تبعاً لإندلاع ثورة 17 تشرين وما أسفرت عنه من إنتفاضة تاريخية – ذاتية وجماعية – للشعب اللبناني في مختلف الساحات والميادين، ومن تحرر كلامي ملحوظ في الخطابات والهتافات، عمد أركان السلطة في مختلف تجلياتها – السياسية والإقتصادية إلخ. – للترويج لخطاب تأديبي وسلطوي مضاد للثورة بذريعة “تهذيب” الشارع، أو للقول أن الشارع تنقصه الآداب واللياقة، وتالياً ما يكفي من الرشد والوعي ليكون سيد ذاته (فكيف له أن يكون سيداً للبلاد؟). وهو أمر يشكل عملياً مسعى لتصغير الشارع وتحجيمه، ومدخلاً لتبرير طغيان الطبقة الحاكمة عليه. وفي إمتداد لهذا الخطاب، ذهب أركان النطام الإقتصادية – أصحاب العمل – إلى إعادة تدوير فلسفة السلطة التأديبية والسلطوية على مستوى الدوائر التي يتحكّمون بها.
ففي المرحلة الأولى، مرحلة “قطع الطرقات”، هدد بعض أصحاب العمل أجرءهم وعمّالهم بالصرف من الخدمة في حال شاركوا في الإضرابات (وعموماً في الإنتفاضة) التي تعيشها البلاد منذ ليل 17 تشرين، وقد سبق لي أن أشرت في مقال سابق إلى عدم قانونية تهديدات مماثلة[1]. أما الآن، أي في مرحلة “إعادة فتح المؤسسات الخاصة لأبوابها”، فقد أصدرت إدارة بعض تلك المؤسسات، لا سيما المصارف منها، “مذكرات عاجلة” حظرت فيها على موظفيها “تحظيراً كاملاً التحدث أو التداول أو إبداء الآراء السياسية أو الحزبية أو كل ما يمس بالإنتماءات الطائفية والسياسية في المؤسسة أو التداول فيها عبر وسائل التواصل الإجتماعي تحت طائلة الطرد الفوري من الخدمة”، ملزمة الموظفين بالتوقيع على تلك التعاميم.
وفي حين قد يتذرع بعض أصحاب العمل لتبرير مثل هذه التعاميم، بأن مكان العمل هو مخصص للعمل وليس لتبادل الآراء السياسية، تفادياً للفوضى والمشاكل داخله وتالياً حفاظاً على السلم الإجتماعي فيه، إلا أن هذه التعاميم تؤدي عملياً إلى كم أفواه الموظفين وقمعهم وتالياً منعهم من ممارسة حرية محمية دستورياً من دون أي مبرر أو أي تناسب مع الغاية، بهدف ضبطهم وتحجيم آمالهم وتطلعاتهم من خلال تهديدهم الوجودي: الصمت مقابل العمل والمال. فكأنما يتم تكبيل أيادي تلاميذ في مدرسة خوفاً من وقوع تشاجر فيما بينهم. وهذا ما حملني إلى اختيار العنوان أعلاه “صمتنا والعمل” والذي يشكل نقيضاً لعنوان “قولنا والعمل”. ونظراً لفداحة هذه التعاميم، نسجل الملاحظات التالية:
أولاً – أن إبداء وتبادل الآراء السياسية يشكّل أحد أوجه ممارسة الحق في حرية التعبير الذي يتمتع بقوة ذات وزن دستوري. فقد تبنى الدستور اللبناني (في مقدمته، الفقرة “باء”) العهود الأممية الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها لبنان والتي باتت جزءاً لا يتجزأ منه[2]، لا سيما منها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[3] الذي يكرس في المادة 19 (فقرة 2) منه الحق في حرية التعبير بأية وسيلة يختارها الإنسان، وما أوجد لها قيود إلاّ تلك المحددة بنص قانوني والضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة (مع الإشارة إلى أنه يقتضي عدم التوسع في قراءة تلك القيود على اعتبار أن المبدأ يبقى هو الحرية). فضلاً عن ذلك، فقد نصت إتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن التمييز في الإستخدام والمهنة (الإتفاقية رقم 111 لسنة 1958) الذي صدق عليها لبنان في 01/06/1977، على وجوب عدم التفريق أو الإستبعاد أو التفضيل في المهنة على أساس الرأي السياسي (وهو أمر يتضمن إمكانية الأجير بالتعبير عن الرأي السياسي في العمل)[4]. وقد ذهب القانون الوضعي اللبناني إلى معاقبة المساس والتعدي على هذه الحقوق الدستورية، لا سيما في إطار العلاقات العمّالية، بين أصحاب العمل والأجراء. فقد نصت المادة 50 فقرة “دال” (5) من قانون العمل اللبناني على إعتبار صرف صاحب العمل للأجير من قبيل الإساءة أو التجاوز في استعمال الحق (أي ما هو معروف بالصرف التعسفي) في حال أقدم صاحب العمل على فسخ عقد عمل الأجير (أي صرفه) “لممارسته حرياته الشخصية أو العامة ضمن نطاق القوانين المرعية الإجراء”، ومنها بطبيعة الحال، تعبير الأجير عن رأيه قولاً وكتابة وميوله السياسية أو الحزبية[5]، فصرفه يعتبر تعسفياً في حال حصل بسبب ميوله أو آرائه السياسية[6].
