رغم الأزمة السياسية في ليبيا المستمرّة منذ سنة 2014 والتي أعقبها انقسام مؤسسي وازدواجية السلطتين التشريعية والتنفيذية، حاول القضاء قدر الإمكان أن يحيّد نفسه عن هذا الصراع العنيف. وعليه، استمرّ المجلس الأعلى للقضاء موحّدا يمارس صلاحياته على كامل تراب ليبيا. وكذلك استمرّ النائب العام على رأس جهاز النيابة العامة. وإذ أسهم تحييد القضاء على هذا الوجه في حفظ أحد مكوّنات الدولة الليبية، فإنه بات يمثل رمزاً للوحدة المفقودة وأملا باستعادتها. إلا إنّ استمرار الأزمة السياسية في ليبيا والفشل في إجراء العملية الانتخابية تبعا للفشل في الاتفاق على قوانين الانتخابات وعودة نظام الحكومتين في طرابلس (حكومة الوحدة الوطنية التي يعتبرها البرلمان محلولة) وبنغازي (تابعة للبرلمان)، كلها عوامل أثرت على استقرار المجلس الأعلى للقضاء حيث تعددت التشريعات الناظمة لعمله وتعدّدت الطعون الدستورية في هذه التشريعات، على نحو انعكس وينعكس سلبا على أدائه ويخشى أن ينتهي إلى المسّ بوحدته. هذا ما سنحاول إبرازه في هذا المقال الذي يتناول التطورات الأخيرة في مجال القضاء.
من طعن في الحركة القضائية الأخيرة إلى تعديل جذري في عضوية المجلس الأعلى للقضاء
بعد عواصف قضائيّة أمام الدائرة الدستوريّة بالمحكمة العليا الليبيّة التي عادت للعمل بعد توقف لعدّة سنوات، صدرت أحكام عدة ضد قرار المجلس الأعلى للقضاء رقم (125) لسنة 2023 بشأن الحركة القضائية السنوية، التي تعقب كل إجازة قضائيّة وتتناول كلّ ما تعلق بالترقيّات والتنقّلات بين الهيئات القضائية المختلفة، وفق نصّ المادة (45) من القانون رقم (6) لسنة 2006 بشأن نظام القضاء. وقد تمثّلت هذه الأحكام الصادرة بالصورة الاستعجالية بوقف تنفيذ المناقلات القضائية مؤقتا إلى حين الفصل في القضايا المرفوعة. وكان القضاة الطاعنون قد أسسوا طعنهم على أن مجلس القضاء الحالي غير ذي صفة لصدور حكم سابق من الدائرة الدستورية والذي ألغى الفقرة من القانون رقم 11 لسنة 2023 التي نشأ المجلس الحالي على أساسها.
في إثر ذلك، سارعتْ السلطة التشريعيّة ممثّلة في مجلس النواب الليبيّ بإصدار القانون رقم (32) لسنة 2023 بشأن تعديل بعض أحكام قانون نظام القضاء، بتاريخ 19 ديسمبر 2023، والذي عدّلت بموجبه بعض أحكام قانون نظام القضاء في اتجاه حصر عضوية المجلس برؤساء الإدارات (القضايا، المحاماة العامة، القانون) وإدارة التفتيش القضائي في غير أحوال التعارض. وبنتيجة هذا التعديل، انتهتْ حقبة انتخاب أعضاء المجلس من قبل زملائهم العاملين في محاكم الاستئناف في المدن الليبية المختلفة. من جانب آخر، أكّدت التعديلات الأخيرة على تعيين رئاسة المجلس من مجلس النواب، مولية النائب العام مهمة نائب رئيس المجلس ورئيسه في حال قيام مانع لدى الأول. ولعل أحدث ما جاء به هذا التعديل هو تنظيم المناقلات القضائية وإرساء آلية لها مع فرض تعليلها ومنح المشمولين بها حق التظلّم من قرار نقلهم. هذا التدخل التشريعي، وهو الثامن الذي أحدث تغييراً جذرياً في تشكيل السلطة القضائية، لم يأتِ على هون وإنما على عجل وكأثر للعديد من التعديلات التي تعددت منذ نهاية سنة 2011.
