تبعا لنشر المفكرة القانونية على موقعها الإلكتروني خبرا سريعا بعنوان “في خرق جديد لمبادئ المحاكمة العادلة في تونس: هيئة الحقيقة والكرامة تغرق الدوائر المتخصصة بملفات لم يتم البحث فيها“، وردنا من مصفية هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين كتاب ننشره أدناه عملا بحق الرد، على الرغم من تضمينه الكثير من التجني بحق “المفكرة” وفريق عملها وكتابها.
وإذ نأسف لتلويح مصفية “الهيئة” بامكانية ملاحقة “المفكرة” جزائيا على خلفية ما أسمته “ازدراء المؤسسات الرسمية”، فإننا نؤكد لقرائنا ولها تمسكنا بواجبنا في إطلاع الرأي العام على ما نعتبره خللا في عمل المؤسسات العامة بما فيها الهيئة وبحريتنا في نقد أوجه الخلل على اختلافها بهدف تصويبها، وبخاصة في حال تعلق الخلل بجوهر الحقوق والحريات الدستورية، وفي مقدمتها مبادئ المحاكمة العادلة. وتمسكنا بحرية التعبير ومبادئ المحاكمة العادلة إنما يؤشر بحد ذاته على مدى تمسكنا بإنجاح تجربة العدالة الانتقالية في تونس التي نفخر أننا واكبناها من بدايتها وجهدنا في التعليق على إيجابياتها وسلبياتها فوضعنا بتصرف القارئ مادة غنية تخوله تكوين رأياً موضوعياً حول مسارها بعيدا عن أي موقف مسبق، في اتجاه أو آخر (فلا تبخيس ولا تبخير). ونحن ننشر تبعا لردنا مجموعة من الروابط إلى المواد التي نشرتها المفكرة في هذا الخصوص إغناء للنقاش العام. كما ننشر ردا على الرد من الأستاذ محمد العفيف الجعيدي، بصفته أحد المحررين الرئيسيين لمجلة “المفكرة القانونية- تونس” وموقعها.
كما نذكر قراءنا بأن انخراط “المفكرة” في العدالة الانتقالية لا يقتصر على تونس. فالمفكرة تعمل منذ سنوات طويلة، جنبا إلى جنب مع ضحايا الحرب اللبنانية وعوائل المفقودين فيها، لمكافحة سياستي الإفلات من العقاب وتهميش الضحايا في هذا البلد. وقد تكلل عملها هذا بانتصارين كبيرين، الأول في حكم صدر عن المحكمة العليا الإدارية في لبنان (مجلس شورى الدولة) بإقرار حق ذوي المفقودين والمخفيين بالمعرفة (مارس 2014) في ما بات نموذجا للتقاضي الاستراتيجي، والثاني، تمثل في إقرار اقتراح قانون حول المفقودين والمخفيين قسرا وهو الاقتراح الذي قدم تبعا للحكم القضائي (نوفمبر 2018). فاقتضى التصويب (المحرر).
ردّ الهيئة
تتابع هيئة الحقيقة والكرامة باستغراب ما دأبت عليه المفكرة القانونية مؤخرا من اتخاذ مواقف منحازة ومعادية تجاه تجربة العدالة الانتقالية في تونس للتعبير عن وجهات نظر شخصية لخصوم الهيئة[1] استغل أصحابها المساحة المتاحة لهم في مجلة فكرية محترمة مثل المفكرة القانونية[2] بما يتعارض تماما مع الأهداف التي رسمتها المفكرة لنفسها والمتمثلة في “رصد القوانين والسياسات العامة في لبنان وتدريجياً في المنطقة العربية، من أجل تحليلها ومراجعتها من وجهات نظر نقدية”[3].وللأسف فإن تناول دراسة مخرجات تجربة العدالة الانتقالية في تونس من قبل المفكرة القانونية ابتعد كل البعد عن مقاربة النقد الموضوعي.