ثانياً – أن ممارسة الحق في حرية التعبير وتالياً إبداء الآراء السياسية وتداولها، هي حرّة أكانت خارج مكان العمل أو داخله. فللأجير أن يعبر عن آرائه السياسية والنقابية والحزبية بحرية تامة خارج مكان العمل وبشتى الوسائل، ومنها وسائل التواصل الإجتماعي التي تحاول تعاميم “الصمت” المذكورة أعلاه بائسة السيطرة عليها. فلا يحق لصاحب العمل محاولة الحد من ممارسة الأجير لحقه هذا خارج مكان العمل، حيث أـن تعدياً كهذا لا يمس بحرية هذا الأخير وحسب وإنما أيضاً بخصوصيته. وعليه، يعدّ أي تدبير تأديبي أو أي صرف من الخدمة على هذا الأساس باطلاً بطلاناً مطلقاً، ويتحمّل مسؤوليته صاحب العمل[7] (وهو أمر أعود إليه أدناه). فضلاً عن ذلك، فللأجير أيضاً أن يعبر عن آرائه السياسية داخل مكان العمل، وذلك أيضاً بحرية تامة. وما عدا لزوم التوفيق مع مصلحة الآخرين[8]، يتمتع الأجير على الصعيد الفردي بحرية تامة لممارسة حقه الدستوري في إبداء الرأي السياسي وتداوله مع زملائه في مكان العمل.
ثالثاً – أن ممارسة الحق في حرية التعبير، لا تشمل حرية الإبداء عن الآراء السياسية وحسب، وإنما تتضمن حتى حق الأجير بإبداء رأيه قولاً أو نشراً في مجلة أو جريدة أو مطبوعة بشأن أحوال أو ظروف العمل في المؤسسة[9]، وهو أمر يقتضي التنويه به، لا سيما في ظل ما شهدناه من أجراء انضموا إلى قوافل المتظاهرين ضد الشركات التي يعملون بها، ضمن إطار نشاطات الثورة الإحتجاجية إزاء بعض المؤسسات الاحتكارية الضخمة والتي تحوم حولها شبهات فساد وتعسف. فأصبح من المسلم به إجتهاداً، لا سيما منذ صدور قرار “كلافو” (Clavaud) في القانون المقارن الفرنسي أواخر ثمانينات القرن الماضي، أن للأجير هامش واسع للتعبير عن رأيه وفي نقد المؤسسة التي يعمل بها، أكان داخل مكان العمل أو حتى خارجه ومن خلال إدلائه بتصاريح للصحافة بهذا الشأن. فما عدا حالة التعسف، لا يجوز تقييد حرية تعبير الأجراء تلك، عملاً بمبدأ التناسب ما بين أفعال صاحب العمل والنقد الموجه إليه[10]. وفي 03/07/2018، صدر قرار رائد في نفس توجه قرار “كلافو” المذكور من قبل محكمة التمييز اللبنانية في قضية صرف أحد مؤسسي نقابة عمال سبينس مخيبر حبشي، الذي تم صرف من الشركة المالكة لمتاجر “سبينس” تحت ذريعة توزيعه لمناشير نقابية، رأت الشركة أنها مسيئة لسمعتها. وقد حسمت المحكمة العليا واقعة حصول الصرف تعسفا وعلى خلفية نشاط حبشي النقابي، بعدما نقضت الحكم الابتدائي الصادر عن مجلس العمل التحكيمي الصادر لمصلحة الشركة، معتبرة أن المناشير “التي جرى توزيعها عرضت مسائل تتعلق بالعلاقة بين سبينس وعمّالها وسلطت الضوء على ما يواجه هؤلاء من مشاكل كعدم التصريح عن البعض لدى الضمان الإجتماعي ومعاقبتهم بسبب إنشاء نقابة لهم وفصل بعضهم تعسفياً… وأن المناشير التي شارك حبشي بتوزيعها شكّلت وسيلة سلمية لجأ إليها الأجراء… للتعبير عن وضعهم الوظيفي والمعيشي وذلك ضمن حدود حرية التعبير والرأي المصانة قانوناً”[11].
