هنا تنشر المفكرة القانونية بعض مقتطفات الدراسة التي أعدتها في محاولة لتقييم أعمال المجلس النيابي في 2012، وهذه المقتطفات مأخوذة من القسم الثاني المتصل بتقييم اهتمامات المشرع وأهدافه. وكانت الدراسة قد بينت في فصل أول أن مجموع المواد التنظيمية التي أنجزها مجلس النواب، على تفاوت أهميتها، قد بلغت (609 مادة) أي ما يعادل 4.7 مادة لكل نائب. واذا حسمنا منها مواد قانون السير (وعددها 420 غالبها يشكل استعادة واضحة لمواد واردة في القوانين السابقة)، يهبط هذا المعدل الى مادة ونصف لكل نائب, وهو المعدّل نفسه الذي توصلت إليه دراسة عن قوانين 2005-2006[1] وأيضا المفكرة القانونية في 2011[2].
عند الإمعان في القوانين الـ42 والمناقشات النيابية الدائرة خلال الجلسات التشريعية الخمس (22-23 شباط/فبراير، 15-21 اذار/مارس، 2 تموز/يوليو)، يظهر بوضوح أن اعتبارات “النظام السياسي” بدت غالبة بل مهيمنة على اعتبارات الدولة. والمقصود باعتبارات النظام، الاعتبارات التي يقوم عليها النظام من محاصصة بين زعماء الطوائف وزبائنية داخل الادارات العامة، فيما أن المقصود باعتبارات الدولة هو تغليب المصالح العامة ضمن مبادئ المساواة والمواطنة. فمثلا، تقود اعتبارات النظام المشرّع الى ايلاء الاهتمام بآليات تعزيز فرص المحاصصة بين الزعماء والطوائف والمناطق وضمان نفاذها وإضعاف أجهزة الرقابة وتعزيز الاستنسابية، فيما تقوده اعتبارات الدولة على العكس من ذلك تماما الى التفكير بتنمية شاملة وتقوية القضاء وأجهزة الرقابة وإرساء تنظيمات أكثر ملاءمة للحياة اليومية والتعامل بين الناس إعطاء المواطنين حقوقا مكتسبة بهدف تمكينهم من المشاركة في الحياة العامة على قدم مساواة. وبالطبع، ليس مستبعدا أن تكون خلفية بعض القوانين هي اعتبارات الدولة وأن تدعمها قوى سياسية معينة لسبب أو لآخر، فتتدخل قوى سياسية أخرى لتصحيح هذه القوانين على نحو يحول دون تعارضها مع مصالح النظام.
وهذا ما سنحاول تبيانه من خلال تفصيل القوانين المنجزة، مع إبداء عدد من الملاحظات السريعة بشأن الوثائق الأخرى التي أشرنا اليها كمشاريع القوانين التي ردت في اللجان أو في مجلس النواب، أو بقيت عالقة في أدراج قلم المجلس أو أدراج لجانه، أو في المعبر بين اللجان والهيئة العامة. اعتبارات النظام حين تهيمن على المشهد العام
يشكل عدد القوانين وتصنيفها بحد ذاته دليلا على هذا الأمر: فالتشريع ولا سيما التشريع في مسائل تنظيمية يبقى في حده الأدنى (12 قانونا من أصل 42). بالمقابل، تحظى التشريعات بالحقوق المالية للموظفين (وعلى رأسهم العسكر) وبتعيينهم وترقيتهم الى جانب التشريعات الآيلة الى تمويل أجهزة الدولة حيزا كبيرا من السياسة التشريعية، وكأنما هذه الأجهزة تهتم بخدمة نفسها أكثر مما تهتم بخدمة المواطنين.
والأهم من ذلك هو أن جردة القوانين أظهرت هذه السنة كما في السنوات السابقة أن بعضها (4 هذه السنة) يؤول الى تعطيل قوانين سابقة أو الى تعليق العمل بها، مما يؤشر الى تعميم الشعور بأن القوانين ليست أبدا نهائية وأنه يمكن تعطيلها أو تعليق العمل بها بعد حين بقانون عفو عام أو ما شابهه. فكأنما المشرّع يشجّع الناس “على عدم الالتزام بكل ما تلزم به الدولة” وذلك من خلال قوانين تهدف إلى مسايرة المواطنين وإعطائهم خدمات آنية وغير قانونية كتخفيض الغرامات أو تقسيطها. وبالطبع، فإن ذلك مخالف لمنطق الدولة بحيث يبدو القانون وكأنه يميز ضد الذين يلتزمون به.