تعدّد التعديلات التشريعية منذ 2011
لم يعرف النظام القضائي في ليبيا حتى العشرية الأخيرة انتخاب أعضاء في المجلس الأعلى للقضاء. وكان التعيين أو ما يسمّيه الفقه بالعضويّة الاستحقاقيّة والتي تكون بسبب المنصب القضائي هي الطريقة الوحيدة لدخول المجلس. وإذ استبعد القانون رقم 4 لسنة 2011 بشأن نظام القضاء الصادر بتاريخ 16/11/2011 بعد التغيرات السياسية الكبرى وزير العدل عن رئاسة المجلس، فإنه استعاد العضوية الاستحقاقيّة من خلال حصر عضوية المجلس برؤساء محاكم الاستئناف السبعة. وكان القانون رقم 14 لسنة 2013 الخاص بتعديل قانون نظام القضاء، أول من أدخل فكرة الانتخابات حين أقرها كآلية لاكتساب العضوية داخل المجلس ولاختيار رئيسه. إلا أن المؤتمر الوطني العام عاد وأصدر تعديلا على هذا القانون بموجب القانون رقم 6 لسنة 2015 في اتجاه تولية رئيس المحكمة العليا رئاسة المجلس الأعلى للقضاء بعدما كان قانون 2013 ينص على تولية هذه الرئاسة بالانتخاب؛ وقد صدر هذا التعديل بعد صدور حكم الدائرة الدستورية للمحكمة العليا القاضي ببطلان انتخابات مجلس النواب، وفي وسط الأزمة السياسية وانقسام السلطة التشريعية غربا وشرقا. ورغم ذلك، استمرّ المجلس يمارس اختصاصاته عملا به من دون أية عقبات تذكر حتى صدر القانون رقم (11) لسنة 2021 بتاريخ 12 ديسمبر 2021، بإزاحة رئيس المحكمة العليا من سدة رئاسة مجلس القضاء وتوليتها لرئيس إدارة التفتيش على الهيئات القضائية. وعليه، أقصيت المحكمة العليا عن مجلس السلطة القضائية رئاسة وعضوية. ورغم الانتقادات الفقهية التي وجهت إلى هذا القانون لجهة عدم جواز جمع رئاسة التفتيش ورئاسة المجلس في الشخص نفسه (من أهمها تعليق د. الكوني عبودة)، ورغم خطابيْ رئيس مجلس النواب فوزى الطاهر النويرى المؤرخين في 19-12-2021 و21-12-2021 بوجوب عدم تنفيذ القانون (11) لعدم وجود أي مرجعية أو سند قانونى لصدوره فى جميع جلسات المجلس، تمّ تنفيذ القانون على أرض الواقع في كامل مفاعيله.
كما تزامن التعديل مع تغيير رئاسة المحكمة العليا والتي بادرت إلى تفعيل عمل الدائرة الدستورية فيها. وعليه، وإذ تلقّت طعناً في تعديل قانون نظام القضاء رقم (11) الذي أخرجها من سلطة رئاسة المجلس، فصلت فيه بقرار قضى بعدم دستوريته على نحو كان يفترض أن يخوّلها استعادة رئاسة المجلس. إلا أن مجلس النواب الليبي استبق تنفيذ الحكم بتعديل تشريعي جديد أزاح بموجبه رئيس إدارة التفتيش القضائي من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ليحلّ محلّه مستشاراً في إحدى محاكم الإستئناف يعين تعييناً من السلطة التشريعية، وذلك بموجب القانون رقم (22) لسنة 2023 الصادر بتاريخ 26 يوليو 2023، مبقياً على التشكيلة السابقة للمجلس والمتضمنه عضوية مستشار عن كل محكمة استئناف.
