ناقش مجلس الوزراء المصرى في اجتماع عقده يوم 18 سبتمبر 2013 مشروع قانون قدمته وزارة العدل، بشأن تنظيم الحق في الاجتماعات والمواكب والتظاهرات السلمية في الأماكن العامة. هذا المشروع سبق أن أعدته وزارة العدل أثناء فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسى، وقدم إلى مجلس الشورى الذي كان يختص بالتشريع بصفة مؤقتة، لكن لم يتم إقراره بسبب المعارضة التى قوبل بها من الرأي العام ونشطاء حقوق الانسان، بمقولة أن الهدف منه كان مصادرة الحق في التظاهر السلمي وليس تنظيمه.
و قد أدخلت تعديلات على المشروع السابق، بهدف ضمان الحق فى تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب و التظاهر السلمى، بحسبانه من صور التعبير الجماعى عن الرأى، و هو الوسيلة الوحيدة فى يد الشعب المصرى لوقف أى قيود على إرادة الأمة، كما جاء فى المذكرة الايضاحية لمشروع القانون المقدم من وزارة العدل لمجلس الوزراء. و قبل أن نلقى نظرة فاحصة على مواد المشروع المقترح، نشير إلى الأساس الدستورى للحق فى التظاهر السلمى، وننظر فى مدى ملاءمة إصدار "قانون تنظيم حق التظاهر" فى غيبة البرلمان المنتخب من الشعب.
أولا: الأساس الدستورى لحق التظاهر :
كان دستور 2012 المعطل ينص فى المادة 50 منه على حق المواطنين فى تنظيم الاجتماعات العامة و المواكب و التظاهرات السلمية، غير حاملين سلاحا، و يكون ذلك بناء على إخطار ينظمه القانون. وتبنى الإعلان الدستوري النافذ حاليا الحكم ذاته في مادته العاشرة وبذات العبارات، وذلك بعد أن نص فى مادته السابعة على كفالة حرية الرأي والتعبير، والاعتراف بحق كل إنسان في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون.
وورد فى مشروع تعديل الدستور الذي أقرته لجنة الخبراء نص المادة 53، وهو يماثل نص المادة 50 من دستور 2012، الذي يقرر حق التظاهر السلمي وتنظيم الاجتماعات، وهو من الحقوق الدستورية التى لا يجوز للقانون تعديلها إلا بالتدعيم والزيادة وليس بالانتقاص. ولا يساورنى أدنى شك فى أن لجنة الخمسين التى تعد مشروع الدستور المصرى (المعدل أو الجديد) سوف تقر هذا الحق فى نصوص جازمة، فلا يتصور دستور مصرى للقرن الحادى والعشرين يتجاهل حق التظاهر السلمي.
ولا يجوز أن يكون حق التظاهر محل جدل من حيث ثبوته للمواطنين، و إن جاز النقاش فى ضوابط تنظيمه، التى لا يجوز أن تفضى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى حد مصادرة الحق ذاته، و هو ما أكدته المحكمة الدستورية العليا فى أحكام عديدة لها. وأساس حق التظاهر يكمن أيضا فى المواثيق الدولية التي صدقت عليها والتزمت بها مصر أمام المجتمع الدولي. فالإعلان العالمي لحقوق الانسان يقرر حق كل شخص فى التمتع بحرية الرأى والتعبير (م19)، وحقه فى حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية (م20). والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية كان أكثر تفصيلا فى هذا الشأن، حيث نصت المادة 21 منه على أن يكون الحق فى التجمع السلمي معترفا به، ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التى تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطى، لصيانة الأمن القومى أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم. النص الدولى الملزم للمشرع الوطنى يضع إذا ضوابط تنظيم حق التظاهر، و القيود التى يمكن أن ترد عليه تحقيقا للاغراض التى حددها. فهل التزم المشروع المقترح من وزارة العدل بهذه الضوابط ؟
ثانيا: ضوابط التنظيم المقترح لحق التظاهر:
حق التظاهر السلمى لم يكن محظورا صراحة من الناحية القانونية فى أى عصر من عصور التاريخ المصرى الحديث(1). ومن الناحية الواقعية مارس المصريون حق التظاهر منذ ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى وتجاوزات النظام الملكي، وبعد ثورة 1952 ضد استبداد الحكام فى العصر الجمهوري. وكان التظاهر السلمى هو سبيل الشعب المصرى لإنهاء نظام حكم استبدادى جثم على صدور المصريين قرابة الستين عاما. وبعد ثورة 25 يناير 2011 لم تتوقف التظاهرات المطالبة بتحقيق أهداف الثورة فى العيش الكريم والحرية والحياة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهى أهداف لم يتحقق منها شئ يذكر حتى تاريخه.