ويتأكد ذلك في مقالكم الأخير غير الممضي تحت عنوان“في خرق جديد لمبادئ المحاكمة العادلة في تونس: هيئة الحقيقة والكرامة تغرق الدوائر المتخصصة بملفات لم يتم البحث فيها“ ويحتوي هذا المقال عددا من المغالطات والأحكام المتسرعة والمعلومات الفاقدة للمصداقية تنمّ عن استخفاف كاتبها بالاحتياطات المهنية الدنيا – منها ضرورة التثبّت من المعلومات لدى المصدر (مصالح هيئة الحقيقة والكرامة أو المسؤول عن النفاذ إلى المعلومة)- وقد ارتقى المقال في بعض جوانبه إلى التضليل الإعلامي كما تورّط في الازدراء من هيئة رسمية ممّا يرشّحه للسقوط تحت طائلة التتبع القضائي بمقتضى الفصل 66 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013.
إنّ كاتب المقال جانب الحقيقة بادعائه بأنّ هيئة الحقيقة والكرامة أحالت للدوائر القضائية المختصة ملفات “بتاريخ لاحق لانتهاء أعملها” وبأنّ هذه الملفات «… خلت عموما من أبحاث التحقيق» وبأنّها قد بدت «…مخالفة لشروط “المحاكمة العادلة” ومبدأ قرينة البراءة».
لذلك، وبغرض إنارة الحقيقة ومدّ قرائكم بمعطيات دقيقة وأمينة وعملا بحق الرد نفيدكم بما يلي:
- أن جميع الملفات، إلى حد كتابة هذه السطور، احيلت على الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية قبل غرة جانفي 2019 وأن جميع قرارات الإحالة على الدوائر صدرت عن مجلس الهيئة قبل تاريخ 31 ديسمبر 2018. وأحالت الهيئة منالــ62720شكوى التي أودعت لديها 69لائحةاتهام شملت 1120 ملف وجهت التهم فيها لـ1426 منسوب اليه الانتهاك، كما أحالت 104قرار إحالة شمل 583 ملف، وهو ما وصفه الكاتب بــــ”إغراق الهيئات بالملفات”!!! هذا ما يؤكد أن الهيئة لم تحل سوى الملفات التي “ثبت” لديها ارتكاب انتهاك جسيم أو ممنهج لحق من حقوق الانسان أو ارتكاب فساد مالي واعتداء على المال العام طبقا لمقتضيات القانون الأساسي للعدالة الإنتقالية.
ونذكر بأن الهيئة أصدرت في 27 فيفري 2018 قرار تمديد في عهدتها بسنة كما ينص عليه الفصل 18 من القانون (من 31 ماي 2018 إلى 30 ماي 2019 ) على أن تسعى إلى إنهاء أعمالها الفنية يوم 31 ديسمبر 2018 وتقوم في المدة المتبقية من عهدتها بتنفيذ أعمالها الختامية خلال مدة التصفية (نشر تقريرها الختامي و تسليم قرارات جبر الضرر للضحايا وغلق القوام المالية تحت إشراف مراقب الحسابات…) وهذا ما فعله مجلس الهيئة.
- اقتضى الفصل 42 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 أنه “تحيل الهيئة إلى النيابة العمومية الملفات التي يثبت لها فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ويتم إعلامها بكل الإجراءات التي يتم اتخاذها لاحقا من قبل السلطة القضائية …” وتنفيذا لذلك فأن جميع الملفات التي تمت إحالتها على السادة وكلاء الجمهورية تضمنت اثباتات وادلة كافية[4]تفيد ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وقد تم عرض تلك الملفات على مجلس الهيئة الذي، بعد اطلاعه عليها وعلى مؤيداتها، وما توصلت إليه الأبحاث فيها، قرر إحالتها على الدوائر المتخصصة للتعهد بها.
