الى تغليب الهوية التي تريدها على هويتها الطائفية الموروثة.

–        وأهية القرار تكمن هنا في أمور عدة:

–        الأول، أنه أكد مجدداً الطابع المطلق لحرية المعتقد، وذلك تيمناً بعدد من القرارات الصادرة سابقاً عن عدد من المحاكم العدلية[1]. وبذلك، وبخلاف ما جاء في قرارات قضائية صدرت مؤخراً[2]، تشمل حرية المعتقد إمكانية اعتناق معتقد معين أو عدم اعتناقه من دون أن تكون ممارستها محصورة بالأديان المعترف بها رسمياً.

–        والثاني، أنه أول قرار قضائي يؤكد أن حرية المعتقد تشمل أيضاً حرية التصريح أو عدم التصريح عنه، وهي الحرية التي استند اليها الأشخاص الذين طلبوا شطب قيودهم الطائفية. لا بل إن القرار ذهب الى حد القول بأن عدم إظهار الانتماء الديني، هو حق يضمنه الدستور اللبناني، مستمداً ذلك من حرية إقامة الشعائر الدينية المكرسة في المادة 9 من الدستور.

–        وبالطبع، يطرح هذا الموقف القضائي أسئلة مشروعة حول إمكانية تطوره مستقبلاً، في اتجاه الاعتراف بهامش أوسع للمواطنين اللبنانيين بتغيير أسمائهم وتالياً بفرض الهوية التي يريدونها لأنفسهم على الهوية المفروضة عليهم بالولادة. وربما تؤدي حيطة القاضي في اشتراط قبول الطلب بنجاح الطالب بانتزاع اعتراف محيطه به، الى تحولات غير منتظرة في سياق هذه المعركة: فيتحول الناشط من مطالب لإعمال الحق الملازم لشخصه بمعزل عما يريده الآخرون، الى فاعل اجتماعي يسعى الى إقناع محيطه المباشر، أقله في عدد من القضايا، لاكتساب مشروعية المطالبة بما يرغب به.

–        بقي أن نشير الى أن القاضي نفسه كان قد أصدر قراراً آخر في 11-2-2014 بتصحيح اسم عائلة من عبد علي الى عبد العلي وذلك على أساس أن شهرته التي تصوره كعبد لإنسان لا كعبد لله، مخالفة لما يعتنقه ويؤمن به من مبادئ شرعية وفقهية. وعند مقاربة الحكمين، يظهر أن اجتهاد المحكمة والتزامها في هذا المجال هو سعي الى احترام حرية الفرد برسم هويته وإعلانها وفق المعتقد الذي يراه مناسباً، في موقف حقوقي لا غلبة فيه لمعتقد على آخر.

–        2- جواز نشر مراسلات خاصة عند توافر مصلحة ذات شأن، عملاً بحرية التعبير[3]:
بدأت فصول هذه القضية حين طلبت الجامعة الأميركية في بيروت من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت منع جريدة الأخبار من نشر أي مراسلات خاصة بين القيمين على هذه الجامعة والعاملين فيها. وفيما أسندت الجامعة طلبها على مواد جزائية تعاقب الذم بالأشخاص العاديين (الذين ليس لهم وظيفة عامة) أو نشر مراسلات خاصة، أدلت الجريدة بحقها بل بواجبها بنشر وثائق من هذا النوع، على خلفية أنها تتضمن اعترافاً صريحاً بارتكاب عمليات فساد. وقد شكلت هذه القضية مناسبة أولى من نوعها لمناقشة المسألة المثارة عالمياً بفعل انتشار ظاهرة “الليكس”. وقد انتهى القاضي زوين بعد بعض التردد[4] الى تكريس سابقة تتفق مع مبادئ حرية التعبير في فضح الفساد، وذلك في قراره الصادر في 8-12-2014. وقد آل هذا القرار الى منع نشر أية مراسلة خاصة بالجامعة الأميركية غير ضرورية ومهمة لمصلحة عامة ذات شأن، وعملياً، ومن باب التأويل المعاكس، الى السماح بنشر أي مراسلة تكون ضرورية ومهمة لمصلحة عامة مماثلة. وللوصول الى هذه النتيجة، أكّد الحكم على مبدأي سموّ المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وحق الرأي العام في الاطلاع والمعرفة، ما يبرر التضحية بسمعة شخص ما أو بخصوصيته بهدف حماية المصلحة العامة.

