“
الجبهة الأولى تسقط
صباح اليوم العاشر للثورة
استيقظت على خبر محاولة القوى الأمنية فتح جسر الرينغ المقطوع من قبل الناشطين لعدة أيام على التوالي. سرعان ما وصلتني أيضاً رسالة صوتية من زميلتي تناشد الجميع “التوجه إلى الرينغ فوراً”. هرعت من منزلي في السوديكو نحو الرينغ لدعم السلميين بوجه القوى الأمنية. ما أن وصلت إلى الجسر حيث نقطة إقفال الطريق بجانب مبنى “touch” الجديد، انضميت إلى أصدقائي في المجموعة الصغيرة الجالسة أرضاً يهتفون “سلمية سلمية” بمواجهة عناصر مكافحة الشغب الذين فاق عددهم عدد الجالسين بنسبة عالية لم نفهم السبب من ورائها. ويبدو أنني وصلت في الوقت المناسب لأنه وسرعان ما جلست حتى اقترب العناصر الأمنيون لـ”إزالتنا”، بينما كانت الجرافات تزيل جميع الحواجز التي استخدمت لتسكير الطريق، وحتى، وبحسب بعض الموجودين، الخيم التي يبيت الناشطون لياليهم فيها. حافظنا على وضعية الجلوس بعدما التصقنا ببعضنا البعض، وشبكنا الأيادي لنتحول إلى كتل إنسانية يصعب فكّها. بدأت قوى مكافحة الشغب خرق المجموعة وسحب كل فرد من كتلته بالقوة وسط صريخ البعض، وبكاء البعض الآخر المستاء من التعامل القاسي بوجه اعتصام سلمي. حدث كل هذا أمام عدسة ومراسلة إحدى القنوات التلقزيونية.
بعدها اقترب عناصر من “الكتلة” التي كنت جزءاً منها من محاولة للعثور على يدي من بين الأيادي المتشابكة، وفيما ظن أحدهم أنه أمسك بي حتى صرخ لزميله “انتبه هيدي إيدها للصبية”، وسط حرصهم على عدم المس بأي من الصبايا الموجودات. وهكذا توضح لنا أن الصبايا تتمتعن بنوع من الحصانة لعبت دوراً أساسياً لصالحنا مع تطور الأحداث لاحقاً.
وكما كان متوقعاً، وصل دوري، وتمكن عنصر من فك يدي عن أيادي الآخرين الذين لا أعرفهم لكنهم أصبحوا زملائي في هذا الوضع. لم اشعر سوى بقوة تسحبني من حقيبة ظهري صعوداً ً ولا تردني إلى الأرض إلا على الرصيف الموازي لنقطة الحدث، فيما كانت صديقتي تصرخ معارضةً المس بي. بعد تفكك الكتل البشرية، كتلنا المتلاحمة، وتمكن القوى الأمنية من حصرنا على الرصيف، وبعد أن فقدنا الأمل من إعادة تسكير خط الرينغ مع وجود هذا العدد الهائل من عناصر ومركبات القوى الأمنية، هدأت “جبهة” الرينغ بانتظار التقاط أنفاسنا للبدء من جديد.
أمل استمرارية الجبهة الثانية
من وسط بيروت، حيث كنت أتناول فطوري، رأيت وصديقي ثلة من عناصر قوى الأمن تتجمع تحت مبنى “البيضة”، ثم هرولوا صعوداً نحو طريق بشارة الخوري. قال أحد الجالسين في المقهى “شكلو صاير شي على الرينغ، بكونو ما عم يقدروا يفتحوه من هيدي الميلة”. تمسكنا بأمل الحفاظ على إقفال الجهة الأخرى من الرينغ، وأسرعنا إلى النقطة الثانية مقابل مبنى برج الغزال حيث كان المعتصمون جالسين على الأرض ليشكلوا مريعاً على مسلك الرينغ من جهة الصيفي، ومحاصرين ب”جدار” من عناصر مكافحة الشغب من ثلاث جهات، ومجموعة من الوافدين الواقفين على الجهة الرابعة. حرصت القوى الأمنية على ترك منفذ لمرور سيارة واحدة على المسلك، وعمد الحاضرون للإستمرار بالجلوس في المربع، والتأكد من وجود الصبايا على الأطراف الملاصقة لقوى الأمن، بينما وقفت صبية في وسط المربع تلوح بعلم لبناني كبير الحجم. عندما اقتربت للجلوس لمحت وجوهاً مألوفة، من الذين ألمح وجوههم في الساحات، إلى بعض النشطاء البارزين في المجتمع المدني إلى بعض الأصدقاء. بدأنا بمناشدة الواقفين من المدنيين على الأطراف إلى الإنضمام إلينا والجلوس في ساحتنا هاتفين “قعدوا معنا قعدو معنا”، ومع كل وفد ينضم بالجلوس نباشر بالتحرك (جالسين) نحو الجهة المفتوحة من الطريق لإقفالها وبكل هدوء، فيما نناشد القوى الأمنية بإعطائنا مساحة أكبر مع تزايد أعدادنا، فهذه كانت حيلتنا السلمية للتوسع وإغلاق الطريق كلياً. وبينما كنا نفاوض الأمن منحنا مساحة للتوسع عبر الميغافون، راح أحد الناشط يمازحهم صارخاً “يا وطن والله مش سايعين أجريّي بشرفك وسّعلنا شوي”. في هذه الأثناء التف عدد من الواقفين من وراء القوى ألأمنية ليجلسوا أرضاً مقفلين المسرب المفتوح نهائياً.
ومع توسع مربعنا والضغط الذي أنتجه هذا التوسع نحو صفوف القوى الأمنية، ومع بدأ جلوس الأفراد لتسكير المنفذ حدث إشكال بين بعض العناصر والمعتصمين السلميين. ومع وصول ثلة من عناصر قوى الأمن الإناث توقعنا تصدّي لاستراتجية حماية المجموعة من قبل النساء. وتحت ضغط هتافاتنا وصريخنا وتشغيل كاميرات التصوير وحضور الإعلام ، ليس فقط تمكنا من تفادي تفاقم التوتر، بل انتقلنا إلى الإحتفال بنجاح الخطة وتسكير المسلك كاملاً. “هيلا هيلا هيلا هيلا هو الطريق مسكر يا حلو”، هتاف تحول إلى ما يشبه الأغنية الملحنة.
“بدنا نرقص بدنا نغني وبدنا نسقط النظام”
من الصعب نقل الصورة الجميلة للجوّ المرح والحيوي الذي عشناه لمحاربة أي خوف أو توتر. لم يُستثن عناصر مكافحة الشغب من هذا الجو، حيث توجه الناشطون إليهم بالشعارات السلمية باستمرار خالقين تفاعل إنساني سلميّ معهم. توجهنا إليهم بشعارات وندائات مثل “قعدوا معنا قعدو معنا” و”يا جيشي خيّك معنا شلاح البدلة ولحقنا” بعد أن أكدنا لهم أننا ندافع عن حقوقهم أيضاً ونعارض أي تقشف يطال رواتبهم. كما أصرينا على رؤية البسمة على وجوههم هاتفين ومصرّين “اضحك اضحك يا وطن” و”فرجي سنّك يا وطن”، فأفلتت ابتسامات منهم برغم حرصهم على جدية ملامحهم. كما شهدنا البعض منهم يحاول (ويفشل) في السيطرة على نفسه ليمتنع عن الضحك وسط النكات الصادرة عنا. ولم يخل هذا التفاعل من المواقف المؤثرة حيث شهدنا تأثر أحد العناصر تجلّى بنزول دموعه بعد الإشكال الذي حصل، كما بدأ عنصر آخر بالبكاء بعد أن وقف أحد الجالسين وصرخ له “بعرفو لهيدا بعرفو! نحنا من نفس الضيعة وكنا بالمدرسة سوا”. وشيئاً فشيئاً وسط التفاعل السلمي تحول خطاب المجموعة من خطاب يفصل العناصر عنا إلى خطاب يشملهم، وكأننا أصبحنا جميعاً مجموعة واحدة على اتقاق تجلى بتعبير كـ”خلص مشي الحال يا شباب وصبايا صاروا معنا!”.
كثرت الشعارات والهتافات وكثر مطلقوها حيث لم يحتكر أحد الميغافون لا بل كنا نمرره إلى أي فرد يريد إلقاء كلمة أو إعلان أي ملاحظة أو إطلاق شعار. وكان الجو مرحاً من حيث تصفيق الأيادي الكثيف الذي لم نكتفي به لا بل بدأنا التفحص لنحاول أيجاد دربكة في المجموعة، ومع إطلاق هتاف “الشعب بدو دربكة”، حتى، وخلالبضعة دقائق، ومن مصدر لا يزال مجهولاً، لم نسمع إلّا صوت دربكة إضافة إلى أصوات آلات موسيقية أخرى بدأت ترافق هتافاتنا. وتعددت الشعارات من تحيات للنساء اللواتي يحمين الثورة ويشكلن العنصر الأساسي فيها، إلى المطالبة بإسقاط النظام واستقالة الحكومة، إلى الإصرار على البقاء في الشوارع.
ومن الملفت مشاركة وجوه جديدة في إطلاق الشعارات، لا سيما سيدة خمسينية تحمست وسط جوّ الحماس واقتربت من الميغافون خجولة بداية، ثم أطلقت شعار “مقطوعة مقطوعة والميّ مقطوعة”, وعندما وجدت الدعم من المجموعة عبر ترديد الشعار وراءها، أعادت الكرة ثانية مع ثقة أكبر. وأعدت إطلاق الشعار نفسه، وهذه المرة مع حماس أكبر حتّى أنها رافقته بحركات تمثيلية لتلقى دعماً أكبر من الجمهور. صارت السيدة تعود إلى الخلف، تفكّر بشعار جديد، ثم تعود لتطلقه ويردده الشبان والصبايا وراءها. كما لحظنا تفاعل بين الأفراد أبعد من ترديد الشعارات سوياً، فكان البعض “يصلّح” للآخرين كيفية شكل قبضة اليد أثناء إلقاء النشيد الوطني: “يا شباب وصبايا ما لازم تعملو هيك (مشيرين إلى رفع اليد مفتوحة) هيدي بتوحي لغير شي مبقى حدا يعملها بالعالم، لازم تسكرو قبضة اللأيد”.
“مين ممول الثورة؟.. أنا!”
خلال ساعات الجلوس، ومنذ وصولي، لم يتوقف توزيع الطعام والمياه علينا من قبل “حلفائنا” خارج المربع. من السندويشات إلى الكعك إلى المناقيش إلى الرز على دجاج إلى عصير الليمون إلى الحلويات، اندهشنا بكمية الطعام والمشروبات التي أُمّنت بمبادرات فردية من قبل أشخاص أرادوا دعم المجموعة وضمان نشاطها وسلامتها الغذائية. وتعبيراً لرفض نظرية المؤامرة التي قالت بتمويل الثورة من السفارات الأجنبية، عمد البعض إلى الاستهزاء بهذه الفرضية ، فلما بدأ توزيع البيتزا علينا صرخ أحدهم “شباب.. السفارة الإيطالية بعتتلنا بيتزا!” لتعلو ضحكاتنا . أما عندما أتت امرأة عجوز مع ركوة قهوة تركية توزعها علينا صرخ آخر “شباب السفارة التركية بعتتلنا قهوة!”، ثم أحلنا الرز على دجاج إلى السفارة الصينية. وأخذت إحدى الصبايا على عاتقها الوقوف كل عشرة دقائق لتسأل : “شباب مين ممول الثورة؟” وكلنا نردّ رافعين أيادينا “أنا!”، ثم تسأل من بعدها “شباب مين قائد الثورة؟” لنردّ عليها بالطريقة نفسها “أنا!”، مؤكدين بذلك أن لا قائد للثورة ولا مؤامرة، لا بل أن التمويل يأتي من أفراد مدفوعين بحسّهم بالتضامن والمساعدة. أما عندما وصلت سندويشات الطاووق مع توم صرخت صبية “يا شباب مين جاب سندويشات مع توم لنفطس من الريحة؟ هيدا أكيد مندسّ!” لتعلو ضحكاتنا مجدداً فيما قامت صبية أخرى بتوزيع العلكة على آكلي التوم رأفة بالمجموعة.
وهكذا تمكنّا عبر استراتجية سلمية عفوية، وبروح التضامن والجوّ المرح من تفادي أي توتّر مع القوى الأمنية من جهة، وتحقيق الهدف الأساس عبر تسكير طريق الرينغ من جهة أخرى. بعدها أفلح المتوافدون الجدد وسط الجوّ السلمي المرح نفسه، بتسكير المسلك الثاني من الطريق. وعلى الرغم من النتائج السياسية للثورة التي يمكن أن تتحقق أم لا، ألا يجب أن نعتبر أنفسنا منتصرين وسط تعزيز كل هذا التضامن والتقارب والوحدة؟
“