ومن أهم المؤشرات التي تؤكد اعتبارات النظام، الآتية: المحاصصة كمبدأ عام يتجاوز القانون ويفسر الدستور على أساسه:
يتضح ذلك جليا من خلال المناقشات النيابية حيث لا يخفي أعضاء المجلس دفاعهم عن حقوق مناطقهم وطوائفهم. وقد تجلّت المحاصصة في المناقشات بشكل فج وواضح حين فشل المجلس النيابي في إقرار مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 6147 الخاص بتخصيص اعتماد قدره 8900 مليار ليرة لبنانية لتغطية الإنفاق لغاية 31-12-2011، وذلك على خلفية خروج الكتلة السنية الكبرى من المجلس، ليس لأن المشروع سيئ أو تضمن أرقاما مشكوكا بنجاعتها أو ملاءمتها، انما احتجاجا على “الشد بالماضي” الذي اعتبروه “انعكاسا على السلم الاهلي وصورة لبنان المالية والنقدية”. فهذا القانونيتعلق بإجازة الحكومة “الموالية” أي حكومة 8 آذار بإنفاق مبالغ زيادة عما تجيزه القاعدة الإثني عشرية وهي القاعدة المطبقة في غياب قانون موازنة؛ وقد سعى رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة الى استغلال هذا الأمر لتوسيع مجال هذا القانون بحيث يغطي أيضا ما كانت حكومتا السنيورة والحريري قد أنفقتاه من خارج القاعدة الإثني عشرية، وهو ما يقدر بقيمة 11 مليار ليرة لبنانية. وهكذا، وعملا بمنطق المحاصصة، لا يهم إن كان مشروع القانون القاضي بزيادة الإنفاق مبررا أم لا. فهذا ليس بيت القصيد، إنما هو، حسب السنيورة، أن لا مجال لـ”تغطية إنفاق 8 آذار” إن لم يتم تغطية إنفاق حكومته! فـ”لا يمكن أن “نصيّف ونشتّي” على سطح واحد وكأننا نتهم هنا ولا نتهم هناك”، وسأل “هل تلك السرقة والإنفاق في آخر سنتين مال طاهر؟” واذ انسحب السنيورة ومعه كتلته احتجاجا، خاطب أحد النواب الرئيس بري قائلا: “انظر يا دولة الرئيس الى المقاعد الفارغة (والمقصود تحديدا مقاعد النواب السُنّة) وانقذ البلد من المزيد من الانقسام”…
أما على صعيد المناطق، فقد برزت المحاصصة تحت غطاء الإنماء المتوازن في خضم مناقشة مشاريع قوانين أهمها مشروع القانون الآيل الى تمديد العمل بأحكام القانون رقم 246 المتعلق بتخصيص اعتمادات لتنفيذ بعض المشاريع وأعمال الاستملاك والتجهيز. فاذ نجح نواب طرابلس وعكار في إقناع المجلس بإضافة اعتماد 100 مليون دولار لأتوستراد الشمال في غضون دقائق ومن دون أي دراسة سابقة، دفع ذلك أحد نواب الجنوب بالقول “فليتعهد رئيس الحكومة بـ(إعطاء) 100 مليون دولار للجنوب”.
وتاليا، نسجل من خلال هذه الأمثلة بأن المحاصصة بدت أقوى من القانون، طالما أن لا بأس من مخالفة القانون شرط أن يستفيد الفرقاء من المخالفة بالدرجة نفسها. كما أن المحاصصة باتت مفهوما يتم تفسير المفاهيم الدستورية على أساسه: وهذا ما نقرأه بوضوح من خلال المنحى الذي أخذه مفهوم الإنماء المتوازن في الخطاب العام. فالإنماء المتوازن يعني المحاصصة بين المناطق والطوائف فيما تبقى المعايير الأخرى كحاجات هذه المناطق أو درجة التضامن فيما بينها غائبة تماما. وهكذا، يصبح منطقيا أن يسجل نائب ملاحظة بحفظ حق الجنوب بمائة مليون د.أ في موازاة منح الشمال مبلغا مماثلا. أما الحرص على مبدأ المساواة فينجلي فقط عند الحديث عن حقوق الطوائف أو بين أتباع الجهات السياسية المختلفة.