ومن أهم نتائج الحكم، أن من شأنه أن يفتح الباب واسعاً أمام صون حرية التعبير في لبنان، ولا سيما في كل ما يتصل بفضح فساد الأشخاص الذين لا يتولون أي خدمة عامة، وتالياً أن يمهد لتغيّر الاجتهاد في محكمة المطبوعات في هذا المضمار. كما أنه يشكّل سابقة هامة في استبعاد تطبيق النص الجزائي (النص الذي يمنع نشر مراسلات خاصة) على حالات معينة عملاً بعلوية المبادئ العامة للقانون والتي تحتم تأويل النصوص في وجهة تتوافق معها.

–        3- الحكم المتصل باستقلالية المحامي وحق المتقاضي بالمحاكمة العادلة:
بتاريخ 1-4-2014، أصدر مجلس شورى الدولة قرارا[5] بقبول الدعوى التي قدمها المحامي أديب زخور ضد الدولة عن أعمال وزارة الداخلية والبلديات، وتحديداً المديرية العامة للأمن العام. وكان هذا الأخير قد طالب بإبطال قرار صادر عن الأمن العام بمنعه من حضور جلسات تحقيق موكليه في المديرية وبإلزام الدولة بتسديده تعويضاً عن الضرر الذي أصابه بعدما فسخت موكلته (وهي منظمة إنسانية خيرية) الاتفاق معه تبعاً لهذا المنع.

وإذ خلا القرار من أية إشارة الى مبادئ المحاكمة العادلة، فإنه استند الى تقرير المستشار المقرر والذي تكررت فيه الإشارة الى النصوص الدولية والداخلية المكرّسة لهذه المبادئ، ومن بينها المادة 20 من الدستور التي تكرس الضمانة القضائية للمتقاضين التي تتجسد من خلال حق الدفاع، والفقرة ب من مقدمة الدستور التي تنص على التزام لبنان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة بما فيها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتحديداً المادة 14 منه التي تكرس الحق في المحاكمة العادلة.

وكانت هذه القضية قد بدأت فصولاً حين تمنّى الأمن العام على المنظمة الخيرية التي عيّنت المحامي زخور للدفاع عن عدد من عاملات المنازل الأجانب، استبداله بمحام آخر، على خلفية قيامه بأعمال وصفها الأمن العام بأنها استفزازية ومضرة بسير التحقيقات. فقامت المنظمة المذكورة بفسخ التعاقد معه.

وفيما خلا التقرير من تحديد ما يعده الأمن العام “استفزازاً”، يفهم من السياق الذي وردت فيه هذه العبارة، أنها تشير الى تمسك المحامي بممارسة حق الدفاع عن موكليه الأجانب ضد أصحاب أعمالهم السابقين وبضرورة معاملتهم معاملة ندية متساوية معهم بعيداً عن منطق الاستعلاء أو المساومة أو التسوية الذي غالباً ما يسود في حالات مماثلة. وكانت المفكرة القانونية قد حذرت في 2013 من توجه لدى الأمن العام في تشجيع التسويات في منازعات مماثلة، على قاعدة تنازل العامل أو العاملة عن الادعاء ضد صاحب العمل مهما كان اعتداؤه خطيراً (ضرب، اغتصاب، تعذيب، عدم تسديد بدلات..) مقابل تنازل صاحب العمل عن كفالته لشخص آخر على نحو يسمح للأجنبي بالاتفاق مع كفيل آخر والبقاء في لبنان[6].

ومن هذا المنطلق، تميّز هذا الحكم بما قدّمه على صعيد استقلالية المحامي، وحق المتقاضين الذي يعانون من حال تهميش قانوني، وفي مقدمهم عاملات المنازل، بالدفاع والمحاكمة العادلة.

