في إطار عملنا على الأضرار التي سببتها شركتا الإسمنت في الكورة، كان لا بد أن نلتقي العاملين في قطاع آخر وهم الصيادين. أجرينا لقاء مع صيادي أنفة وشكا والهري. تحدثنا معهم عن تراجع الثروة السمكية، عن مسؤولية الشركات والمعامل الصناعية، كما أجرينا معهم جولة بحرية اتضح من خلالها ما بات شكل الشاطئ عليه. أول ما يلفتك هو توجّه العديد منهم إلى مهادنة شركتي الإسمنت والسعي إلى تحميل شركات صناعية أو عوامل أخرى مسؤولية تلوث الشاطئ والقضاء على الثروة السمكية فيه. حين تعرف أن نقيب الصيادين في المنطقة بات موظفا لدى إحدى هاتين الشركتين، تدرك عمق المشكلة: لقمة العيش التي باتت صعبة في هذا القطاع الذي كان مزدهرا من قبل، تدفعهم للبحث عن مهنة أخرى أو على الأقل على مصادر دخل أخرى، بحث غالبا ما يقودهم إلى التعامل مع من كان المصدر الرئيسي في فقدان مهنتهم (المحرر).
صياد متقاعد: لم نكن بحاجة إلى الشركات كي نعيش
منذ أشهر فقط، توقف محمد أسعد صالح، أشهر صيادي الهري وشكا عن الخروج إلى البحر. يلقب الصيادون إبن السبعين وعميدهم ب “قبضاي البحر”. نساء الهري وشكا وأنفة يضعون أولادهم في البحر عند ولادتهم، يقول صالح بدعابة ولطف ليدلل على علاقة أبناء المنطقة بالصيد البحري ومراكبه. يقول صالح: “في الخمسينات، نزلنا ع الغطس كان البحر أنضف ما يكون. كان الصيادون يومها يرون السمكة حتى على عمق “عشرة أمتار ونقوصها ونتصيدها”. وكان معظم أهالي شكا يعتاشون من صيد السمك، وما كنا نشوف ورقة بالبحر”. ينظر صالح إلى مجموعة الصيادين الذين كانوا يسهرون على المرفأ ليقول “هودي جيل جديد مش مارقة عليهن هيدي الإيام”.
يرى أن “البر لوّث البحر”. لم يكن أبناء شكا بحاجة للشركات حتى يعيشوا. “كان راتب موظف الشركة أربعين قرشاً وكانت يومية الصياد خمس ليرات. كانت أيام خير وكنا ندفع للصياد المساعد تلات ليرات، يعني شوفي الفرق بمستوى الدخل. كان الخير كتير”. كان ريّس المينا لا يسمح لأي كان بالنزول إلى البحر. “مش كل واحد عاملي حاله بحار بيعرف ينزل عالصيد” كما يقول صالح.
يعيد إقبال الناس على العمل في الشركات إلى تدني الثروة السمكية في المنطقة “ما ضل في سمك لِمّن قوي التلوث، يعني من 10 إلى 15 سنة”. كانت مروج الحشيش “مغطاية” الشاطئ “وعليها تضع الأسماك بيوضها وترعى”. اليوم اختفى الحشيش. اختفت التوتيا وأنواع كثيرة من السمك البلدي “هجرت معظم الأسماك شطنا”. مع “الجيّة”، (أي الأوساخ والتلوث) جاء سمك مسم ع شكا وساحل المنطقة ومنه سمكة المنفخ، وهي سمكة متل النحلة (الكات فيش) مسمّة وغريبة. كان الصيادون يصطادون السلطان إبراهيم ب”الشوالات” اليوم “قليل ما نشيل”. راح السلطان مع “الأعشاب البحرية التي قتلها التلوث، كذلك التوتيا والمرجان الذي كان وافراً هنا، وليس في البترون فقط”. وبعدما كان شط شكا من أفضل الموؤل البحرية للأسماك “صار صحراء جرداء” كما يصفها صالح قبل أن يعتذر لأنه يريد العودة إلى بيته باكراً. يقف الرجل، وينظر إلى البحر ثم يقول كمن يحدث نفسه “أنا وقفت صيد من كم شهر بسبب المرض، وهيدا الشي حزين بالنسبة لي مع أن البحر تغيّر”.
