في الوقت الذي كنا نشهد فيه محاكمة هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات حول اتهامه بترويج إشاعات عن تكلفة الفساد في مصر، كانت هناك لجان وزارية تعمل على قدم وساق من أجل التصالح مع رجل الأعمال الهارب وأحد أساطين الحزب الوطني المنحل حسين سالم. وبالفعل، عقد السيد عادل السعيد، مساعد وزير العدل لجهاز "الكسب غير المشروع" مؤتمرا صحفيا بتاريخ 3/8/2016 بالقاهرة: أعلن فيه عن الانتهاء من إجراءات التصالح مع رجل الأعمال الهارب حسين سالم بعد تنازله عن 75% من ثروته لصالح الدولة، مقابل انقضاء الدعاوى الجنائية ضده. وأضاف السعيد أن قيمة الأصول والمبالغ النقدية التي تنازل عنها سالم إجمالا تصل إلى 5 مليارات و341 مليون جنيه (نحو 601 مليون دولار أميركي)، من إجمالي قيمة ثروته البالغة 7 مليارات، و122 مليون جنيه. ومن الجدير بالذكر أنه وفي وقت سابق، قضت عدد من المحاكم المصرية على حسين سالم بعقوبات تعدّى اجماليها السجن لأكثر من 50 سنة سجن، ألغت منهم محكمة النقض 15 عاماً وبقي أكثر من 35 عاماً سجن في حق حسين سالم. كما حكم على نجله بأحكام تعدت مدة عقوبتها 17 عاماً وصدر في حق ابنته حكم 7 أعوام سجن[1].
في واقع الأمر، لم أتفاجأ كثيرا بخبر التصالحمع حسين سالم في مقابل هذه الأموال القليلة جداً بالمقارنة مع القضايا التي أدين فيها على النحو السابق بيانه، والقليلة أيضا في حال النظر إلى ما كان الرجل حصل عليه من تسهيلات جعلته يُلقّب بمالك شرم الشيخ، ومستثمرها الأوحد. فالمطلع والمتابعلكيفية إدارة الملف المتعلق بفساد رئيس الجمهورية الأسبق مبارك وزمرة أصحاب الأعمال المتحلقين حول لجنة سياسات الحزب الوطني قبل ثورة يناير، يجد أن غالبية الحكومات بعد الثورة قد عملت بجهد واستعدت جيداً من أجل الوصول لهذه اللحظة التي يضمن فيها براءة كل من ساهم في عمليات استثمار فاسدة ترتب عليها إهدار ثروات الوطن.فمنذ تنحية مبارك في فبراير/ شباط 2011، وفيضوء غياب البرلمان لمدة تجاوزت خمس سنوات، استغلّت السلطة التنفيذية استحوازها على سلطة التشريع لتمرير قوانين من شأنها الوصول إلى هذه الغاية. وقد سعت في هذا الإطار بشكل خاص إلى تحقيق هدفين:
– الأول، محاصرة الأجهزة الرقابية وتقويض عملها في الرقابة على الفساد،
– والثاني هو الإبقاء على التعاقدات التي أبرمتها حكومات الحزب الوطني قبل الثورة، في محاولة للحفاظ علي دوائر المصالح التي بنيت في وقت سابق للثورة وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير. وفي هذا المجال، أجرت تعديلات على ثلاثة تشريعات سارية واستحدثت قانوناً جديداً، وفقا للآتي:
o التعديل الاول على قانون ضمانات وحوافز الاستثمار[2]. وقد نجح هذا التعديل في الالتفاف على أحكام محكمة القضاء الاداري والمحكمة الإدارية العليا المتعلقة ببطلان تعاقدات الدولة مع بعض المستثمرين، حيث نص على تشكيل لجنة بقرار من رئيس مجلس الوزراء لتسوية المنازعات التي تنشأ عن العقود المبرمة بين المستثمرين والجهات التابعة للدولة. وقد حدّد التعديل مهمة اللجنة ببحث ما يُثار بشأنها من منازعات بين أطرافها تتعلق بالعقود المشار إليها وذلك من أجل تسويتها على نحو يضمن الحفاظ على المال العام ويحقق التوازن العقدي. ففي حال وصلت اللجنة مع الأطراف إلى تسوية ودية نهائية، تكون تلك التسوية واجبة النفاذ وملزمة بعد اعتمادها من مجلس الوزراء. وبالفعل، قامت هذه اللجنة بالتعامل مع الأحكام النهائية الصادرة من مجلس الدولة باعتبارها منازعات مثارة بين طرفي العقد وتم تسويتها من خلال إعادة هذه التعاقدات إلى نفس المستثمرين مرة أخرى بنفس العقود ودون تنفيذ ما جاء بمسودات أحكام القضاء الاداري والمحكمة الادارية العليا. أما الأمر الثاني المنجز في هذا التعديل، فهو حماية المستثمرين المتورطين في قضايا الفساد من المساءلة الجنائية، حيث تمّ التصالح مع كافة المستثمرين الذين قدمت ضدهم بلاغات متعلقة بالجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات (جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر). ولكن، ورغم ذلك، واجهتْ الحكومة إشكالية مفادها أن باب القضاء الإداري ما زال مفتوحاً للطعن على قرارات هذه اللجنة.