4- السلامة الشخصية تعلو كل اعتبار:
بعد عدد من القرارات الصادرة في 2013 بإعلان مبدأ “سلامة الإنسان تعلو كل اعتبار” وأهمها القرار الصادر عن محكمة التمييز في 29-11-2013، عاد قاضي الأمور المستعجلة في المتن أنطوان طعمة ليقر المبدأ نفسه في نزاع مدني بين مستشفى وشركة متعاقدة معه لتشغيل مركز غسيل الكلى، فقد ألزم هذه الأخيرة بإخلاء المركز من دون انتظار إتمام إجراءات فسخ العقد قضائياً أمام قاضي الأساس، بعدما ثبت له أنها تعرّض من خلال أخطائها في صيانة الآلات حياة مرضى للخطر[7].
وقد آل هذا الحكم الى إعلاء الحق بالسلامة الشخصية على حق الملكية وحرية التعاقد على حد سواء.

5- حق العمل ومبدأ التناسب في تقييم صحة بنود المنافسة:
أهم الأحكام في هذا المجال صدر أيضاً عن قاضي الأمور المستعجلة في المتن أنطوان طعمة، وذلك بموجب حكم مؤرخ في 23-10-2014. ففي قضية رفعتها شركة ضد أجير سابق ترك العمل لديها للعمل في شركة منافسة لها سنداً لبند منع منافسة، رأى القاضي طعمة أنّ البند يشوبه نزاع جديّ حول صحته، ليس فقط لأنه لا يتضمن أي تحديد جغرافي داخل لبنان للمنع من المنافسة أو لأنه لم ينص على مدة معقولة (وهذه مواقف باتت مستقرة لدى القضاء اللبناني)، بل أيضاً لأنه لم يقابله أي بدل مالي. واللافت أيضاً تضمين الحكم حيثية مفادها تحميل أصحاب العمل مخاطر صياغة بنود غير مطابقة للشروط. فلا يمكن لهؤلاء “توقيع اتفاقيات عدم منافسة غير محدودة في الزمان أو المكان وأن يستنظروا في مقابل ذلك قيام المحكمة بتفسير أو إعادة صياغة بند عدم المنافسة بما يشكل منعاً معقولاً أو مقبولاً في المنطق لجهة مكان أو زمان المنع، الأمر الذي يعدل من المخاطر التي وقف عليها الطرفان الموقعان على الاتفاقية وقبلا بها، ويزيد مخاطر قبول المستخدم ببنود غير مقبولة مطلقاً”.
وأهم من مضمون الحكم بحد ذاته، هو أنه شكّل حلقة تواصل مع حكم كان قد صدر قبل حوالي 34 شهراً عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف في 20-1-2012 بالمضمون نفسه[8]، على نحو يؤشر الى احتمال تكوين توجهات أو تيارات اجتهادية يؤمل منها أن تصنع واقعاً مختلفاً.

ثالثاً: الأحكام المتصلة بحماية المرأة من العنف الأسري:
تميزت سنة 2014 بعدد من الأحكام المتصلة بحماية المرأة من العنف الأسري، وقد صدرت في موازاة الحراك النسوي الحاصل في هذا المجال والذي بلغ أوجه في تظاهرة 8 آذار 2014 الحاصلة في بيروت بمناسبة عيد المرأة وفي 1 نيسان 2014 يوم إقرار قانون العنف الأسري. وفيما أثبتت الأحكام الصادرة قبل هذا التاريخ أن بإمكان القضاء أن يتصدى لظاهرة العنف الأسري حتى ولو تقاعس المشرّع عن إقرار القانون، فإن الأحكام الصادرة من بعده إنما تثبت أن بإمكان القضاء أن يصحح الشوائب التي قد يتضمنها النص القانوني.

ولعل القرار الأكثر دلالة على تفاعل القضاة مع الحراك قبل إقرار القانون هو القرار الصادر في 18-3-2014 (أي قبل أسبوعين من هذا التاريخ) عن قاضي الأمور المستعجلة في جديدة المتن رالف كركبي[9]. وقد آل القرار الى قبول طلب امرأة بمنع زوجها من نشر صور زوجته تحت طائلة تسديد غرامة تكديرية قدرها 20 ألف دولار أميركي عن كل صورة تُنشر لها أو تُسرب لأي جهة كانت وبأي وسيلة كانت. وقد تضمن هذا القرار حيثيات بالغة الأهمية:

فهو أقر للمرة الأولى بحق المرأة بالحماية إزاء العنف المعنوي، الى جانب حقها بالحماية إزاء العنف الجسدي. فـ”من شأن العنف المعنوي أن يلحق بالمرأة أضراراً أخطر من العنف الجسدي، لا سيما عندما يشوّه صورتها ويهدد مستقبلها”… فنشر صور منافية للحشمة “يشكل عنفاً نفسياً لها (للمرأة) يهدد كرامتها ومكانتها الاجتماعية والعائلية”. ومن هذه الجهة، جاء القرار، من خلال الحالة العملية التي تناولها، بمثابة انتقاد جدّ بليغ لمشروع قانون الحماية من العنف الذي كانت اللجان المشتركة قد أحالته الى الهيئة العامة للمجلس النيابي في تموز 2013. فقد كان المشروع المذكور قد نص صراحة في أسبابه الموجبة على وجوب استبعاد العنف المعنوي من تعريف العنف المشمول فيه[10]، بحجة أن تعريف العنف بالمعاناة النفسية هو تعريف فضفاض جداً وقد يؤدي الى نتائج عبثية كادعاء الزوج بمعاناة نفسية من جراء امتناع زوجته عن مجامعته.
أما الميزة الثانية للقرار، وهي لا تقل أهمية عن الأولى، فقد تمثلت في تخصيص حيثية كاملة لإعلان دور القضاء والاجتهاد في ظل غياب النصوص القانونية الحمائية. فبعدما ذكّر القرار بـ”أن المشرّع اللبناني لم يتوصل لغاية تاريخه الى سن قانون خاص بحماية المرأة ضد العنف”، أعلن أنه “هنا يأتي دور الاجتهاد – وهو مصدر من مصادر القانون – ليسد الفراغ التشريعي في أي موضوع كان، وتحديداً في موضوع العنف ضد المرأة فيخلق لها الحماية المعنوية والجسدية المناسبة الى حين صدور قانون بهذا الشأن”.
أما بخصوص القرارات القضائية الصادرة بعد إقرار القانون، فنلفت الانتباه خاصة الى القرار[11] الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف بتاريخ31-5-2014. فسرعان ما نتبيّن عند قراءة القرار أن القاضي معلوف لم يكتف بتطبيق أحكام القانون، بل مارس فضلاً عن ذلك دوراً ريادياً أدى الى استكمالها والى تصحيح أبرز الشوائب الواردة فيها، وفي مقدمها تعريف العنف. فهذا العنف لا يقتصر على حالات العنف التي خصها القانون بالذكر، بل يشمل حسبما جاء في القرار، حالات أخرى لم يذكر القانون أياً منها أهمها حالات العنف المعنوي، كإكالة الشتائم والتحقير والاستيلاء على الأوراق الثبوتية والهاتف الخلوي ومنع الخروج من المنزل..الخ.ومن هذه الزاوية، جاء القرار القضائي ليقلب تعريف العنف رأساً على عقب، وتالياً بمثابة رسالة تطمين الى الهيئات النسائية والنساء والرأي العام بشأن قدرة القضاء على الإجابة عن عدد كبير من التحفظات أو المخاوف إزاء مدى فعالية هذا القانون في تأمين الحماية إزاء العنف الأسري. وهي رسالة تلتقي في عمقها مع الرسائل التي كان القاضي كركبي قد وجهها قبل إقرار القانون كما سبق بيانه.

وفي هذا السياق، نص القرار على أن العنف المعنوي يشكل تعرضاً لأبسط حقوق المرأة، وهو يدخل دون أي شك في تفسير العنف الأسري المنصوص عليه في القانون “ذلك أن العنف المقصود هو ذلك الذي يسبب الإيذاء النفسي أيضاً، ولا يمكن إلا الإقرار بجدية وخطورة الأذى النفسي الذي ينتج من قمع حرية تنقل الزوجة دون أي مبرر وعن تعنيفها كلامياً”. ومن خلال تحليل هذه الحيثية، تبدّت نية القاضي واضحة في التوسع في تفسير مفهوم العنف الأسري: فهو لا يقتصر على الأفعال التي شملها النص القانوني صراحة، بل يتعداها ليشمل عملاً بقواعد التفسير قياساً جميع الأفعال التي توازيها من حيث الخطورة.