لكن المظاهرات منذ ثورة 25 يناير 2011 لم تلتزم دوما بالسلمية، ولم تتقيد بالضوابط المقررة لحق التظاهر فى المواثيق الدولية أو فى قوانين الدول الديمقرطية التى تنظم حق التظاهر وتضع له شروطا تراعى اعتبارات الأمن القومى وحقوق المواطنين. فمنذ ثورة 25 يناير 2011 لجأ بعض المواطنين إلى أسلوب المظاهرات والاعتصامات ، لمطالبات فئوية او لمطالب عامة تتعلق بتحقيق أهداف الثورة .واقترنت المظاهرات والاعتصامات باحتلال الميادين العامة وقطع الطرق وتعطيل وسائل المواصلات وتخريب أو إتلاف أو إحراق الأملاك العامة والخاصة ودور العبادة وأقسام الشرطة ،هذا فضلا عن قتل وإصابة أعدادا كبيرة من المواطنين ،وإلحاق الضرر بالاقتصاد الوطنى نتيجة هروب الاستثمارات الوطنية والأجنبية وشل قطاع السياحة .
وبعد ثورة 30 يونية 2013، زادت المظاهرات عددا وحدة ، فلا يكاد يمر يوم من دون مظاهرات تعطل حياة المواطنين ، حتى وصل عدد من المواطنين إلى حد مطالبة الدولة بمنع المظاهرات مطلقا أو فى الأقل بإصدار القانون الذى ينظم حق التظاهر السلمى،وهو لايمكن منعه حتى فى ظل حالة الطوارئ فى غير المواعيد المقررة لحظر التجوال . والحق أن التعبير عن الرأى عن طريق التظاهر ليس قرين الفوضى وعدم الانضباط وأعمال العنف . ومن هذا المنطلق كان التفكير فى إصدار قانون تنظيم حق التظاهر السلمى ، الذى نحدد ملامح مشروعه الاساسية فيما يلى :
أ- تأكيد الحق فى التظاهر السلمى : نصت المادة الأولى من المشروع على حق المواطنين فى تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية والانضمام إليها غير حاملين سلاحا .
