بطلب من النيابة العسكرية، مثلت بتاريخ 28-06-2021 المدونة التونسية أمينة منصور أمام فرقة أمنية لتستنطق من أجل “الإساءة لرئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة” في تدوينة نشرتها. ذات الإجراءات تواجه عددا ممّن عُرفوا بنشاطهم في شبكات التواصل الاجتماعي أمام هيئات قضائية عسكرية. كما يُذكر أنّ المحكمة العسكرية أصدرت بتاريخ 17-06-2021 حكماً يقضي بالسجن النافذ في حق شخص آخر لمجرد نشره لصورة مركبة فيها سعيد يصلي في المطار.
يؤكّد تسارُع وتيرة المحاكمات العسكرية بأنّ مقاضاة منتقدي الرئيس أمام المحاكم العسكرية اختيار رئاسي، وهو أمر يتعيّن التنبّه له لما فيه من مسّ بحرية التعبير وبقيم الجمهورية التونسية ولكونه قبل ذلك كان نتيجة توسّع في تصوّر اختصاص القضاء العسكري ورد على خلفيّة موقف غاضب من القضاء العدلي.
الرئيس الغاضب من القضاء العدلي
بتاريخ 11-06-2021، وفي لقاء جمعه بوزيرة العدل بالنيابة حسنة بن سليمان ورئيس الحكومة هشام المشيشي، تحدث سعيد بغضب عن النيابة العمومية التي اتهمها بالتقصير في ملاحقة من يستعملون وسائل التواصل الاجتماعي للتجرؤ على رئيس الدولة قائلا أن الدولة يجب أن تعود لمؤسساتها وللقانون والوضع خطير وأنه لن يترك أحدا يضرب مؤسسات الدولة. وقد يؤول هنا الربط بين موقفه هذا من القضاء العدلي وبين ما سُجّل من حماسة في جانب النيابة العامة العسكرية في ملاحقة منتقديه إلى القول بأن عسكرة ملاحقات منتقدي الرئيس خيار رسمي مصدره مؤسسة الرئاسة لم يكن القانون يجيزه لولا تأويل خاص لنصّه.
محاكم العسكر تتصدى لمنتقدي الرئيس: إرضاء القائد الأعلى واجب
وفق منطوق الدستور التونسي، تصنّف المحاكم العسكرية في خانة المحاكم المتخصصة التي تنظر في الجرائم العسكرية دون سواها. ولكن تلك المحاكم وبحكم ذات الدستور وفي انتظار إصلاح نظامها القانوني لا زالت فعليا محاكم باختصاصات موسعة. فهي تختصّ بنظر الجرائم العسكرية وجرائم الحق العام التي ينسب فيها الاتهام لعسكريين علاوة على الجرائم التي يكون المتضررون فيها عسكريين وتمت على خلفيات عملهم أو بمناسبته. ورغم أهميّة مرجع نظرها الحكمي، إلا أنّها لا تمكّن فعليا من محاكمة منتقدي الرئيس من المدنيين أمامها لكون رئيس الجمهورية ليس عسكريا وأن انتقاده ليس جريمة عسكرية. وعليه، يكون تعهّد القضاء العسكري بالبحث والمحاكمة كان نتيجة تأويل للقانون وجب توضيحه توصلا لبيان مخاطر اعتماده.
عسكرة الرئاسة انتقاما من منتقديها
يسند الفصل 77 من الدستور لرئيس الجمهورية مسؤولية “قيادة القوات المسلحة”. ويبدو أن صلاحيته تلك كانت ما اعتمد عليه ليطلب من محاكم العسكر ملاحقة منتقديه والتي قبلت ذلك بدعوى أن انتقاد القائد الأعلى يمس بمصالح الجيش وأن المسّ بتلك المصالح جريمة عسكرية. ويلاحظ هنا كيف احتاج توظيف المحاكم العسكرية في الملاحقات المذكورة لتأويل النصوص الإجرائية الجزائية في اتجاه يوسع قواعد الاختصاص بما يتنافى مع قواعد التأويل والتي لا تجيز ذلك. كما يلاحظ وهذا الأهم أن ما انتهى إليه هذا الاختيار يمس من ثوابت الدولة التونسية بعسكرة مؤسساتها علاوة على ما فيه من توظيف للقضاء في الاعتداء على حرية التعبير.
فعل خطير يمس من ثوابت دولة الاستقلال
طيلة حقبة دولة الاستقلال ورغم ما كان من انحرافات في احترام قيم دولة المؤسسات، نجحت تونس في بناء عقيدة عسكرية ترفض حكم العسكر وتقر بضرورة خضوع القرار العسكري للقيادة المدنية وما تقرره من سياسات علاوة على رفضها مشاركة القوة المسلحة في العمل السياسي. وقد جسّد في هذا السياق إسناد رئيس الجمهورية صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة خضوع القرار العسكري للسلطة المدنية. وهنا يكون ما ذهب اليه الرئيس سعيد ومن خلفه النيابة العسكرية مخالفا لهذا البعد الرمزي والفعلي واعتداء على ثوابت الدولة يتعين التنبه له كما التنبه لخطورة تواتر الملاحقات التي تطال منتقدي الرئيس.
حرية التعبير وحق انتقاد الرئيس مكسب مهدد
رغم ما كان يوجه له من انتقادات بعضها كان فيه مسّ من اعتباره الشخصي، كان الرئيس منصف المرزوقي يحرص على رفض التشكي الجزائي بمن ينتقدونه. وقد برّر ذلك بكونه لا يقبل المسّ بحرية التعبير وأن جميع مسؤولي الدولة عليهم القبول بالنقد. في مرحلة ثانية، التجأ الرئيس الباجي قايد السبسي للقضاء العدلي طلبا لتتبّع أحد منتقديه ولكنه قبل من ثمّ أحكام هذا القضاء ولم ينتقدها رغم أنها انتهت للقضاء بعدم سماع الدعوى في حق من اتهم في سابقة قضائية فريدة احتفيَ بها في حينها.
يبدو بالتالي سأم سعيد من تسامح النيابة العمومية مع منتقديه والتجاؤه للمحاكم العسكرية لفرض ما يريد من إخراس لهم تطورا سلبيا خطيرا في تمثل قيم الجمهورية الثانية فيما تعلق بحرية التعبير وارتداداً غير مسبوق عن مدنية دولة الاستقلال تتعين إدانته والتصدي له.