وعلى ضوء هذا الحكم والكثير من الأحكام الصادرة عن قضاة آخرين، يظهر العمل القضائي مجدداً أنه يتفاعل تفاعلاً كبيراً مع التخاطب العام ومع تطور الوعي العام. وهذا الأمر إنما يضيء على أهمية نجاح المنظمات النسوية (وفي طليعتها منظمة كفى) في فرض قضية العنف ضد النساء كقضية عامة. فمن شأن هذا النجاح بالطبع أن يحفّز القضاة على تطوير اجتهاداتهم وسط قبول اجتماعي واسع، وهي نتيجة قد تعوّض عند توافر ظروف مؤاتية معينة، كثيراً عن النقص الحاصل في التشريع.

رابعاً: الأحكام المتصلة بالأشخاص الذين يعانون من تهميش قانوني:
هنا أيضاً تميزت سنة 2014 بعدد من الأحكام:

1-   حكم 2009 بتبرئة المثليين لم يعد معزولاً
بتاريخ 28-1-2014، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في جديدة المتن ناجي الدحداح حكماً بإبطال التعقبات ضد متحوّلة جنسياً[12]، بعدما تم الادعاء عليها على أساس أنها تقيم علاقات مع ذكور. وقد شكل هذا الحكم التفاتة إيجابية ليس فقط تجاه متحولي الجنس، بل أيضاً تجاه المثليين تبعاً للتفسير الذي تضمنه للمادة 534 من قانون العقوبات التي غالباً ما استُخدمت لمعاقبة العلاقات المثلية.

ولعل أهم ما جاء في الحكم هو الآتي:

–        أن القاضي استعاد في تفسير المادة 534 ما كان قد ورد في الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان في 3-12- 2009 ومفاده “أن المشترع لم يحدد مفهوماً واضحاً للمجامعة على خلاف الطبيعة” وأنه في غياب هذا التعريف، يستعيد القاضي سلطة تقديرية لتفسير النص. وانطلاقاً من هذا التفسير، بات بإمكان القاضي الدحداح كما حصل مع القاضي سليمان التحرر من مسلّمة قضائية وفقهية مفادها أن المثلية تقع تحت طائلة المجامعة خلافاً للطبيعة والاستعانة بآخر ما توصلت اليه العلوم على اختلافها لإعادة تعريف هذا المفهوم. وفي معرض ممارسة هذا التفويض، اعتمد الحكم تعريفاً حصرياً لمفهوم “الخلاف للطبيعة” بحيث أكّد أن “الأشخاص المصابين بحالة الاضطراب في الهوية الجنسية (…) وإن شذوا عن القاعدة وخرجوا عن المألوف، فهم يبقون من ولادة الطبيعة التي لم يخرجوا إلا منها”. وهو بذلك، فتح الباب واسعاً أمام الاعتراف بأصحاب الميول الجنسية الأقلوية، بمن فيهم المثليون والمثليات.

–        أن القاضي لم يستند فقط الى تفسير المادة 534 بل ذهب أيضاً الى الإيحاء بإمكانية استبعاد أحكام هذه المادة على خلفية احتمال تعارضها مع مواد تعلوها، وخصوصاً مع تطور القانون الدولي والفهم المعتمد للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وعليه، أشار الحكم في إحدى حيثياته الى “ما كرّسه الدستور اللبناني وشرعة حقوق الإنسان لجهة وجوب ضمان المساواة بين الأفراد في المجتمع وصون حريتهم الشخصية، خصوصاً عندما لا تؤدي هذه الحريات الى الإضرار بالغير”. كما أشار الحكم الى “قرار مجلس حقوق الإنسان الصادر بتاريخ 17 حزيران 2011 الذي لحظ بوضوح، لأول مرة، إجراءات لمواجهة الانتهاكات والتمييز تجاه الأشخاص بسبب ميلهم الجنسي وهويتهم الجنسية، وإن كان غير ملزم للبنان”.

ويشكل هذا الحكم الذي جاء بعد خمس سنوات من الحكم الصادر في 2009 بداية تضامن قضائي في إعادة تفسير المادة 534 يؤمل منه إسقاطها.