o التعديل الثاني طال قانون المناقصات والمزايدات[3] والذي صدر في سبتمبر 2013. وقد أغلق هذا التعديل الباب أمام أحد أهم الأسباب التي بنت عليها محكمة القضاء الإداري أحكامها في بطلان تعاقدات الدولة وهو عدم اتّباع الإجراءات القانونية التي نص عليها قانون المناقصات والمزايدات في شأن بيع العقارات والمنقولات والمشروعات والترخيص بالانتفاع أو باستغلال العقارات، وهي الطريقة التي كان يتبعها أعضاء لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل لضمان ترسية المشروعات الكبرى على مجموعة المصالح المشتركة المرتبطة به. ويُظهر تعديل قانون المناقصات والمزايدات الأخير حرص الحكومة على الحفاظ على نفس الآلية، واتّباع نفس خطوات حكومات ما قبل الثورة فقامت بتعديل القانون على نحو يسمح لبعض إدارات الدولة ولهيئاتها الخاصة، بإبرام تعاقداتها من دون الالتزام بقانون المناقصات والمزايدات. فجاء التعديل ليستثني كلّ هيئة او جهة إدارية ورد في قانون انشاءها نص خاص ينظم طرق التعاقد التي يجوز لها اتباعها. وبذلك، سمح هذا التعديل للعديد من هذه الهيئات بالتعاقد طبقا لقوانينها، وضمناً بالتعاقد المباشر من دون التقيد بقانون المناقصات والمزايدات،
o التعديل الثالث جاء في هيئة قانون جديد بخصوص تنظيم الطعن على تعاقدات الدولة[4]. وبموجب هذا القانون، تم تحصين التعاقدات التي تبرمها الدولة مع المستثمرين من الطعن عليها أمام القضاء الإداري. وجاء هذا القانون متمّما لما تمّ إنجازه في القانونين السابقين. فبعدما حقّقت الحكومة أهدافها بالتصالح مع المستثمرين في القضايا المتعلقة بجرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه، وعقد تسويات معهم بشأن الأحكام القضائية النهائية الصادرة من القضاء الإداري بفسخ العقود بين الحكومة وهؤلاء المستثمرين، وفتحت لنفسها المجال لإتمام التعاقدات الخاصة بها بشكل مباشر بعيداً عن قيود قانون المناقصات والمزايدات، لم يتبقَّ لها إلا إغلاق الباب أمام رقابة القضاء الإداري. وفي هذا السياق، أقرّ رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور القانون المذكور، بحجة وجوب معالجة أزمة ثقة المستثمرين في مدى الاستقرار والأمان المتوافر للمعاملات التي يقومون بها، لا سيما أن بعض هذه المعاملات التي أبرمتها الدولة كانت تعرضت للإبطال. وقد نص القانون على تعليق الطعن بإلغاء القرارات أو الإجراءات التي أبرمت عقود الدولة استناداً لها، وكذلك قرارات تخصيص العقارات من أطراف التعاقد دون غيرهم، وذلك ما لم يكن قد صدر حكم باتّ بإدانة طرفي التعاقد أو أحدهما في جريمة من جرائم المال العام.