المكاسب للعسكر والوظيفة لمن ينجح في السياسة
كما تقدم، رشحت السنة التشريعية عن صدور عدد لا يستهان به من القوانين المتعلقة بشؤون الموظفين. وأول ما نسجله في هذا الصدد هو عدد القوانين الآيلة الى منح مكاسب معينة للمؤسسة العسكرية (5 أي ما يعادل ثمن القوانين)، وهو أمر يؤيد الخلاصة التي وصلت اليها المفكرة القانونية في 2011 ويكاد يصبح أيضا من الثوابت (حيث تم رصد 5 قوانين خاصة بالعسكر من أصل 68 قانونا)، وقد تجلى ذلك بوضوح كلي من خلال تعديل القانون المتعلق بتحويل سلاسل رواتب العسكر وتعديل أسس احتساب التقاعد وتعويض الصرف من الخدمة وقد وضع هذا التعديل لمنفعة 4 قيادات عسكرية هم قائد الجيش، والضباط الذين يتولون المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أو المديرية العامة للأمن العام أو المديرية العامة لأمن الدولة. كما نذكر القانون المتعلق بإعفاء القروض الإسكانية العائدة لعناصر في الأجهزة الأمنية والعسكرية من بعض الرسوم والضرائب. وقد أقر هذا القانون رغم اعتراض بعض النواب على هذا التمييز مطالبين بتعميم الإعفاء على جميع المواطنين.
أما بالنسبة للقوانين المتصلة بالوظيفة العامة، فقد شكلت مناسبة لافتة للتذكير بالسياسة العامة التي نشأت في ظل الحرب وتواصلت بعد انتهائها وقوامها تغليب مبدأ التعاقد الرضائي بمبادرة من “الزعامات” (ومعها المحاصصة) على مبدأ المباراة ومعها اعتبارات الكفاءة. وهنا، واذ أعلن بعض السياسيين تأييدهم الكامل لتثبيت المتعاقدين أو للمباراة المحصورة على اعتبار أنها تحفظ حقوقهم بالعمل مع الإدارات أو المؤسسات العامة منذ فترات طويلة، ذهب البعض الآخر الى عدها مخالفة لمبدأ المساواة أمام القانون.
لكن، يبدو واضحا من مراجعة المناقشات أنها أخذت طابعا براغماتيا: ففيما أن للنافذين الذين كان لهم ذراع في اختيار المتعاقدين مصلحة مبدئيا في تأييد المباراة المحصورة بمن تم التعاقد معهم، للنافذين الجدد مبدئيا مصلحة مختلفة طالما أن المباراة المحصورة تؤدي الى تثبيت مؤيدي أخصامهم في الإدارات العامة، فيما يبقى الباب مغلقا أمام مؤيديهم. وهذا ما أشار اليه النائب غسان مخيبر الذي استغرب قبول المباراة المحصورة في حالة (تثبيت المساعدين القضائيين) ورفضها في حالة أخرى (اجراء مباراة محصورة لملء المراكز الشاغرة في ملاك مصلحة استثمار مرفأ طرابلس)، متسائلا اذا كان كل ذلك يحصل في صالة واحدة[3]. وقد رأى البعض[4] أن اعتماد مبدأ المباراة المحصورة هو “رسالة إلى الموظفين مفادها أننا عبر المرجعيات نستطيع ان نوصل مشاريع قوانين تمكنهم من تخطي الأصول”. بالمقابل، دافع بعض نواب المنطقة عن هذا الحق، فاعتبر أحدهم (حرب): “طالما هناك مباراة ولو محصورة، حرام أن يأتي أحد من برّا ويأخذ المكان!”