2-   الأحكام الصادرة بشأن الأشخاص المدمنين إقراراً لحق العلاج كبديل من الملاحقة (العدد 18):
خلال هذه السنة، وعلى أساس القرار الصادر في 3-10-2014 عن محكمة التمييز، صدرت ثلاثة قرارات عن محكمة استئناف الجنح في بيروت وغرفتين لمحكمة جنايات جبل لبنان (بعبدا)، أكدت جميعها وجوب تكريس مبدأ العلاج كبديل من المعاقبة[13]. وأكثر هذه الأحكام تمايزاً هو الحكم الصادر في 2-6-2014 عن محكمة جنايات بعبدا والذي آل الى فصل الدعوى العامة ضد المدمن عن الدعوى المقامة ضد الأشخاص المتهمين في الدعوى نفسها بتزويده بالمادة المخدرة. وهذا الفصل يشكل بالواقع شرطاً لتطبيق القانون، بحيث إنه يؤدي الى وقف سير الدعوى الأولى ضد المدمن وتمكينه من متابعة العلاج الضروري مهما طال أمده بإشراف لجنة الإدمان، من دون أن يؤثر ذلك على إتمام المحاكمة في جنايات الإتجار بالمخدرات والترويج لها، وهي الدعاوى الأخطر. إلا أنه رغم ذلك، ما تزال محاكم أخرى تتمنع عن تنفيذ القانون وأبرزها محكمة جنايات صيدا التي ردت في حالات عدة طلبات إحالة المدمنين الى اللجنة واستمرت في متابعة دعاويهم، وكأنها غير معنية بالنص القانوني أو بقرار محكمة التمييز[14]. وثمة حاجة على ضوء ذلك من اطلاق ورشة تفكير عن أسباب استمرار ممانعة قضائية مماثلة عن الالتزام بالقانون.

3-   الحكم بردّ جواز السفر للعاملة التزاماً بحرية التنقل:
صدر هذا القرار عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف في 23-6-2014. وقد آل الى قبول طلب عاملة منزل إثيوبية بإلزام صاحبة العمل برد جواز سفرها اليها[15]. ومن خلال هذا الحكم، تصدى القضاء للمرة الأولى لظاهرة اجتماعية بالغة الخطورة، تتمثل في احتجاز أصحاب العمل لجوازات سفر عاملات المنازل لديهم.
ومن البيّن أن التعليل الذي استند اليه القاضي للوصول الى هذه النتيجة حمل أهمية كبرى من زوايا عدة:

–        أنه بيّن المرتكزات القانونية التي تتناقض معها هذه الممارسة، وصولاً الى وصمها بالممارسة العنصرية. وفي هذا السياق، أكد الحكم أن احتجاز جواز السفر يشكل تعرضاً لحرية أساسية هي حرية التنقل، وهي حرية لا يمكن تقييد ممارستها إلا استثنائياً، وبموجب قانون، ومن دون تمييز.

–        أنه لم يكتف بحل المسألة على الصعيد القانوني، بل عمل أيضاً على دحض الحجج الاجتماعية، لتبرير هذه الممارسة. وقد تعرّض خاصة للحجة القائلة بأن صاحب العمل يتكبد أعباءً مالية من أجل استقدام العامل الأجنبي الى لبنان، ما يبرر حجز جواز السفر كضمانة ضد ترك العمل. فخلص الى القول بأنه لا يمكن بحال من الأحوال حجز حرية الآخرين لضمان حقوق مالية، لسمو الحقوق الأساسية والحريات العامة على هذه الحقوق.

–        أنه مهد لإمكانية استخدام حيثيات هذا الحكم لنقض ممارسات تتجاوز حدود القضية المعروضة عليه. ومن هذه الممارسات، ما يتصل بأوضاع عاملات المنازل، وفي مقدمها نظام الكفالة: فقد شدّد في متن حكمه على حرية العاملات بترك العمل وعلى عدم جواز انتهاج ممارسة تمييزية في التعامل بين عامل أجنبي وعامل وطني، على أن تصبح هذه الممارسة التمييزية ممارسة عنصرية في حال تعميمها ضد جنسيات معينة. وفضلاً عن ذلك، من شأن حيثيات الحكم الإسهام في نقض ممارسات تعسفية تطال فئات اجتماعية أخرى، كما هي حال ممارسة الأمن العام في تأخير تسليم جوازات السفر كما حصل في 2014 مع عدد من المواطنين على خلفية إصدار مذكرات إخضاع

–        (غير قانونية) بحقهم[16]، أو أيضاً الممارسات التي ينتهجها عدد من البلديات في لبنان لحظر تجول الأجانب أو فئات منهم (لاجئين سوريين، عمال سوريين، الأجانب..).
     