ب- وجوب الإخطار الكتابى : أوجبت المادة السادسة من المشروع على من يريد تنظيم اجتماع عام أو موكب أو مظاهرة سلمية أن يخطر كتابة قسم أو مركز الشرطة الذى يقع بدائرته مكان الاجتماع العام أو مكان بدء سير الموكب أو المظاهرة، وذلك قبل البدء بأربع وعشرين ساعة على الأقل ،على أن يتضمن الإخطار مكان وخط سير التجمع، وميعاد بدايته ونهايته، وموضوعه والغرض منه ومطالبه " والمشاركون" فيه، وأسماء الأفراد أو الجهة المنظمة له . ولا تعليق على هذه البيانات والمعلومات ،فيما عدا بيان " المشاركون" فى الموكب أوالمظاهرة ، فهل المقصود بذلك هو بيان بأسمائهم عدا، وهو أمر ليس باليسير، أو المقصود هو بيان بهويتهم وانتمائهم ؟
ج- محظورات على المشاركين فى الاجتماع أو المظاهرة :1- يحظر الاجتماع العام أو تسيير الموكب أو المظاهرة فى أماكن العبادة. 2- حمل أى أسلحة أو ذخائر أو مفرقعات أو ألعاب نارية أو مواد حارقة. 3-ارتداء الاقنعة أو الأغطية التى تخفى ملامح الوجه (على سبيل المثال النقاب للسيدات و أقنعة أفراد البلاك بلوك). 4- الاعتصام أو المبيت فى مكان الاجتماع العام أو المظاهرة. 5-الإخلال بالأمن أو النظام العام أو تعطيل مصالح المواطنين أو إيذائهم أو تعريضهم للخطر أو الحيلولة دون ممارستهم لحقوقهم و أعمالهم. 6- قطع الطرق أو المواصلات أو النقل البرى أو المائى أو الجوى أو تعطيل حركة المرور. 7-الاعتداء على الأرواح والممتلكات العامة والخاصة أو تعريضها للخطر. وكنا نود أن يكون أول المحظورات الإعتداء على أرواح الناس أو تعريضها للخطر، فحياة الناس وسلامتهم أهم من كل ما تقدم من مصالح مادية. 8-يحظر تجاوز الحرم الآمن للمظاهرة الذي يحدده المحافظ بما لا يقل عن خمسين مترا ولا يزيد عن مائة متر أمام المقار الرئاسية ومقار المجالس التشريعية ومجلس الوزراء والوزارات والمحافظات والمحاكم والنيابات والمنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية الأجنبية وأقسام ومراكز الشرطة ومديريات الأمن والسجون والأجهزة والجهات الأمنية والرقابية والأماكن الأثرية. 9- يخطر الدخول لحرم المواقع المشار اليها لنصب منصات خطابة أو إذاعة بها أو خيام و ما شابهها بغرض الاعتصام أو المبيت بها.
د-التزامات وزير الداخلية : 1- يخطر وزير الداخلية الجهات المعنية بمطالب الراغبين فى التجمع التى أبلغوها لقسم أو مركز الشرطة، للتواصل الفورى معهم من أجل محاولة إيجاد حلول لتلك المطالب أو الاستجابة لها (م7)، و يفهم من ظاهر النص أنه لا يجوز البدء فى الاجتماع أو المظاهرة قبل رد الجهات المعنية على المطالب بالرفض أو القبول. 2-يشكل وزير الداخلية فى كل محافظة لجنة برئاسة مدير الأمن تختص بوضع ضوابط و ضمانات تأمين المظاهرة المخطر عنها و كيفية التعاطى معها فى حالة خروجها عن السلمية و تعريض الأرواح و الممتلكات للخطر (م8). 3- استصدار قرار من قاض الأمور الوقتية لإلغاء المظاهرة إذا توافرت لدى جهات الأمن أدلة و معلومات كافية بمخالفة المنظمين أو المشاركين للمحظورات الواردة فى المادة التاسعة.
ه-سلطات جهات الأمن إزاء المظاهرة :
1- اتخاد الاجراءات و التدابير اللازمة لتأمين المظاهرة و الحفاظ على الأنفس و الممتلكات بما لا يعوق الغرض منها.
2- فض الاجتماع أو تفريق المظاهرة إذا خرجت عن الطابع السلمى أو ارتكب أحد المشاركين جريمة يعاقب عليها القانون مع القبض عليه.
3- لمدير الأمن أن يطلب من قاض الأمور الوقتية ندب من يراه لإثبات الحالة غير السلمية للاجتماع أو المظاهرة، و لا يظهر من النص هل يكون ذلك قبل أو بعد فض الاجتماع أو تفريق المظاهرة ؟
و- ضمانات حماية المتظاهرين عند فض المظاهرة :
1- توجيه إنذارات شفهية إلى المشاركين بالفض و الانصراف.
2- استخدام المياه المندفعة.
3-استخدام الغازات المسيلة للدموع.
4-استخدام الهراوات.
5-لا يجوز لقوات الأمن استخدام القوة الزائدة عما تقدم إلا فى حالات الدفاع الشرعى عن النفس أو المال المقررة قانونا.
ز- العقوبات المقررة فى حالة مخالفة تنظيم حق التظاهر :
1- يعاقب بالسجن و الغرامة على جناية عرض أو الحصول على مبالغ نقدية أو منفعة لتنظيم اجتماعات عامة أو مظاهرات القصد منها الاخلال بالأمن أو الاعتداء على الأرواح و الأموال أو التوسط فى ذلك. و يعاقب المحرض و لو لم تقع الجريمة.
2- يعاقب بالحبس و الغرامة أو باحداهما على جنحة مخالفة المحظورات الواردة فى القانون.
3-يعاقب بالغرامة كل من نظم مظاهرة دون إخطار.
ثالثا:مدى ملاءمة إصدار القانون خلال المرحلة الانتقالية :
أكدت المذكرة الايضاحية لمشروع القانون أن الهدف منه ليس حظر حق التظاهر أو الحد من ممارسته، وإنما مجرد تنظيم هذا الحق تنظيما عادلا. و أشارت المذكرة إلى أنه فى ظل الظروف الراهنة تداخلت و اختلطت أهداف مضادة لمنهج الثورة السلمى، بهدف الاضرار بالمصالح العامة للشعب و البلاد، وهوما استوجب أن يتم تنظيم ذلك بالقانون.
جدير بالذكر أن مشروع قانون حق التظاهر كان قد أعده المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق، لكنه قوبل بمعارضة شديدة من جبهة الإنقاذ ومن نشطاء حقوق الإنسان، بمقولة أنه يستهدف تقييد حق التظاهر تمهيدا لمنعه كلية. لذلك لم يصدر القانون فى حينه انتظارا لانتخاب مجلس النواب.
ولا يخفى أن حق التعبير عن الرأى وما يتفرع عنه من حق الاجتماع والتظاهر السلمى من الحقوق المكفولة دستوريا، أو حسب تعبير البعض من الحقوق فوق الدستورية(2) . ينبنى على ذلك أن أى قانون يتصدى لتنظيم حق التظاهر أو حق التجمع، وبالضرورة يقيده بضوابط محددة، هومن القوانين المكملة للدستور ، التى لايجوز إصدارها إلا من البرلمان المنتخب من الشعب. لذلك قد يكون من الأفضل عدم التعجل فى إصدار هذا القانون خلال المرحلة الإنتقالية التى تعيشها مصر حتى إقرار الدستور وانتخاب مجلس النواب ورئيس الجمهورية، أى الا نتظار حتى تكتمل المؤسسات الدستورية للدولة . وهذا مانأمله ونتمنى أن يقتنع المسؤولون بملاءمة التريث قبل إقرار قانون حق التظاهر ، وهو ينطوى على قدر كبير من القيود قد تصل عند التطبيق إلى درجة تجميد حق التظاهر ذاته ، وهو ماتراه المحكمة الدستورية العليا محظورا.
خلاصة ماتقدم أننا لانعارض إصدار قانون ينظم الاجتماعات العامة والمواكب والمظاهرات السلمية من حيث المبدأ، لكننا نتحفظ على توقيت إصداره فى غيبة برلمان منتخب يمثل الشعب المصرى تمثيلا حقيقيا ، فهذا البرلمان المنتخب هو الذى يستطيع دون غيره أن ينظم حق التظاهر ويقيده بالتدابير الضرورية لحماية الأمن القومى والنظام العام وحقوق المواطنين وحرياتهم .
(1) فلم ينص القانون رقم 10 لسنة 1914 بشأن التجمهر ، ولا القانون رقم 14 لسنة 1923 بشأن تنظيم الاجتماعات العامة والمظاهرات على إلغاء حق المواطنين فى عقد الاجتماعات العامة أو التظاهر .
(2) منة عمر ،حكم المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الطوارئ : اضطراب فى الاجتهاد أم توجه ضمنى نحو تكريس الحقوق فوق الدستورية، مجلة المفكرة القانونية ،العدد الحادى عشر ،سبتمبر 2013،ص 23.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.