رابعاً – لا بل، وبالعودة إلى قرار “كلافو” المذكور، ونظراً لإعتبار أي تدبير تأديبي أو أي صرف من الخدمة على أساس ممارسة الأجير لحرية شخصية، باطلاً بطلاناً مطلقاً، يتحمل مسؤوليته صاحب العمل وفق ما ذكرته أعلاه، من المهم الإشارة إلى أن التدابير المماثلة (الصرف من الخدمة) يمكن أن تتم معاقبتها بما يسمى “البطلان والإعادة إلى العمل” (nullité‑réintégration)، أي من خلال إلزام صاحب العمل بإعادة الأجير المصروف إلى العمل، فضلاً عن تسديده مبالغ العطل والضرر له، وفق توجه الإجتهاد في القانون المقارن الفرنسي في هذا المجال[12].
خامساً – أخيراً، نظراً لأبعاد ممارسة الحق في حرية التعبير، ولا سيما إبداء الآراء السياسية منها، وإرتباطها الوثيق بممارسة المواطنين اللبنانيين (وهم أيضاً أجراء وعمّال) لحقوقهم وواجباتهم المواطنية والمدنية – فالمشاركة في الحياة المدنية تستلزم إمكانية إبداء وتداول مختلف الآراء السياسية في مختلف المساحات الحوارية والعيش المشترك (وهي تشمل على حد سواء المساحات العامة والمساحات الخاصة، ومنها مكان العمل) –، فقد يمكن قراءتها أيضاً من خلال زاوية ما تحميه المادة 329 من قانون العقوبات من أفعال لضمان سلامة النشاط المُدني. فتعاقب تلك المادة كل فعل من شأنه أن يعوق اللبناني عن ممارسة حقوقه أو واجباته المدنية بالحبس حتى السنة، إذا إقترف بالتهديد والشدة أو بأي وسيلة أخرى من وسائل الإكراه الجسدي أو المعنوي[13]. وعلى هذا الأساس فقد يقع فعل تهديد الأجراء بالصرف في حال أبدوا أو تداولوا الآراء السياسية تحت أحكام المادة 329 من قانون العقوبات، ما يصبغ تعاميم “ممنوع تحكوا سياسي” بالطابع الجرمي ويعرض تالياً أصحاب العمل الذين يصدرونها للملاحقة الجزائية.
ختاماً، يقتضي لفت النظر إلى أن ثمة مؤشرات عديدة إلى أن ما قبل 17 تشرين لن يكون مثل ما بعده، وأن تعاميم “الصمت” القمعية التي أصدرها بعض أصحاب العمل في الأيام الأخيرة لا مساحة لها في لبنان ما بعد الثورة، مكانها في أدراج الماضي ليأكلها العث ومعها النزعات السلطوية والقمعية والأبوية في مختلف أشكالها.
[1] كريم نمّور، “لماذا لا يحق لصاحب العمل أن يصرف أجيرا يشارك في الإضراب الوطني؟”، المفكرة القانونية، 24/10/2019.
[2] تبعاً لقرار المجلس الدستوري رقم 2، الصادر بتاريخ 10/05/2001.
[3] الصادر بتاريخ 16/12/1966 والذي أجيز إنضمام لبنان إليه بالقانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 الصادر بتاريخ 01/09/1972.
[4] يراجع بنفس المعنى المادة 2 من العهد الدولى الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
[5] وليم الغريب، “قانون العمل اللبناني – حاضره ومستقبله”، الطبعة الأولى، 2014.
[6] محمد علي الشخيبي، الصرف التعسفي في عقد العمل الفردي، 1980، ص 80.
[7] A. MAZEAUD, « Droit d’expression des salariés », Rép. Dr. Travail, Dalloz, 1989.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.