وبالطبع، تجلى ذلك أيضا من خلال التناقض القائم حول تثبيت العمال المياومين وجباة الإكراه لدى مؤسسة كهرباء لبنان وضمهم إلى ملاك المؤسسة، الذي أدى إلى توقف الجلسات التشريعية وبالتالي عدم البت بالقوانين المتبقية على جدول أعمال جلستي الثاني والثالث من تموز/يوليو. وقد أيدت اقتراح القانون الذي يقضي بإجراء امتحانات تحت إشراف مجلس الخدمة المدنية بحيث يصار إلى تثبيت من ينجح من المتقدمين الكتل التي كان لها باع في التعيينات سابقا، فيما عارضتها الكتل الأخرى ولا سيما كتلة التغيير والاصلاح. ونتيجة التصويت، أعلن رئيس مجلس النواب اقرار القانون، وسط معارضة شديدة على طريقة احتساب الأصوات. واذ كاد هذا الاختصام يؤدي الى إسقاط الحكومة، أرجأ مكتب المجلس النيابي صياغة محضر الجلسة ليصيغه مجتزءا فيما بعد (دون ذكر قانون المياومين) وتم تبعا لذلك ارساله الى رئيس الجمهورية بعد أشهر عدة من اقرار القوانين المذكورة. كما ان الاختصام أدى الى رفع الجلسة مما عطل استكمال النظر في 11 مشروع واقتراح قانون آخر تم ادراجها في جدول أعمالها[5].
لا بل أن المجلس لم ير مانعا من اعمال التثبيت مباشرة من دون أي مباراة ولا حتى محصورة في حالات أخرى كما حصل معقانون المساعدين القضائيين الذين يقومون بمهام رئيس دائرة إدارية في ملاك المحاكم الشرعية السنية والجعفرية.
أما اقتراح القانون الأكثر دلالة على المحاصصة في الدولة فهو ذلك المتعلق بتثبيت كتاب العدل والذي ورد على جدول الهيئة العامة بإجماع الكتل عليه، إلا أنه لم يقر نتيجة تعطيل الجلسة تبعا للاختلاف الحاصل بشأن قانون المياومين كما سبق بيانه. وقد نص هذا المشروع على تثبيت المكلفين بالعمل ككتاب عدل لفترة لا تقل عن ثلاث سنوات منقطعة أو متواصلة، ككتاب عدل أصيلين، وذلك من دون المرور بأي مباراة. وهنا تبرز أولا المخالفة على صعيد المنهجية المتبعة واعتماد الصلاحيات التشريعية لتثبيت أشخاص في الادارة العامة وخصوصا في الوظيفة التي يفترض أن تكون أكثر الوظائف ايحاء بالثقة. لا بل سجل أن عددا من الأشخاص المستفيدين من هذا المشروع كانوا قد رسبوا بشكل كبير في مباريات كتاب العدل، مما يثبت ليس فقط غياب فحص الكفاءة، انما غياب الكفاءة نفسها. ولعل أسوأ ما ورد في الأسباب الموجبة لهذا المشروع تبرير للتعيين من دون مباراة فحواه أنه “بكل تأكيد يؤمن وفرا للخزينة على صعيد المصاريف التي تتكبدها في حال إجراء مباراة جديدة“.[6] اضعاف الرقابة القضائية: القضاء والمحاسبة تحت سقف السياسة
هنا، نلقى اعتبارات النظام واضحة من خلال قانونين، الأول يتصل بالمجلس الدستوري وهو واضح في توجهاته لجهة الحؤول دون قيام هذا المجلس بأي دور رقابي أساسي، فيما الثاني يتصل بديوان المحاسبة. ويلحظ أن القانونين تناولا مؤسستين يفترض أنهما تؤديان دورا رائدا في مراقبة المقررات العامة.