آخر مرة اصطدت توتيا منذ ثماني سنوات
جوني بولس لا يتميز عن زملائه في تثبيت تراجع الثروة السمكية، وإن بدا أكثرهم شغفا بمهنته على نحو دفعه إلى حالة يمكن تصنيفها حالة إنكار (denial). “كان عمري أربع أو خمس سنين يمكن”، يقول عن اليوم الذي قرر فيه أنه سيكون صياداً كما والده.. يومها حمل جوني دولاب شامبرييل وخرج إلى شاطئ شكا مثل بقية الصيادين بينما كان والده الصياد قد ذهب بعيداً في البحر على فلوكة الصيد خاصته. جلس جوني على “الشامبرييل” وترك شبكته الصغيرة في البحر. عندما عاد إلى البيت مع كومة سمك عرف والده أنه سيترك صياداً ماهراُ وراءه:”أنا خلقت لكون صياد”، يقول ل”المفكرة”.
يختلف جوني مع كثير من صيادي المنطقة الذين يقولون بانتهاء الثروة السمكية من بحر شكا ومحيطها. غرامه بالصيد يترجمه شغفاً لا ينتهي بالبحر: “بس يصير الصياد يفكر إنه البحر شركة وهو موظف فيها، بتنحلّ مشكلته. مش كل يوم الناس بتروح ع شغلها؟ والصياد هيك لازم يعمل”. وعليه لا يرى أن “هناك مشكلة كبيرة في البحر “في قلة جلادة وعدم مثابرة أكتر من مشكلة عدم وجود سمك”. هو من الذين يصرون أن بحر شكا ما زال من أنضف شواطئ لبنان “برغم الزبالة وسمك النفيخة الضار”.
“متى كانت أخر مرة اصطدت فيها التوتيا يا جوني؟”. يسرح إبن ال 43 عاماً في 40 عاماً من علاقته بالصيد، يحصر ذاكرته، ويقول “منذ ثماني سنوات، اختفت التوتيا من بحرنا”. التوتيا كانت وفيرة في بحر شكا ومن رأس الشقعة، الحد الصخري الكبير الفاصل بين البترون والهري ثم شكا إلى آخر بحر أنفة. هناك تساهم الينابيع العذبة المتفجرة في البحر بتشكيل بيئة مناسبة لرعي الأسماك والتوتيا “عنا أحلى سمك بلبنان، وأحياناً كنت إرجع بأربعين وخمسين كيلو” يقول. اليوم، وبرغم تفاؤل جوني وعدم اعترافه بوجود ملوثات في بحر شكا يقول”أحيانا منجيب 13 كيلو أو عشرة وأوقات إيه ما منتوفق برزقة فمنرجع بكيلوين اثنين فقط”.
شباك تالفة من التلوث
يمكن لزائر ميناء الصيادين في شكا أن يلحظ أكواما من الشباك الملونة بالأخضر وبالبني أحيانا “بتعلق بشباكنا مادة خضراء إذا نصبناها قريبة من الشط، وبتسكر الشباك من التلوث وبتتلفها على مساحة نحو كيلومتر”، يقول الصياد طوني عساف. يستثني طوني، خلال شرحه أسباب التلوث، شركات الترابة “هيدا من معمل السكر وهوا تشيكن ومحطة التكرير التي لم تشتغل بعد وفيها كل مجارير القضاء، وكمان بضائع معمل الإترنيت بعدها بالأرض، أنا بييي وخالي وعمي توفوا من ورا الإترنيت”.
يضيف أيضاً “الزبالة يلي بتجي بالبحر ع شكا، نحن ما عنا مكب ع البحر، بس في مكب طرابلس ع شمالنا ومكبي برج حمود والكوستا برافا ع جنوبنا والتيارات البحرية بترد زبالتهم علينا.من بس بتجينا زبالة من المناطق الأخرى من مكب طرابلس ومن المكبات الموجودة ببيروت”.
يرد طوني ترك “الشباب” الصيد والإلتحاق بالشركات إلى عدم تطبيق قانون الصيد في لبنان “مثلا في مصلاية (وهي شبكة حديدية تمتد على مئات الأمتار وتنصب لوقت طويل) تحبس السمك ولا يعود يعرف كيف يخرج منها، ومنصوبة وحدة ع شمالنا ووحدة ع يمينا بتمنع وصول السمك إلينا، وتؤثر على تكاثره لأنها تخيف”. عندما يخاف السمك يتوقف عن الإباضة، يقول طوني قبل أن يضيف “وفي الصيد بالجاروفة وسمك النفيخة واضمحلال الأعشاب البحرية، وهيك فلايكنا (مراكب الصيادين) مشلوحة ع المرفأ، ما منطلع ع البحر”.