o التعديل الرابع حصل في 2015 وقد اتصل بالبنية التشريعية الحاكمة لاختلاس المال العام والعدوان عليه. فقد تمّ تعديل قانون الإجراءات الجنائية بإضافة مادة جديدة[5] أجازت التصالح في كافة الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات المتعلقة بالإعتداء على المال العام، على أن يكون التصالح بموجب تسوية بمعرفة لجنة من الخبراء يصدر بتشكيلها قرار من رئيس مجلس الوزراء. ويعتبر اعتماد مجلس الوزراء لهذه التسوية توثيقا للمصالحة دون تحصيل أي رسوم. كما تعتبر هذه المصالحة بمثابة سند تنفيذي. ويترتب على هذه التسوية انقضاء الدعاوى الجنائية عن الواقعة محلّ التصالح بجميع أوصافها. وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبات المحكوم بها على المتهمين في الواقعة، إذا تم الصلح قبل أن تصبح هذه الأحكام نهائية. اما إذا كانت الاحكام نهائية فيقدم طلب للنائب العام والذي يعرضه على محكمة النقض لتفصل فيه خلال مدة أقصاها 25 يوم من تاريخ تقديم الطلب.
وبالنظر إلى التعديلات التي أدخلت مسبقا على قانون ضمانات وحوافز الإستثمار، نجد استحالة الحصول على حكم نهائي بات يدين أحد طرفي التعاقد في جرائم المال العام، وذلك لأن التعديل المشار إليه قد فتح الباب للتصالح في هذه الدعاوى وفي أي حالة تكون عليها الدعوى. وهو ما يعني عمليا استحالة الحصول على حكم قضائي نهائي ضد أحد طرفي العقد يتعلق بجريمة من جرائم الاعتداء على المال العام، وبالتالي استحالة تحريك الدعوى القضائية بإلغاء هذه التعاقدات أمام القضاء الإداري.
وتشير ملابسات إصدار القوانين الأربعة السابقة وتكاملها إلى أن السبب الحقيقي لإصدار هذه التشريعات ليس استعادة الثقة في الاستثمار المصري، ولكن الحفاظ على مجموعة من التعاقدات الفاسدة التي أبرمتها الحكومات المتعاقبة قبل الثورة وحرص حكومات ما بعد الثورة على الحفاظ على هذه التعاقدات. كما أنها هدفت إلى الحفاظ على نفس الأدوات التي استخدمتها حكومات ما قبل الثورة لإبرام تعاقداتها.
ولذلك لم تمثل قصة التصالح مع حسين سالم مفاجأة بالنسبة إلي، بل كنت أراها قريبة جداً. والأكثر خطورة من هذا التصالح هو السرية المضروبة على أطراف هذه اللجان الوزارية التي تعمل ليلا نهارا من أجل إبرام مزيد من المصالحات التي تضيع فرص تحقيق العدالة الانتقالية. ولم تطفُ تفاصيل التصالح مع حسين سالم على السطح إلا لتهيئة الرأي العام لعودة الرجل مرة أخرى إلى البلاد.
يمكنكم/ن الإطلاع أيضاً على: مكافحة الفساد في مصر (2): حبس هشام جنينة نموذجاً
[1] http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2016/08/160804_hussein_salem_profile
[2] تعديل بالإضافة على قانون ضمانات وحوافز الاستثمار بموجب المرسوم بقانون رقم 4 لسنة 2012 أصدره المجلس العسكري في يناير 2012.
[3] تعديل علق قانون المناقصات والمزايدات بموجب القرار بقانون رقم 82 لسنة 2013
[4] قانون تنظيم الطعن علي تعاقدات الدولة العقود رقم 32 لسنة 2014 الصدر في شهر ابريل
[5] القانون رقم 16 لسنة 2015 بتعديل بعض احكام قانون الإجراءات الجنائية