كما ينطبق الفصل 42 على الملفات التي لم تستكمل إجراءات التحقيق بسبب عدم التوصل بالوثائق في الآجال (أي أجال 31 ديسمبر)من الوزارات وخاصة وزارة الداخلية والمحكمة العسكرية والأجهزة التي ينتمي إليها المنسوب إليهم الانتهاك رغم توجيه عديد المراسلات من رئاسة الهيئة في الغرض وبسبب رفض المكلف العام لنزاعات الدولة التعامل مع الهيئة. وقد قرّر مجلس الهيئة، ضمانا لحقوق مودعي الملفات،إحالة عددا من هذه الملفات مرفقة بالأدلة التي تثبت وقوع الانتهاك في شكل “قرار إحالة” على الدوائر المتخصصة للتعهد بها وممارسة صلاحياتها الاستقرائية بإصدار أحكام تحضيرية وبتعيين قاضي مقرر للقيام بالأبحاث والاختبارات اللازمة مثل ما نص عليه الفصل 143 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي نص على أنه:” للمحكمة أن تكلف أحد أعضائها بإجراء بحث تكميلي وفي هذه الصورة تؤخر القضية إلى أجل مسمى“. ويمكن بالتالي للدوائر الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية استكمال الأبحاث في الملفات التي أحيلت عليها من هيئة الحقيقة والكرامة وذلك حفاظا على حقوق الدفاع وحقوق الضحايا وسعي ا لكشف الحقيقة ومساءلة ومحاسبة الجناة.
- كما تجدر الإشارة إلى أن لوائح الاتهام التي تمت إحالتها استكملت فيها أعمال التحر ي والتحقيق مع احترام حق الدفاع ومبدأ المواجهة وقرينة البراءة وتضمنت “الوقائع واسبابها وظروفها ومصدرها والملابسات المحيطة بها والنتائج المترتبة عليها” كما جاء بالفصل 4 من قانون العدالة الانتقالية، وكيفت فيها الانتهاكات بصفة مزدوجة استنادا إلى القانون الإنساني الدولي والقانون الجزائي التونسي.وتعد لوائح الاتهام نموذجا يؤسس لفقه قضاء جديد– كان من الاجدى تحليله من خبراء في القانون –يضفي على القرارات القضائية التونسية بعدا انسانيا منسجما مع الدستور التونسي الجديد ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي حدد مفهوم الجرائم ضد الإنسانية والذي صادقت عليه الجمهورية التونسية بموجب مرسوم 18 فيفري 2011 ثم الأمر عدد 2011 / 549 المؤرخ في 14 ماي 2011.
كما أدخلت الهيئة في لوائحها تمشيالنزاع الاستراتيجي (le litige stratégique) الذي يعمل على تطوير اتجاه فقه القضاء بما يساهم في تعديل طرق تطبيق المعيار والمبادئ القانونية بشكل يضمن الاحترام الكامل لحقوق الإنسان.
- وعملا بأحكام الفصل 39 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المنظم للعدالة الانتقالية الذي ينص على واجب”تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة” في هذه الانتهاكات، عاينت الهيئة أن وزارتي الداخلية والدفاع، بحكم امتلاكهما لحق استعمال القوّة العامّة، من أهم أجهزة الدولة التي صدر عن مختلف تفرعاتها والفرق الأمنية والعسكرية الراجعة لها بالنظر انتهاكات جسيمة أو ممنهجة لحقوق الانسان تضاف اليهما الإدارة العامة للسجون والإصلاح الراجعة بالنظر لوزارة العدل. وفي هذا الإطار نشير إلى أنّ الهيئة وجّهت التهمة لـ1426 منسوب إليه انتهاك انتفعوا كلهم بحق الدفاع ومبدأ المواجهة ما عدا الذين رفضوا المثول لدى وحدة التحقيق بالهيئة بالرغم من بلوغ عديد الاستدعاءات اليهم. وأثارت هذه الإحالات حفيظة المنظومة القديمة المتورطة في جرائم ضد الإنسانية والتي تخفت للإفلات من العقاب وراء بعض نقابات أمنية التي بعد أن دعت منخريطيها “إلى عدم الاستجابة للإستدعاءات الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة”تجرأت على التهديد، بتاريخ 7 جانفي الجاري،”بمقاطعة تأمين جميع جلسات” القضاء المتخصص في العدالة الانتقالية بالمحاكم الابتدائية ووجدت في بعض “المثقفين” الذين يحنون للاستبداد حليفا في التجرؤ على تهديد القضاة. كما وجدت في سياسيين مدافعين عن الاستبداد حلفاء لهم في تقديم مبادرة تشريعية لإلغاء الفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية وحل الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية.