وكان النائب ميشال موسى قد تقدم باقتراح القانون الأول الآيل الى تعديل قانون انشاء المجلس الدستوري وتحديدا لجهة إلغاء الحكم بإنهاء ولاية خمسة من أعضاء المجلس بموجب القرعة. وكان قد تم تكريس هذا الحكم في قانون 2008[7]بهدف ضمان المداورة مستقبلا بحيث يصار الى تغيير نصف أعضاء المجلس كل ثلاث سنوات. فلا يكون أعضاء المجلس كلهم معينين في الفترة نفسها من قبل الغالبية نفسها، على نحو يشكل ضمانة اضافية وأساسية لاستقلالية المجلس. وقد برر موسى اقتراحه ضمن اسبابه الموجبة بأن “الديمقراطية ضعيفة لديناواستحقاقا لمجلس الدستوري يغيب في كل مرة”، وهو بذلك يلمّح الى التعطيل الذي أصاب المجلس الدستوري في فترة 2005-2008 بنتيجة تقاعس مجلس الوزراء ومجلس النواب عن تعيين بدائل، وبالتالي يخشى ألا يتم تعيين أعضاء جدد محل الأعضاء الذين كانوا سيخرجون لو تم اعمال القرعة على غرار ما حصل في 2005. وبذلك، بدا القانون وكأنه يلغي مبدأ المداورة في تعيين أعضائه ومعها احدى ضمانات الاستقلالية بحجة المحافظة على استمراريته. الا أن من يدقق في قانون 2008 يتيقن أن هذه الحجة غير صحيحة بحيث أن المادة 4 من هذا القانون التي وضعت تجنبا لتعطيل المجلس نصت صراحة على أن الأعضاء المنتهية ولايتهم لأي سبب يستمرون في ممارسة أعمالهم لحين تعيين بدائل عنهم. وهكذا، يكون الغاء القرعة قد آل عمليا الى الغاء المداورة وتاليا الى اضعاف استقلالية المجلس من دون أي مبرر، بل بموجب مبرر غير صحيح. كما تجدر الاشارة وفي الاتجاه نفسه الى أن إلغاء الغالبية النيابية القرعة يعني أولا أنها قد حصّنت أعضاء المجلس ازاء احتمال إنهاء ولايتهم بالقرعة، مما يشكل عمليا إكساب هؤلاء منفعة اضافية وبكلام آخر “رشوة”.
أما القانون الثاني فقد اقتصر على توسيع ملاك ديوان المحاسبة بحيث ارتفع عدد قضاة الديوان من 36 إلى 50 فيما ارتفع عدد مدققي الحسابات من 30 إلى 50. وقد تم تقديمه من قبل النائب ابراهيم كنعان ضمن إطار “تعزيز الشفافية” ومراقبة الموازنة، وبهدف الحد من الهدر والفساد فيها (ديوان المحاسبة). واللافت أنه تم تقديم هذا الاقتراح وعرضه على الهيئة العامة على الرغم من طلب الحكومة ارجاء البحث فيه ريثما تنتهي من صياغة مشروع قانون لإدخال اصلاحات شاملة على الديوان. وهكذا وسع المجلس ملاك الديوان (عديده) مع تهميش كامل لمطالب توسيع صلاحياته أو تدعيم استقلاليته. وقد بدا نواب حركة أمل الى جانب نواب كتلة التغيير والإصلاح الأكثر تحفزا واستعجالا لإقرار القانون فيما أتت معارضته من قبل كتلة المستقبل وبعض نواب 14 آذار. وبالتدقيق في المواقف، يظهر أن هذا القانون عبّر عن التقاء مصالح مؤيديه: فكتلة التغيير والإصلاح قدمت زيادة عديد المجلس وكأنه شرط لتنفيذ التزاماتها بشأن المحاسبة ومكافحة الفساد، أما كتلة حركة أمل فقد بدت وكأنها تعزز بذلك الموارد البشرية لمؤسسة خاضت معركة طويلة الأمد في فترة 2007-2008 لتضمن ترؤسها من قبل قاض مقرب منها هو القاضي عوني رمضان وفق أعراف المحاصصة. وبالطبع، مآل ذلك هو تعزيز دور هذه الحركة في السياسة اللبنانية من خلال ما لهذه المؤسسة من صلاحيات، ولا سيما في ظل مكانة الزعامات السنية في السلطة التنفيذية والمدن الكبرى. أما أن يصبح قضاة المجلس مستقلين، فهذا أمر ليس لأي من الكتل هاجس الدفاع عنه. وللتأكد من ذلك، يكفي مراجعة الصفحة الأولى من موقع ديوان المحاسبة حيث يظهر رئيس الديوان محاطا برموز السلطة وكأنه يفاخر ويصادق ويجامل الأشخاص الذين يفترض به أن يكون رقيبا على أدائهم.
وأخيرا، تجدر الإشارة الى أن النواب أكدوا على حرصهم على التوازن الطائفي في توزيع هذه المناصب خلال المناقشات، بما يناقض العرف المتبع منذ اتفاق الطائف في مجال القضاء ويأذن بإعادة الوظائف القضائية الى حظيرة “المحاصصة”، والذي يقضي بتعيين القضاة خارج القيد الطائفي، على اعتبار أنهم لا يحسبون من ضمن موظفي الفئة الأولى[8].