اقتنى طوني مركبا سياحيا للخروج بالقادمين إلى شكا في جولة بحرية “بدي إعمل مصدر رزق حتى كفي احتياجاتنا”.
جولة بحرية حزينة
يمكن لجولة بحرية مع الصيادين أن تكشف بعض أسباب التغيير التي تحدث عنها صالح.
ولا يمكن لجولة مماثلة إلا أن تترك الأسى. كيف لشاطئ بجمال شاطئ شكا والهري وأنفة أن يموت بمساحة نحو كيلومتر على الأقل؟ هناك تشعر، ومن حركة مركب الصيد، بأمكنة الينابيع العذبة التي تتفجر في البحر لتشكل خليطا من المياه الحلوة والمالحة حيث كانت تعشش بعض الأسماك والمخلوقات البحرية ومعها مروج الأعشاب، فيما كانت صخور رأس المماليح مكاناً للرزق الوفير من التوتيا.
من مرفأ الصيادين بالكورة شمالاً نحو ساحل أنفة، يستقبلك بعد أمتار قليلة مرفأ شركة الترابة الوطنية (السبع). هناك تقف بواخر لتفرّغ البتروكوك، الوقود النفطي الأكثر تلويثاً والذي يستعمل في أفران شركات الترابة لحرق المواد الأولية. ما زالت السبع كما مثيلتها هولسيم، ومرفأ (الأخيرة) لجهة جنوب المرفأ، تفرغان البرتوكوك بطريقة بدائية.
بعد مرفأ شركة السبع بنحو خمسين متراً يمر المركب بقرب جبل داكن بارتفاع لا يقل عن ثلاثين إلى خمسين متراً. هذا هو “الكلينكر” الذي تخزنه السبع على شاطئ البحر مباشرة. يمكن رؤية منحدرات الجيل على البحر وفيها بقايا الكلينكر الذي يحمله الموج العالي في حال العواصف، فيما تتدحرج حبيباته الصغيرة مع هبوب الهواء البحري نحو المياه. إلى يسار جبل الكلينكر ينساب غدير ماء من تحت منشآت شركة السبع. هي المياه المتفجرة من نبع الجرادة ومعها تخرج النفايات السائلة من الشركة، كما الماء الناتج عن غسل البتروكوك الدائم لكي لا يشتعل، ثم العائد لتبريد محركات الآليات الضخمة، وكل ما ينتج عن عملية التصنيع.
إمعانا بالإبحار نحو رأس المماليح، يأتيك مجرى ماء آخر بلون أصفر إلى بني. يقول الصيادون أن معامل المنطقة ترمي نفاياتها الصناعية إليه لتذهب مع ماء الشتاء من دون أي معالجة إلى البحر. فوق هذه المنطقة يقع مسلخ ومعمل هواتشيكن “أوقات بيطلع لنا ريش الدجاج بشباكنا” يقول أحد الصيادين.
عند منطقة رأس المماليح الصخرية، وهي الحد بين شكا وأنفة، تكر بقية المنشآت الصناعية التي استجدت على المنطقة السهلية بعد تصديق الحكومة تصنيفها منطقة صناعية: مزيد من مسالخ الدواجن وزفاتات وجبالات وخزانات فيول…وغيرها. حتى محطة التكرير التي حمت الشاطئ من مياه الصرف الصحي لم تبدأ، وفق الصيادين وأهالي المنطقة، بالتكرير، بل جمعت ما انتهى من توصيلات شبكات القرى والبلدات والمنازل لترميها دفعة واحدة إلى البحر.
صيادو أنفه والهري ونوى البحر
يقول الناشط البيئي ابن أنفة حافظ جريج أن صيادي أنفة يعانون أكثر مما يعاني صيادو شكا “البحر ملوث بالناحيتين، بس عالقليلة هون (أي في شيكا) في مرفأ للصيادين يحمي مراكبهم”. في أنفة، ووفق جريج، تمنع المرافق السياحية على الجهتين، وعبر التدخل لدى أهل القرار، بناء مرفأ للصيادي “عنا مرفأ تاريخي وأثري لا يهتمون به ولا يطورونه إكراما لعيون الإستثمار ولتصبح استباحته مبررة”. يُخرِج صيادو أنفة مراكبهم من البحر لحمايتها من الموج.