وتتسأل الهيئة ما الذي يخيف كاتب المقال؟ أن تحفظ التهمة لعدم كفاية الحجة؟ أم أن يتم محاسبة الجلادين الذين مارسوا أبشع أنواع التعذيب وتمكينهم من الإفلات من العقاب؟ في ظاهره يحاول كاتب المقال التزيّن بنصرة القضاء العادل وبالغيرة على استقلاليته لكنه في واقع الأمر ينتصب كوصي فوق القضاء المتخصص في العدالة الانتقالية للتشكيك في قدرته على قراءة الملف والتثبت من المؤيدات والقيام بالاستقراءات طبق القانون وإصدار قراره والنطق به وفقا للقانون.
ليطمئن قلب الكاتب! فإن الهيئة توصلت إلى جمع ما يكفي من الأدلة والحجج على ثبوت وقوع الانتهاكات. هل الكاتب يشكك في احترام الدوائر القضائية لمعايير المحاكمة العادلة مثل ما فعلت بعض النقابات الأمنية؟ فإن سير الجلسات القضائية التي انطلقت منذ ربيع 2018 في النظر في الملفات المحالة من الهيئة لا تنبئ بأي مؤشر يبعث عن القلق والتخوف من الانزلاق في مخاطر المحاكمة غير العادلة بل العكس هو الصحيح.
إذا هذا التشكيك له نتيجة وحيدة،هي أن يسلط على الضحايا مظلمة ثانية بعد المظالم التي سلطت عليهم من المستبد،وهي مواصلة منع وصولهم للقضاء وهي غلق الباب أمام آخر أمل لهم في الإنصاف كما هو غلق الباب أمام الشعب التونسي في أن يكون له قضاء مستقل يردع الإفلات من العقاب ويمَكّن من اصلاح مؤسسات الدولة.
رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة
سهام بن سدرين
رد على الرد
بداية، وبعد التنويه باهتمام رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ومتابعتها لما تنشره المفكرة القانونية فيما تعلق بتجربة العدالة الانتقالية في تونس، يجدر إبداء ملاحظات وتوضيحات ضمانا لحق قراء “المفكرة” ولكل المهتمين بمسار العدالة الانتقالية في التوصل إلى تكوين تصور لهم حول هذه التجربة المهمة بناء على معطيات دقيقة:
أولا: خلافا لما ورد في الرد من إيحاءات وخطاب تخوين ومحاسبة على النوايا، يهم التذكير أن المفكرة اهتمت بمسار العدالة الانتقالية منذ صياغة مشروع قانونه وحرصت في كل محطة من محطاته على أن يكون فضاؤها مجالا لنشر مقالات وتحاليل تحتفي بانتصارات تونس في هذا المجال مع تنبيهها لما يتهدده من مخاطر. ومن أبرز المساهمات في هذا الخصوص، الآتية:
- فتح صفحات المفكرة للاحتفاء بانتصارات تونس في مجال العدالة الانتقالية الذي ترجمته بشكل مبهر جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات، تلك الجلسات التي خصصت لها المفكرة عددا كاملا من أعدادها الورقية. وقد شكلت هذه الصفحات مساهمة هامة للإضاءة على أعمال الهيئة في مواجهة سياسات الاستبداد.
- نشر أبرز الشهادات التي وثقت ما تعرض له ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من ممارسات وأول من حرص على تفكيك الدور الذي لعبته منظومة قضاء التعليمات في ذلك،
- التنبيه للمخاطر التي تعترض مسار المحاسبة القضائية بسبب سوء صياغة النص القانوني الذي لم يحترم في تصوره للدوائر القضائية المتخصصة مبدأ التقاضي على درجتين، هذا المبدأ الذي يعد من شروط المحاكمة العادلة.
إن المتتبع الموضوعي لتناول المفكرة لتجربة العدالة الانتقالية يتبين وانطلاقا من الشواهد السالف ذكرها وغيرها، أنه وخلافا لما ورد بالرد كانت المفكرة في كل عملها حريصة على أن يكون كل ما يكتب في موقعها منسجما مع قيم العدالة الانتقالية ومع العقيدة الراسخة لهيئتها بكون تلك العدالة استحقاقا وطنيا يتعين العمل على إنجاحها ولكنها كانت أيضا بذات الحرص على أن تكون المسارات المفضية لتلك العدالة بمثل نقاء أهدافها وسموها بما برر سعيها لفتح مجالها لنشر كل نقد موضوعي لعمل الهيئة وغيرها من مؤسسات العدالة الانتقالية. وكان لها في هذا الإطار فضل أن كانت أول من نبه لخطورة مواصلة الهيئة لأعمالها بعد إعلان نهاية عهدتها بسماعات لقضاة كانت مخالفة لإجراءات المؤاخذات العادلة. وقد كان من شأن ذلك أن تراجعت الهيئة عن تلك الخطوة وأصدرت اعتذارا علنيا عنها. فهل أخطأت المفكرة حين صوبت عمل الهيئة أم أنها قدمت باعتراف الهيئة واعتذارها، خدمة على صعيد تصويب مسار العدالة الالنتقالية وحمايته من أحد منزلقاته؟
وأؤكد هنا من موقعي في هيئة تحرير المفكرة، التزامنا المبدئي بالعمل على تحقيق انتصار حقيقي لقيم العدالة الانتقالية التونسية من خلال مواصلة الدفاع عن تلك العدالة بذات جدية فضحها وإدانتها لكل تجاوزات تطالها من خارج هياكلها أو بفعل تلك الهياكل وأزمات تسييرها وأدائها.
ثانيا، فيما تعلق بما تضمنه الرد من مؤاخذات على مقال “في خرق جديد لمبادئ المحاكمة العادلة في تونس: هيئة الحقيقة والكرامة تغرق الدوائر المتخصصة بملفات لم يتم البحث فيها“، يلاحظ كاتب المقال الأمور الآتية:
- أن الهيئة تصرح بوضوح كلي في الرد أنها أحالت من أصل الــ 62720 شكوى التي أودعت لديها 69 لائحة اتهام شملت 1120 ملف وجهت التهم فيها لـ1426 منسوب إليه الانتهاك، كما أحالت 104 قرار إحالة شمل 583 ملف. ويؤكد هذا القول ما ورد بالخبر المشكو منه من كون الملفات التي أحالتها الهيئة على جهة الاختصاص القضائي المحددة بالفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية كان من بينها عدد هام من ملفات لم تتضمن لا قرار إحالة ولا لائحة اتهام. كما يؤكده التصريح الذي صدر عن عضو الهيئة ابتهال عبد اللطيف لجريدة المغرب بتاريخ 19-01-2019[5] والذي أقرت فيه صراحة بهذا الأمر وبررت ذلك بما قالت أنه كثرة أعباء الهيئة.
- أن الملفات المحالة التي تخص الخبر أي تلك التي لم تحرر لوائح الاتهام المتعلقة بها كانت خالية من كل عمل بحث وبعضها كان وبكل بساطة ضد مجهول رغم خطورة الانتهاكات التي شملتها.
ولا يرد على ذلك أن بإمكان الدوائر المتخصصة أن تصحح هذا الأمر، من خلال ندب قاض مقرر من أعضائها يتولى إجراء التحقيقات الغائبة. فهذا الأمر يتعارض تماما مع الأصول المتوافق عليها دوليا للمحاكمات العادلة لكونه يؤدي لأن تكون جهة الادعاء هي ذاتها جهة الحكم. كما لا يرد على ذلك بأن الهيئة تنتهج آلية النزاع الاستراتيجي لبناء قضاء جديد، فهذه الآلية إنما تهدف لتكريس مبادئ المحاكمة العادلة ومجمل الحقوق الواردة في المواثيق الدولية، فيما يكون من الخطأ الجسيم استخدامها لنسف هذه المبادئ أو هذه الحقوق. ولا بد هنا من التذكير بأن أكبر أشكال الاستبداد خلال فترة الديكتاتورية تجلى في ضرب مبادئالمحاكمة العادلة، بحيث تصبح الغاية الأولى لأي عمل جاد للعدالة الانتقالية التأكيد أولا على هذه المبادئ وتغليبها على أي اعتبار آخر.
هذا فضلا عن أن أن احالة ملفات من دون أبحاث يتعارض مع القوانين الداخلية التي صاغتها الهيئة لنفسها وخصوصا (1) دليل اجراءات لجنة البحث والتقصي الذي يفرض أن يكون كل قرار إحالة على المحاكم مسبوقا ببحث تحقيقي على مستوى الهيئة وهو أمر تم خرقه بشكل أقر به الرد من دون لبس، و(2) معايير الإحالة التي صادق عليها مجلس الهيئةوالتي أوجبت ألا تحيل إلا الملفات التي ” تحتوي على قرائن واثباتات[6] و(3)
قرار عـ2ـدد لسنة 2016 مؤرخ في 29 جانفي 2016 يتعلق بضبط دليل إجراءات لجنة البحث والتقصي التابعة لهيئة الحقيقة والكرامة الذي فرض أن يسبق كل إحالة لملف على القضاء تحقيق يجري استقراءاته قضاة ملحقون بالهيئة. ونحن ندعو الهيئة صدقا إلى مراجعة هذه الوثائق أملا في تصويب عملها.
- يما يتعلق بتواريخ الاحالات: يهمنا أن نوضح أن التاريخ المعتمد لتحديد تاريخ الإحالة ليس مقرر مجلس الهيئة، خصوصا أن مثل هذا التاريخ يحرر في غياب كل رقابة خارجية، بل تاريخ تعهد المحاكم بتلك الملفات. وإذ يتضح من الرد أن لرئيسة الهيئة رأيا مخالفا فإننا نظن أن المحاكم التي ستنظر في الأمر يجب أن يكون لها القول الفصل وحينها فقط نتبين الموقف الأسلم.
- فيما تعلق بالاستياء من تقدير كون الملفات التي تمت إحالتها دون أي أبحاث ودون لوائح إغراق للدوائر المتخصصة. سلف ووضحنا أن المحاكم لا يمكنها بحال أن تمارس صلاحية الاتهام والاستقراء الاتهامي، وأن مطالبتها بذلك لا يعدو كونه قذفا للمسؤولية إلى مرجع نعرف سلفا أنه غير قادر قانونا على التصدي لها. وأكثر ما نخشاه أن يؤدي هذا التدبير غير السليم إلى إحباط العديد من الضحايا بعد رفع مستوى آمالهم، وبما لا يقل أهمية إلى التحضير لانتكاسات عديدة ومؤسفة في مسار العدالة الانتقالية. فهل يعكس تنبيه المفكرة لهذا الخلل معاداة للعدالة الانتقالية أم سعيا إلى التحسب لكل خطوة ضمانا للنجاح وتجنبا للفشل؟ وهذا الأمر كان دافعنا للقول بكون الهيئة التي قصرت في الأبحاث وقصرت في حماية حقوق الضحايا كان يجب عليها أن تتحلى بالشجاعة الأدبية وتبين لهم ذلك ليكون لهم -أي الضحايا- حق رفع قضاياهم أمام القضاء المختص احتراما لهم ولآلامهم.
- فيما تعلق من اتهام ” بالازدراء من هيئة رسمية ممّا يرشّحه للسقوط تحت طائلة التتبع القضائي بمقتضى الفصل 66 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013.”يظهر من المؤسف في مواجهة مقال لم يتضمن أي تجريح بالاشخاص -خلافا لما تضمن للأسف الرد عليه– أن يتم التهديد باستعمال الملاحقات القضائية الجزائية. ونلاحظ أن هيئة الحقيقة والكرامة تمثل في تصورها القانوني والمؤسساتي آلية من آليات القطع مع ثقافة الاستبداد وممارساته ويظهر مثل هذا التهديد في تعارض مع هذا.
- أخيرا، نلاحظ من باب الدقة أن مصفية الهيئة السيد سهام بن سدرين في طالع وثيقة ردها الموجه للمفكرة لم تذكر “أن الهيئة محل تصفية” وأمضت بصفتها رئيسة الهيئة وفي ذلك خرق لمقتضيات القرار عدد 12 الصادر عن هيئة الحقيقة والكرامة المتعلق بأعمال التصفية والذي ينص على وجوب التنصيص في كل وثائقها على هذا .
محمد العفيف الجعيدي
مقالات ذات صلة:
·الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية في تونس: العنوان القلق لمسار محاسبة حكم عليه قبل أن يبدأ بالفشل
·العدالة مشوّشة بصراع الإيديولوجيات في تونس: ذاكرة فئوية لغد فئوي؟
·العدالة الانتقالية في بعدها القضائي في تونس: قراءة من الخارج
·جريمة “الدولة الأمنية”: قضاة وأطباء يتواطؤون لرفع معنويات الجلاد
·قضايا في عهدة الذاكرة
·الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية في تونس: العنوان القلق لمسار محاسبة حكم عليه قبل أن يبدأ بالفشل
ضحايا الاستبداد في الفضاء العام، ولكن..
·السماعات العلنية لضحايا التعذيب: الجلاد حاضر رغم غيابه
·العدالة الانتقالية والمسارات الموازية
·كومكس || جلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة
·المكلف العام بنزاعات الدولة وهيئة الحقيقة والكرامة: قطيعة تتهدد مسار العدالة الإنتقالية في تونس
·جلسات الإستماع العلنية بين الحق في الحقيقة وكرامة الضحايا
[1]تضمن الرد هنا إساءة لأحد الأشخاص من خارج فريق المفكرة. وقد تعين علينا شطب الاسم منعا لاستخدام منبر المفكرة للتهجم على الغير، وذلك عملا بالقواعد التي تنظم حق الرد (المحرر).
[2]“على خلفية ما عدّه القضاة هرسلة لهم: هيئة الحقيقة والكرامة توضح وتعتذر” (2019-01-11)
” آخر أفعال هيئة الحقيقة والكرامة التونسية: استدعاء قضاة لتحقيق عاجل في شكايات فساد “(2019-01-02)
“تقييم سلبي لأداء هيئة الحقيقة والكرامة في تونس: تقييم موضوعي للهيئة أم لخيارات العدالة الانتقالية” (2018-12-24)
[3]مأخوذ من موقع المفكرة.. (رد من المحرر: هذا تماما ما نفعله من خلال رصد أعمال الهيئة وسياساتها والتعليق عليها من منظور نقدي).
[4] انظر الفصل 116 من م إ ج حول توفر ذلك الشرط لدى دائرة الاتهام لإحالة الملف على الدائرة الجنائية.
[5] يراجع مقال إحالة أكثر من 300 ملف انتهاك وفساد على الدوائر القضائية دون التحقيق فيها: هيئة الحقيقة والكرامة تعلّلت بضيق وقت عهدتها، والكرة في ملعب القضاء – نورة الهدار – جريدة المغرب بتاريخ -19-01-2019
[6] المعايير الخمس هي 1– تتبع المسؤولين حتى الأعلى درجة في سلسلة القيادة. 2- تمثيلية لمختلف الانتماءات والمناطق الجغرافية وحيث يوجد 13 دائرة مختصة . 3-تمثيلية للحقبات التاريخية. 4- تتضمّن الانتهاكات الأكثر جسامة وفظاعة لحقوق الإنسان طبقا للفصل الثامن من قانون العدالة الانتقالية، أو التي كانت لها طبيعة ممنهجة ومنظّمة إلى الدوائر القضائية المتخصّصة. و إن يحتوي الملف على قرائن وإثباتات 5- تمثيلية لمختلف الانتهاكات