وهذا ما يسمح لنا بالانتقال الى درس مدى حضور اعتبارات الدولة في العمل التشريعي. ثانيا: أي مكان للدولة وللمواطن في القانون؟
نبحث هنا عن القوانين التي ظهر فيها البرلمان مظهر السلطة العامة، التي تتحرك ضمن مفهوم الدولة بما لها من اعتبارات. وهنا، أمكن اعطاء الأجوبة الآتية:
الأول، أن البرلمان بقي صامتا بشأن الحريات الخاصة والعامة، فقد خلت قوانينه تماما من أي بند بهذا الخصوص لسنة 2012. وهكذا، بقي مشروع القانون المتصل بالعنف ضد النساء أو بالعنف الأسري وكذلك اقتراح الأحوال الشخصية المدنية عالقين. كما بقي اقتراح قانون سامي الجميل بشأن تعديل المادة 15 من قانون الموظفين للسماح لهم بانشاء نقابات عالقا، وكذلك الأمر بخصوص اقتراح قانون النائب سيمون ابي رميا بشأن تخفيض سن الانتساب الى الجمعيات مع فتح باب المشاركة أمام الأطفال بشروط معينة. كما أن الاصلاحات التي كان يقتضي ادخالها على قانون العقوبات في مجال الحريات الخاصة أو العامة ظلت منسية تماما، علما أن العمل على تعديل هذا القانون قد بدأ منذ ما يزيد على عشر سنوات وعيّنت بخصوصه اللجنة تلو اللجنة مع ما يستتبع ذلك من كلفة على عاتق الدولة. فضلا عن ذلك، ورغم تعاظم انتقادات قانون الرقابة على الأعمال السينمائية وعلى المسرح، فإن النواب أغفلوا تماما ادخال أي تعديل في هذا الخصوص. كما أن اقتراح قانون تعديل قانون المطبوعات أو الاعلام ما زال في مخاض اللجان. كما أن أيا من النواب لم يتقدم بمشروع قانون لإلغاء الترخيص المسبق لتأسيس النقابات في القطاع الخاص رغم تجربة تأسيس نقابة سبينس وما آلت اليه من أعمال تسلطية من أرباب العمل بحق أجرائهم.
الثاني، أن البرلمان بقي صامتا بشأن الحقوق الأساسية على اختلافها. وهكذا، بقي اقتراح قانون المخفيين قسرا بما يستتبعه من اعتراف بحق المعرفة والذي قدمه النائب حكمت ديب عالقا لدى المجلس، أما ذوو المفقودين فقد منعوا من الاعتصام أمام المجلس النيابي في 13-4-2012 لتقديم مسودة مشروع قانونهم. بل أن لجنة حقوق الانسان قد دعت الجمعيات المعنية إلى جلسة في 2-11-2012 ليس لمناقشة مشروع قانون انما لمناقشة مشروع مرسوم مجرد من أي ضمانات لتكريس هذا الحق فعليا. كما أن المجلس النيابي لم يقدم أي جديد بشأن وضع حقوق المعوقين أو وضع حق المدمنين بالعلاج كبديل عن العقاب موضع تنفيذ، رغم ازدياد الأصوات المطالبة بإعماله.
ولكن، وهذا التساؤل الثالث، ماذا بشأن دور الدولة في تنظيم العلاقات بين الفئات المختلفة من المواطنين ولا سيما الفئات التي قد يكون بينها تضارب في المصالح؟ هنا، تجدر الإشارة بشكل خاص الى القانون الآيل الى إعطاء الحكومة صلاحية في تحديد بدل النقل. وقد أتى هذا القانون ليشرع الواقع المعمول به (والذي هو لصالح أرباب العمل) بشأن اقرار بدل نقل من قبل الحكومة بعدما عد مجلس شورى الدولة المراسيم بإقرار بدلات مماثلة باطلة لغياب أي تفويض تشريعي في هذا المجال. وما يعزز ذلك هو أن هذا الاقتراح أتى نتيجة دمج اقتراحي قانون قدمهما على التوالي النائبان ابراهيم كنعان ونبيل دو فريج بالاتفاق ما بينهما، علما أن الاتفاق آل صراحة الى تراجع كنعان عن إدخال بدل النقل في احتساب اشتراكات الضمان وتاليا في احتساب تعويض نهاية الخدمة. وقد جاءت استقالة الوزير شربل نحاس الذي كان يخوض معركته لهذه الغاية بمثابة تكليل رمزي لهذا العمل. بالمقابل، وان أنهت لجنة الإدارة والعدل درس قانون الإيجارات الذي تتجابه فيه مصالح المستأجرين بالمالكين القدامى، فان القانون ما يزال يراوح مكانه على نحو يؤشر الى عجز دائم عن ايجاد حل تصالحي مرض.