الحركة القضائية تجدد الصراع
تلك التدخلات التشريعية والطعون الدستورية المتتالية أثارت امتعاض أعضاء الهيئات القضائية الذين ذهب بعضهم إلى تنظيم وقفات احتجاجية أمام مقارّ محاكمهم دعما للمجلس، وعمليا اعتراضا على قرار الدائرة الدستورية، وهو الأمر الذي اعتبره البعض سابقة خطيرة (د. طارق الجملي). ومن جهة أخرى، ندّدت أصوات عدّة بتدخّل مجلس النواب وسيطرته على السلطة القضائية من خلال آلية التشريع والتفافه على القرار المذكور، وقد تكلّل هذا الاعتراض في تقديم طعن جديد في القانون الجديد رقم 22. وقد برز مشهد الاحتجاجات القضائية المتناقضة في الفضاء العامّ ليصبح جزءا من المشهد العامّ.
وما أن أصدر المجلس الأعلى قراره بإجراء الحركة القضائية السنوية –المشار إليه في مقدمة هذا المقال- حتى تمّ تقديم سيل من الدعاوى الإدارية أمام المحكمة العليا مجدّداً، على خلفيّة عدم قانونيّة تشكيل المجلس الذي لم تعاد عملية انتخاب اعضائه عقب صدور التعديل السابع ولم يجدّد أعضاؤه حلف اليمين القانونية. ومن تلك الطعون، الطعن الإداري (41) لسنة 71، الذي قُضي فيه بوقف نفاذ قرار المجلس الأعلى للقضاء. وقد ترتّب على هذا القرار تخبّط كبير في كيفية وقف التنفيذ والمفهوم الفقهي لوقفه وأثره على الطاعنين وعلى الغير، وهو تخبّط ترافق مع شرخ واسع بين الهيئات القضائية. وعليه، أضحت مصالح المتقاضين محل خطر وتشكيك في صفة القضاة المنقولين بموجب القرار الأخير لسلطة الحكم وانعكس ذلك على عقد المحاكم لجمعياتها العمومية، فانعقد اجتماع بعضها فيما تأجل انعقاد جمعيات أخرى بانتظار بتّ الطعون التي ستصدر في ولاية القضاة الجدد والمنقولين.
في إثر ذلك وقبل أن تنفذ أحكام المحكمة العليا بدائرتها الإدارية بوقف نفاذ قرار الحركة القضائية، التأم مجلس النواب مجددا ليقرّ التعديل الثامن لقانون نظام القضاء بموجب القانون رقم (32) لسنة 2023. وقد انتهى التعديل هذه المرة إلى تقليص تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء وإنهاء عملية الانتخاب، رغم ما أخذ عليه من تكريس للتبعية للسلطة التشريعية واستبعاد غير مبرّر للمحكمة العليا التي تعتبر هرم القضاء الليبي، وغياب ممثلين عن القضاة. ويلحظ أن التشكيلة الجديدة والمشار إليها في الفقرة الأولى من هذا المقال، خالفت معظم القوانين المقارنة المنظمة لتشكيل مجالس القضاء، كمصر وتونس والأردن والعراق على سبيل المثال.