الشكوى نفسها تسمعها من صيادي الهري: “صيادو شكا محظوظون: مرفأهم كتير منيح وبيجيهم مساعدات من بلديتهم ومن شركة السبع”. الهولسيم “لا تقدم لنا شيئا برغم مسؤوليتها المباشرة عن قطع أرزاقنا”. في المقابل، يقول أحد الصيادين أن السبع منحت صيادي شكا ثلاثين ألف دولار هذا العام استعملوا جزءا منها لتحديث شباكهم الخاصة بصيد القريدس وتلك المستخدمة في صيد كل أنواع السمك. وبالفعل، لا تجوز المقارنة بين مرفأي شكا والهري. يحيط بالأول سنسول ضخم يمنع عنه نوى البحر والأمواج العاتية. فيه غرف للصيادين وباحات يجلسون عليها وأمكنة آمنة يركنون إليها مراكبهم. في المقابل، لم تترك التعديات على البحر مكاناً جيداً لمرفأ صيادي الهري. وانتظر هؤلاء موعد تسلم الوزير الأسبق عمر مسقاوي حقيبة الأشغال العامة حتى بنى لهم سنسولاً حجريا يمنع عنهم الأمواج العاتية الآتية من ناحية رأس الشقعة يمين المرفأ الذي يقع في بحر حامات.
واليوم تعمل البلدية على شق طريق للمرفأ بانحدارات حادة من جبل النورية باتجاه المرفآ. وإلى أن تنتهي هذه الطريق التي لن تكون سهلة، “يتدهور” هؤلاء كما يصفون نزولهم نحو المرفأ من طريق حامات نحو نفق شكا القديم. في المرفأ ترى المراكب الصغيرة المتواضعة. هناك أنشأ الصيادون كوخاً خشبياً صغيراً يتدارون فيه هواء البحر ورياحه العاتية خلال العواصف. مع كل عاصفة تغرق مراكبهم “منقعد بالفلوكة ومنصير نشيل المي ونكبها حتى ما تغرق لأنه ما حدا بيعوض علينا”.
استبدال البحر بشركة الترابة
قبل 21 عاماً انضم نقيب الصيادين في شكا اليوم عصام عتيق إلى طاقم موظفي شركة الترابة “ما عاد البحر يطعمي خبز”. نقيب صيادين وموظف في الشركة المتهمة بتلويث شاطئ منطقته. “كانت النساء تصفّ بالدور ع المسامك بطرابلس وبأنفة لتشتري سمك شكا، هلأ ما بقى حدا يجي لأنه ما بقي سمك، بس عم ننقر تنقير اليوم”، يقول النقيب الذي يبرئ شركة السبع من أي مسؤولية في تلويث الشط والقضاء على رزقه من السمك “ما عندهم نفايات” يقول. وهو يردف أن الصيادين خسروا نحو كيلومتر من طول شاطئهم كمكان للصيد العائم “لازم نقطع هيدي المنطقة لننصب شباكنا، لقد أسقطنا هذا المكان من خريطة الصيد”. لكن عتيق، كما صيادون آخرون، لا يريدون تحميل شركات الترابة مسؤولية هذا التلوث “في معمل السكر وفي نفايات هوا تشيكن والزفاتات والجبالات وغيرها. الشركات ما عندها نفايات صناعية”، يقول.
الصيادون أيضاً محرومون من الضمان الاجتماعي وأي خدمات أخرى، وهذا يدفع بعضهم إلى البحث عن وظيفة في ظل تدهور المداخيل وعدم قدرتهم على ضمان عوائلهم والإستشفاء ومنح المدارس.
تنظر إلى نحو عشرين صياداً مجموعين في جلسة على بحر شكا، ومعظمهم ورث الصيد من أسلافه أباً عن جد، لتسألهم: من منكم أورث مهنة الصيد لأولاده؟
-ما حدا، يأتي الجواب دفعة واحدة ومن الجميع. ” البحر ظالم وقهار، وما بقى في رزق كتير، عنا ولدين تلاتة عم نعلمهم ليصيروا مهندسين وأطباء ومهن وظيفية أخرى، ما بدنا نقهر أولادنا، ويعيشوا يتدينوا من المسامك بالشتاء ليردوا ديونهم بالصيف”.
يوما ما،هل يتحول مرفأ صيادي شكا إلى مرفأ للمراكب السياحية، فيما تنقرض المهنة الأحب إلى قلوب أبنائها: الصيد البحري؟
نشر هذا المقال في العدد | 58 | كانون الثاني 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
الكورة في فم التنين: من رخّص بالقتل؟