بالمقابل، وفيما غابتالدولة بشكل شبه كامل في الميادين سابقة الذكر، بدت حاضرة بالمقابل في عدد من القوانين الآيلة الى وضع قواعد تنظيمية للحياة الاجتماعية بشكل عام. ومن أبرز هذه القوانين على الاطلاق قانون السير، يليه قانون الآداب الطبية وقانون السنة السجنية. لكن هنا أيضا، بدت اعتبارات النظام واضحة.
فرغم الطابع التنظيمي المحايد لقانون السير الذي أدخل تعديلات هامة (أنظر الجدول)، من اللافت أن المناقشات التي دارت بشأنه عادت بالمجلس الى التفكير باعتبارات طبقة معينة، كادت تؤدي الى تعطيل اقراره. وهذا ما نقرؤه من خلال الخلاف الحاصل حول المادة 154 منه المتعلقة باللوحات المميزة ومنها لوحات النواب الزرقاء. فقد تم حذف هذه المادة من القانون المقرّ على أن تدرس على حدة لاحقا. وكان قد نشأ خلاف قانوني حول ما إذا كانت هذه اللوحات تمنح حقوقا مكتسبة لحامليها (وقد جاء رأي مجلس الشورى مطابقا لنظرية أن هذه اللوحات هي حقوق مكتسبة لحامليها)، فقال أحد النواب: “هناكأشخاصدفعوامئاتآلافالدولاراتثمن أرقامهمبغضالنظرعنكيفيةاتمامذلكبموجبأيقانونوأيعرفوأياخلاق. لقداعتبروهحقا مكتسبا.ماذانقوللهم،وهميمثلونقطاعاتنخبويةكبرىوعائلاتسياسية؟ فلندرسهذاالموضوععلى حدة.” وكأن من المحرّم على المشرّع أن يمس بمكاسب هؤلاء، حتى ولو كانت اكتسبت خلافا للقانون! كما ولم يخف نائب آخر الغاية من هذه اللوحات قائلا “لانريدتمييزالكنستحدثمشاكلكثيرة،فالنائبفي سيارتهسيعيّطعليهالدركي!”
أما لجهة قانون تخفيض السنة السجنية لتصبح مرادفة لتسعة أشهر حبس (216)، فيبدو أنه شكل الحل الأسهل لمعالجة اكتظاظ السجون وانتفاضة السجناء (2011) بمنأى عن أي تفكير بإصلاح السجناء أو إعادة تأهيلهم أو دمجهم الاجتماعي. فالتخفيض يحصل بشكل آلي من دون وضع أي آلية أو امكانية من شأنها اسقاط حق السجين بالاستفادة منه في حالات معينة[9]. ومن هذا المنطلق، يصح وضعه في خانة التنظيم الاجتماعي وتحديدا تنظيم الأزمات الاجتماعية أكثر مما يصلح وضعه في خانة الحقوق. الا أنه هنا أيضا، بدا هذا الأمر بمثابة محاصصة بين الأطراف: فقد اضطرت الكتل الشيعية الى التنازل عن استثناء جرائم العمالة مع العدو لقاء تنازل سائر الكتل عن استثناء الاتجار بالمخدرات من الاستفادة منه.