4-   اللاجئ:
منذ انضمام لبنان الى معاهدة منع التعذيب، صدر عدد كبير من الأحكام القضائية المانعة لترحيل لاجئين على أساس المادة 3 من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تمنع على الدول المنضمة اليها ترحيل شخص الى بلد قد تتعرض فيه حياته أو حريته لخطر كبير. كما صدرت في فترة لاحقة (2009-2010) أحكام عدة بإدانة ممارسات الأمن العام التعسفية في توقيف لاجئين لفترات طويلة وصلت أحياناً الى أربع سنوات من دون أي سند قضائي. وكان الأمن العام قد دأب على تبرير توقيف هؤلاء برغبته بتنفيذ القرارات الصادرة عنه أو عن القضاء بترحيلهم.
ولعل الجديد لهذه السنة صدر عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف بتاريخ 20-6-2014 والذي تميز بحيثياته الغنية لجهة الموزانة بين تذرع الإدارة بتطبيق النصوص التي تتيح لها اللجوء الى التوقيف الإداري ومبدأ الحرية الشخصية وحقوق اللجوء وفق مبدأ التناسب.

نشر في ملحق العدد الخامس و العشرين من مجلة المفكرة القانونية



[1]نزار صاغية، القاضية الخطيب وحزب التحرير والمادة 9 من الدستور: لمن اراد ان يؤمن بالخلافة او أن لا يؤمن”، المفكرة القانونية، عدد 4، نيسان 2012.
[2]غيدة فرنجية، شورى الدولة يضحي بحريات أساسية على مذبح النظام، المفكرة القانونية، عدد 9، أيار 2013.
[3]نزار صاغية، حرية التعبير في لبنان فضحاً للفساد في قرارات قضائية حديثة: أو حين غلّب القضاء المصلحة العامة على اعتبارات الكرامة الشخصية، المفكرة القانونية، العدد 24، كانون الثاني 2015.
[4]عن مزيد من التفصيل، يراجع الهامش أعلاه.
[5]سارة ونسا، شورى الدولة في لبنان يدعو الأجهزة الأمنية الى احترام استقلالية المحامي: المحاكمة العادلة خط أحمر، حساسية الأمن العام ليست كذلك، المفكرة القانونية، العدد 17، أيار 2014.
[6]سارة ونسا، حكم جزائي يرفض تهميش دور القاضي في حماية حقوق عاملات المنازل، ويبطل مقايضة تنازل “كفيل” عن عاملة منزلية بتنازلها عن حقوقها”، العدد الثاني عشر من المفكرة القانونية, كانون الأول 2013
[7]يمنى مخلوف، قضاء الأمور المستعجلة يثابر: مبدأ سلامة الإنسان على رأس هرم المنظومة القانونية اللبنانية، المفكرة القانونية، عدد 14، شباط 2014.
[8]يمنى مخلوف، “في موازاة الخطاب العام عن الأجور وتعطيل مجلس العمل التحكيمي، قاضي الأمور المستعجلة يتدخل لحماية حرية العمل”، المفكرة القانونية-لبنان، عدد 4، كانون الثاني 2012.
[9]نزار صاغية، للمرة الأولى، قرار قضائي لحماية المرأة ضد العنف المعنوي في لبنان، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 20-3-2014.
[10]نزار صاغية، مشروع قانون لحماية الأسرة يعيد تعريف العنف: فرض التقاليد عنوة ليس عنفاً، العنف في الخروج عنها، المفكرة القانونية، العدد 11، أيلول 2013.
[11]نزار صاغية، أول تطبيق لقانون حماية المرأة من العنف الأسري في لبنان: أو حين اجتهد القاضي تصحيحا لقانون مبتور، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 9-6-2014.
[12]يمنى مخلوف، “أندروجين” أمام القضاء الجزائي اللبناني: حكم ثان لإعادة تعريف المجامعة خلافاً للطبيعة، المفكرة القانونية، العدد 14، شباط 2014.
[13]كريم نمور، مفعول الدومينو في قضايا الإدمان على المخدرات: مبدأ “العلاج كبديل من الملاحقة” يتقدم في المحاكم بعد قرار محكمة التمييز التاريخي، المفكرة القانونية، العدد 18، حزيران 2014
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني