في 2014، أنجزت “المفكرة” دراستها الأولى حول عمل مجالس العمل التحكيمية في بيروت وجبل لبنان ولبنان الشمالي، وقد استندنا آنذاك على الأحكام الصادرة في الأشهر الستة الأولى من سنة 2013. وقد بينّا فيها أهم الاشكاليات التي تحول دون تمتّع الأجراء من عدالة فعّالة وسريعة، وأيضا أهم التوجهات للقضاة في مجال العمل. في سنة 2019، عادت “المفكرة” لتزور مجالس العمل في محافظتي بيروت وجبل لبنان، وقد عملت على الأحكام الصادرة في سنة 2018 والتي أمكن الحصول عليها. ورغم الجهود التي بذلها عدد من القضاة وبرزت في اجتهادات نوعية نبينها في الدراسة (وبخاصة فيما يتصل بالصرف لأسباب اقتصادية أو حوادث العمل)، فإن التنظيم القضائي لمجالس العمل التحكيمية وعددها وحصر تواجدها في مراكز المحافظات تبقى عوامل ضاغطة لإطالة آماد الدعاوى لسنوات عديدة، على نحو يجافي طموحات المشرع بإنجازها خلال ثلاثة أشهر ويضع الأجراء تحت ضغط القبول بتسويات غير عادلة. ننشر هذه الدراسة على حلقات عدة. في الحلقة الأولى، نذكر بصعوبات البحث في المجال القضائي، بغياب المكننة وعدم تطبيق قانون حق الوصول على المعلومات، كما نتناول العينة التي عملنا عليها. في الحلقات اللاحقة، سنتناول تباعا كما فعلنا في دراسة 2014 التذكير بالإطار القانوني لمجالس العمل التحكيمية، وماهية النزاعات المعروضة أمام مجالس العمل التحكيمية والنتاج القضائي للمجالس من حيث مدى فعاليتها ومضمونها، علما أننا نعيد نشر الدراسة بمضمونها الكامل ومع جداولها في منشورة على حدة. ونضع هذه الدراسة بأكملها برسم وزير العمل كميل أبو سليمان، مذكرين إياه أن حماية العمالة اللبنانية لا يتم فقط من خلال مكافحة العمالة غير النظامية، بل أيضا من خلال ضمان الاستقرار الوظيفي الذي يمنع استبدال العمالة الوطنية بعمالة غير نظامية، وإعادة التوازن إلى علاقات العمل وضمان الوصول إلى عدالة سريعة وفعالة (المحرر).
مقدمة
تخصيص دراسة لفهم كيفية عمل مجالس العمل التحكيمية، أي المجالس الناظرة في نزاعات العمل الفردية، له مبررات عدة: فعدا عن أن لهذه المجالس تركيبة خاصّة جديرة بالدراسة، فإن من شأنها أن تعطي فكرة واضحة عن كيفية مقاربة القضاء للإشكاليات المطروحة في مجال العمل، وهو مجال تتزايد فيه الفروقات الاقتصادية والاجتماعية. كما من شأن هذه الدراسة أن تكشف عن طبيعة النزاعات العمالية الحاصلة في لبنان، وأن تعطي فكرة واضحة عن شروط العمل المعتمدة فعلياً وطبيعة التعامل بين أصحاب العمل والأجراء. ولغايات عملية، حصرت الدراسة العمل في المجالس العاملة في محافظتي بيروت وجبل لبنان، من خلال رصد كافة القرارات الصادرة عن هذه المجالس خلال العام 2018، ما عدا ما عجزنا عن الحصول عليه لدواع ٍ قلمية وهي تحديدا بعض الأحكام المطعون بها أمام محكمة التمييز والتي لم تحتفظ مجالس العمل التحكيمية بنسخ عنها. وتمّ إدخال البيانات الخاصة بهذه القرارات في قاعدة بيانات أُعدّت لهذا الخصوص استخدمت لتوثيق ما ورد من معطيات في الأحكام بهدف استخراج الأرقام ذات الدلالة والتي ستشكل مادة أساسية لهذه الدراسة.
وقبل المضي في تحليل الأحكام، يقتضي التذكير مجدداً بأن المجال القضائي يبقى مجالا غير مؤات للبحث العلمي، بالنظر إلى صعوبة الاستحصال على القرارات والملفات القضائية أو معرفة خصائصها، في ظل غياب المكننة والشفافية. فبغية الحصول على الأحكام، واجهتنا بعض الصعوبات أدّت إلى بعض التأخير، لا سيما من ناحية مسك السجلات التي لا تزال تُدوّن المعلومات داخلها باليد، ودون إعتماد طريقة موحدة في التدوين. علاوة على ذلك، يعتبر تصوير الأحكام جهدا شخصيا تقوم به المساعدة القضائية[1]، فيصبح الحصول على الأحكام مرتبطا ارتباطا وثيقا بمدى توفر وقت وجهوزية لديها. وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو انتقال الملفات عند الطعن بالقرارات الصادرة عن مجالس العمل التحكيمية إلى محكمة التمييز، من دون أن تحتفظ المجالس بنسخ عنها. وبنتيجة ذلك، يبقى هامش الخطأ في الإحصاء هامّاً، لارتباطه بمعطيات يصعب على الباحثة التحكم بها.
أكثر تحديداً، بالنسبة لمحافظة جبل لبنان، وللتمكّن من إجراء العمل البحثي والحصول على نسخ عن الأحكام الصادرة خلال سنة 2018 عن مجالس العامل التحكيمية العاملة فيها، قمنا كخطوة أولى بالحصول على موافقة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان قبل التعاون مع الموظفين القضائيين الذين قاموا بتزويدنا بنسخ عن الأحكام النهائية الصادرة عن المجالس.
أما بالنسبة لمحافظة بيروت، فقد تمّ التعاون مع الموظفين القضائيين، الذين قاموا بتزويدنا بنسخ عن الأحكام النهائية الصادرة بعدما قمنا بإحصاء عدد القرارات الصادرة عن مجالس العمل العاملة في هذه المحافظة من خلال إطلاعنا على سجلّاتها.
وقبل تبيان عدد القرارات وكيفية توزعها على المحاكم، تجدر الإشارة إلى أن مجالس العمل التحكيمية، تصدر إلى جانب الأحكام التي نعتمد في ما يلي الإشارة إليها ب”النهائية” والتي تفصل في الدعاوى المقدمة أمامها في الشكل و/أو الأساس، قرارات من نوعين آخرين:
الأول، قرارات بتدوين شطب الدعوى، وهي قرارات تصدر عموماً بسبب تغيب الفريقين أو الجهة المدعية عن حضور الجلسة، فيما يبقى احتمال إعادة تدوينها على جدول المرافعات لمتابعة الدعوى وارداً بطلب من أي من الفريقين.
والثاني، هو عبارة عن قرارات بتدوين إسقاط الدعوى أو الرجوع عنها أو عن الحق أو المصالحة. وهي قرارات تأتي نتيجة لتسوية حصلت بين الطرفين. وفي حالات عدة، تحصل التسوية في تاريخ قريب من تاريخ الاستحضار. فيقوم الأجراء في هذه الحالة بتقديم الدعوى أمام المجلس من أجل قطع مهلة مرور الزمن، تتبعها مباحثات تجري بينهم وبين أصحاب العمل على أن يتم الرجوع عنها في حال نجاح هذه المحادثات. وهذا ما سندرسه أدناه بالأرقام عند النظر في أمد الدعاوى المقدمة.
وتُسجّل المجالس هذه القرارات على اختلافها في ترتيب تسلسليّ، تمتزج فيه قرارات شطب الدّعاوى عن جدول المرافعات بالقرارات الآيلة إلى بتّها أو إسقاطها أو الرجوع عنها. ولحاجات هذه الدراسة، تم استبعاد قرارات الشطب، فيما أدخلنا النوع الثاني من القرارات (قرارات بتدوين إسقاط الدعوى أو الرجوع عنها أو عن الحق أو المصالحة) ضمن الإحصاء، مع الإكتفاء بإدخال الأحكام النهائية وحدها على قاعدة البيانات بسبب التفاصيل التي تتضمنها عن طبيعة النزاعات وكيفية الفصل فيها.
عيّنة الدراسة
وعليه، رصدنا 1683 قراراً صادراً عن مجالس العمل التحكيمية في محافظتي بيروت وجبل لبنان وتوزعت على الشكل التالي:
- 798 منها (أي ما نسبته 47,4%) هي قرارات شطب
- 300 منها (أي ما نسبته 17,8%) هي قرارات وثقت الرجوع عن الدعوى و/أو الحق،
- 517 منها (أي ما نسبته 30,8 %) بتت في أساس النزاع. وقد تمكنّا من توثيق ودراسة 373 من بينها
- 68 من القرارات “الأخرى” (أي ما نسبته 4%) (إحالة الى وزارة العمل، ضم، رفع يد المحكمة، استئخار، قيد المراجعة)
حصلنا على 195 حكماً من الأحكام النهائية الصادرة (206) عن غرف مجالس العمل التحكيمية في بيروت، ولم نحصل على البقيّة (11) إثر الطعن بها أمام محكمة التمييز.
أما بالنسبة لجبل لبنان، فحصلنا على 178 حكماً من الأحكام النهائية الصادرة (311) عن غرف مجالس العمل التحكيمية في جبل لبنان. أما البقية فغير متوفّرة وفق تصريح رئيسة قلم مجلس العمل التحكيمي إثر الطعن بها أمام محكمة التمييز.
- نشر هذا المقال في العدد | 61 | تموز 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة
[1] تعتمد المفكرة القانونية الحيادية الجندرية بمعنى أن استخدام صيغة الجمع للذكور أو للإناث تشمل كل الجنسين، وكذلك الأمر لجهة استخدام الكلمات المعبّرة عن فئة ما ك”قاض” أم “قاضية”.