وأخيرا، تجدر الاشارة الى قانون تعديل قانون الآداب الطبية. وتتصل غالبية هذه التعديلات بالتطورات العلمية وكيفية التعامل معها أخلاقيا، وتحديدا بما يتعلق بالتجارب البشرية وزرع الأعضاء والتلقيح الاصطناعي. فقد أنشأ القانون لجانا أخلاقية لمتابعة الأبحاث الطبيّة والتجارب السريرية في المستشفيات ونص على خطة عمل لتحديد شروط وآلية وهب وزرع الأنسجة والاعضاء، بالإضافة إلى انشاء لجنة وطنية لوهب وزرع الأنسجة والأعضاء والسماح بإجراء عملية التلقيح الاصطناعي أو الحمل بواسطة تقنيات الخصوبة المساعدة، ولكنه أبقى شرط “مراعاة القوانين المرعية الإجراء لدى المحاكم المدنية والشرعية”. والأهم هو أن القانون سمح باستعمال تقنيات زراعة خلايا المنشأ (Stem cells) وهو موضوع أثار جدلا عقيما حتى في دول الغرب ويعتبر تشريعه في لبنان خطوة إيجابية من الضروري التنويه بها. وقد أحيل السماح في استعمال خلايا الجنين واستعمال الأجنة المبردة للبحث او اتلافها الى مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء في محاولة واضحة لإعطاء السلطة التنفيذية صلاحية لا تملكها.
أما في مجال السرية المهنية، فقد أدخل القانون أحكاما متضاربة: فهو من جهة، ألغى موجب الطبيب بإبلاغ السلطات الصحية عن اسم المريض المصاب بمرض تناسلي الذي يرفض العلاج، أو أيضا بالابلاغ عن كل مدمن على الكحول أو على المخدرات يرفض المعالجة أو يشكل خطراً على الغير وذلك بمنحى نحو احترام خصوصية الفرد والمريض. وفيما بينت هذه التعديلات بأن المشرّع عمد إلى احترام خصوصية المريض في هذه المسائل في اتجاه تعزيز رابط الثقة بين الطبيب والمريض بمنأى عن خوف الوشاية، فإنه سرعان ما عاد وسمح للسلطات القضائية والصحية ولنقابة الأطباء الحصول على نسخة عن أي ملف طبي يكون موضع شكوى وتحقيق. أمام أحكام مماثلة، ظهرت رؤية المشرع بشأن السرية الطبية شديدة الالتباس، وبدا كأنه يخضع لتجاذبات بين أخلاقيات الطبيب بخصوص سرية المهنة من جهة، واعتبارات الأمن والتحقيق من جهة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن القانون أحال تطبيق معظم احكامه الجديدة الى صدور مراسيم في مجلس الوزراء.
القانون
أهم الأحكام التنظيمية الواردة في القوانين المذكورة
قانون السير
التشدد بامتحان رخصة القيادة، تحويل مكاتب السير إلى مدارس ووضع شروط على من يريد أن يعلّم القيادة، إنشاء وحدة مرور، إدخال نظام الأرصدة، مضاعفة قيمة الغرامات، إلزامية وجود حزام أمان في المقعد الخلفي، التشدد بمعاقبة مخالفات الدرّاجات النارية
قانون الآداب الطبية
انشاء لجان أخلاقية لمتابعة الأبحاث الطبيّة والتجارب السريرية في المستشفيات، النص على خطة عمل لتحديد شروط وآلية وهب وزرع الانسجة والاعضاء، انشاء لجنة وطنية لوهب وزرع الأنسجة والأعضاء، السماح بإجراء عملية التلقيح الاصطناعي أو الحمل بواسطة تقنيات الخصوبة المساعدة (مع “مراعاة القوانين المرعية الإجراء لدى المحاكم المدنية والشرعية”)، السماح باستعمال تقنيات زراعة خلايا المنشأ (Stem cells). إلغاء موجب الطبيب بإبلاغ السلطات عن اسم المريض المصاب بمرض تناسلي أو عن كل مدمن على الكحول أو على المخدرات يرفض المعالجة.
نُشر في ملحق2012 مع العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية
[1]جريدة الأخبار 30-12-2006 – “جردة تشريعيّة للسنة الأولى من برلمان 2005”.
[2]سعدى علوه “نوابنا أغنى عاطلين عن العمل”، جريدة السفير بتاريخ 27-2-2012
[4]النائب فؤاد السنيورة -الجلسة التشريعية 22-2-2012
[5]أهمها: تسوية إعادة إعمار الأبنية المتهدمة من جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان وإجراء الفحوصات الدورية المجانية للكشف المبكر عن سرطان الثدي والبروستات وتعديل قانون حماية الملكية الأدبية…
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.