المحكمة الدستورية والدائرة الدستورية
هذا الصراع وتعدّد الطعون الدستورية وكثرة التعديلات التشريعية أضرّت ليس فقط في استقرار عمل المجلس الأعلى للقضاء ولكن في الآن نفسه بحيادية القضاء بالنسبة إلى الانقسام السياسي وبصورته كرمز لوحدة الدولة ومؤسساتها، هذا فضلا عن أنه بات جليّا أن تعديلات قانون نظام القضاء باتت تحصل على وقع المصلحة السياسية بمعزل عن معايير استقلالية القضاء التي تكاد تضمحلّ تماما في مجمل الأعمال التشريعية. ولفهم هذه التطوّرات، لا بدّ من التذكير بواقعة ترشّح رئيس المجلس الأعلى للقضاء السابق محمد الحافي وهو رئيس المحكمة العليا لرئاسة المجلس الرئاسي الليبي وتشكيل قائمة سياسية تتضمن نائبين ورئيس حكومة، وهي واقعة قد تكون أثّرت على حيادية السلطة القضائية وأثارت حفيظة العديد من الأطراف السياسيّة الأخرى. وقد جاء إعلان المحكمة العليا عن تفعيل عمل الدائرة الدستورية برئاستها الجديدة بعد طول توقف ليزيد من تحفظات مجلس النواب، طالما أن من شأن ذلك أن يخضع التشريعات الصادرة عنه ومنها التشريعات المتعلقة بالانتخابات والمسائل الجدلية فيها مثل شروط الترشح وازدواجية الجنسية وترشح العسكريين للرقابة الدستورية. يرجح أن تكون هذه الأسباب التي دفعتْ مجلس النواب للتصدّي لقرار الدائرة الدستورية بإبطال بعض مواد القانون رقم 11 لسنة 2021 والذي من شأنه إعادة رئاسة المجلس الأعلى للقضاء إلى رئاسة المحكمة العليا، وذلك من خلال إصدار قانون جديد يعين فيه مجلس النواب رئيس هذا المجلس ويلغي فيه مبدأ انتخاب أعضاء المجلس بشكل كامل.
كما يشار فضلا عن ذلك، إلى واقعة أخرى يعتقد أنها شكلت القشة التي قسمت ظهر البعير، وهي صدور القانون رقم 5-2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية مع سلب أختصاص الدائرة الدستورية لدى المحكمة العليا، وهو القانون الذي سارعت هذه الدائرة إلى إبطاله بناء على طعن قدمه رئيس مجلس الدولة (طعن د. 5-70 بتاريخ 31-5-2023).
خاتمة
عقد المجلس الأعلى للقضاء الجديد اجتماعاته وفقا لاحكام القانون رقم 32 لسنة 2023 بتشكيلته الجديدة التي اقتصرت على الرئيس من مستشاري محاكم الاستئناف والنائب العام ورؤساء الهيئات القضائية (القضايا، المحاماة العامة، القانون) وإدارة التفتيش القضائي. وإذ أصدر مناقلات قضائية جديدة، يستبعد أن يؤدي ذلك إلى انتهاء الأزمة: فمن جهة، ما زال هناك طعون دستورية جديدة لم يتمّ الفصل فيها، ومنها الطعن في القانون رقم 32 نفسه. ومن جهة أخرى، ما زال مجلس النواب يتهيأ للتصدي لأي قرارات دستورية قد تبطل هذا القانون من خلال استصدار قوانين جديدة تفرغها من محتواها، بما يبقي القضاء الليبي في دوامة لا تنتهي بين تشريعات جديدة وطعون دستورية. يؤمل أخيرا أن يعي الأطراف حساسية المرحلة وهشاشتها التي تمرّ بها البلاد وأهمية الابتعاد عن زجّ السلطة القضائية في أتون الصراع السياسي المستمرّ.
تعديلات على القانون رقم 6 لسنة 2006 بشأن نظام القضاء بدءا من 2011:
– قانون رقم 4 لسنة 2011 في تاريخ 16/11/2011.
– قانون رقم 42 لسنة 2012 في تاريخ:16/5/2012.
– قانون رقم 58 لسنة 2012 في تاريخ 18/7/2012.
– قانون رقم 14 لسنة 2013 في تاريخ 27/5/2013.
– قانون رقم 6 لسنة 2015 في تاريخ 14/4/2015.
– قانون رقم 11 لسنة 2021 في تاريخ 12/12/2021.
– قانون رقم 22 لسنة 2023 في تاريخ 26/7/2023.
– قانون رقم (32) لسنة 2023 في تاريخ 19 ديسمبر 2023.