دمّر انهيار الاقتصاد اللبناني، خلال السنتين الأخيرتين، مئات آلاف الوظائف[1] ما دفع عدداً غير مسبوق من المؤسّسات إلى صرف عمّالها فردياً أو جماعياً، في ظروف غالباً ما كانت مؤلمة ومجحفة لأُجراء أمضَوا سنوات في خدمتها، فوجدوا أنفسهم، بين ليلة وضحاها، من دون عمل أو مدخول. ونظراً إلى ما لعمليّات الصرف هذه من نتائج نفسية واجتماعية ومالية وخيمة على العمّال المصروفين، كان من المنتظر أن تغرق مجالس العمل التحكيمية (المحاكم المُخوَّلة النظر في نزاعات العمل) تحت ضغط أعداد هائلة من الدعاوى على مختلف أنواعها (وأبرزها دعاوى الصرف التعسّفي). وعلى الرغم من عدم توفّر أرقام دقيقة حول أعداد الشكاوى والدعاوى المقدَّمة أخيراً (ستتناول المفكّرة هذا الموضوع في مقالات لاحقة) بدا جليّاً لكلّ مراقب لشؤون العمّال الانخفاض الحادّ في نسبة اللجوء إلى المحاكم، وانعدامها في بعض الأحيان، في ظلّ اعتماد كثيف من قِبل الأجراء المصروفين حلولاً أخرى تُجنّبهم المساحات القضائية، مثل القبول بالتعويض الذي يعرضه صاحب العمل مهما بلغ حجمه، أو إجراء مفاوضات فردية أو جماعية مع أرباب العمل عبر وساطات أخرى، بعيداً عن المحاكم وحتّى عن قانون العمل. قد تفسّر جائحة كورونا، وإغلاق المحاكم لفترات طويلة عامَي 2020 و2021 لضرورات الحجر الصحّي، جزءاً من ظاهرة عدم اللجوء هذه إلّا أنّ من الواضح أنّ شيئاً ما قد انكسر في العلاقة بين العمّال اللبنانيين ومجالس العمل وقضاتها، وهي علاقة متأزّمة أصلاً منذ سنوات طويلة بسبب مشاكل عديدة وقديمة لكنّها دخلت اليوم، وفق ما يظهر، في طور الاحتضار.
تبحث هذه المقالة في أسباب وجذور عدم اللجوء العمّالي إلى مجالس العمل التحكيمية خلال الأزمة في لبنان اليوم. ومصطلح عدم اللجوء (non-recours) يمكن تعريفه بالحالة التي يكون فيها الشخص مؤهَّلاً للحصول على منفعة اجتماعية (حقوق أو خدمات)، أو للمطالبة بحقوقه، لكنّه لا يحاول الحصول عليها، على الرّغم من شرعيّة المطلب وقانونيّته[2]. وتستدعي مقاربة المؤسّسات العامّة والقضائية من باب عدم اللجوء، الملاحظات الأوّلية التالية. أوّلاً، لا ينحصر هذا المفهوم بالمساحات القضائية بل يشمل أيضاً اللجوء أو عدمه المتعلّق بشكل عامّ بجميع المؤسّسات التي تقدّم خدمات عامّة، بناء على حقوق اجتماعية اقتصادية مكرَّسة قانوناً. يسمح هذا المفهوم ثانياً، بعدم الاكتفاء بدراسة التجارب القضائية للأفراد داخل المحاكم (سواء في مجالس العمل أو في المحاكم الجزائية أو غيرها) إنّما أيضاً بتسليط الضوء على ما يحصل قبل الوصول إلى القضاء، فيمنع أو يشجّع أو يؤخّر اللجوء إليه[3]. وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ ظاهرة عدم اللجوء إلى مجالس العمل ليست جديدة: فقد برزت مع نشوء دول الرعاية في الغرب وتضخّمت مع تحوّلاتها في سبعينيّات القرن الماضي في الدول الصناعية[4]. أمّا في لبنان، وفي ما يتعلّق بمجالس العمل التحكيمية، موضوع بحثنا، فظاهرة عدم اللجوء إليها تعود إلى ما قبل الأزمة وإن بأشكال مختلفة، وهذا ما سوف نستشفّه من القسم الأوّل من هذه المقالة.
أمّا الأقسام الأخرى، فتسمح لنا بالغوص في الأسباب الفردية والجماعية، الذاتية والقانونية والاجتماعية والسياسية لعدم اللجوء إلى مجالس العمل، وصولاً إلى محاولة فهم معانيه. فهذه الظاهرة اليوم لا تعني العمّال وحدهم بعلاقتهم مع أرباب العمل أو مجالسه، إنّما تأتي في إطار إعادة تشكيل مرجعيّات الناس السياسية والأخلاقية في خضمّ الأزمة، وتحوّلات علاقتهم بمفهوم السلطة والدولة والقانون. بكلمات أخرى، يفتح عدم اللجوء إلى مجالس العمل الباب في الوقت عينه للجوء من نوع آخر وفي أماكن أخرى من الخارطة السياسية والاجتماعية، فتظهر لنا مجالس العمل في مزاحمة – خاسرة حتّى الآن – مع وسائل أخرى لحلّ النزاعات في المجتمع، لها وظائف سياسية أخرى، في قلب إعادة تكوين الولاءات وعلاقات القوّة في لبنان.
ما قبل الأزمة: مجالس مشاكلها قديمة تنفّر العمّال
إنّ مشاكل مجالس العمل التحكيمية في لبنان عديدة وقديمة. ففي سنوات ما قبل الانهيار الاقتصادي، عندما كان سعر صرف الليرة ثابتاً، وكانت تنعقد جلسات المحاكم بشكل منتظم، كانت تسري في الأوساط القانونية والصحافية قناعة بعدم فعاليّة مجالس العمل، أكثر ربّما من أيّ محكمة أخرى في لبنان. وكانت التعليقات تركّز على المشاكل البنيوية التي تشوب هذه المجالس، والتي تضع أعباء إضافية على أكتاف المتقاضين لديها، لا سيّما الأجير وهو الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية مع صاحب العمل، ما يقلّل من فرص لجوئه إليها. ووصل الأمر حدّ تقديم (بولا يعقوبيان) اقتراح قانون لإلغاء مجالس العمل التحكيمية في 3/9/2019 وإناطة مهامّها وصلاحيّاتها بأقسام محكمة الدرجة الأولى التي يتولّاها القضاة المنفردون المدنيون.
وكانت “المفكّرة القانونية” قد أعدّت في عامَي 2015 و2019 دراستين حول نشاط هذا القضاء الاستثنائي في السنوات الأخيرة، وقد حدّدت فيهما عدداً من الإشكاليّات التي قد تحبط اللجوء إليه، أهمّها: طول أمد الدعوى بشكل مخالف للقانون، والتنظيم القضائي لهذه المجالس من حيث التوزيع غير العادل للأعمال القضائية بين المحافظات ممّا يساهم في بطء المحاكمات، وخلل في توزيع الغرف، بالإضافة إلى الإنتاجيّة الضئيلة من حيث عدد الأحكام، وعدد الدعاوى التي يتأخّر البتّ فيها بسبب إقامة دعوى أمام المراجع الجزائية، أو الإكثار في الطلبات المقابلة من قِبل صاحب العمل، بشكل تعسّفي. علاوة على ذلك، يأتي الدور غير الواضح لمفوَّض الحكومة ليزيد هذه العوائق بحيث يؤخّر الدعوى من دون أن تكون لعمله قيمة مضافة واضحة. أمّا ممثّلو الأجراء وأصحاب العمل لدى مجلس العمل التحكيمي فتَبَيَّن أنّهم غالباً ما يتقاعسون عن أداء أدوارهم كما يجب، وهم عموماً أعضاء صامتون تشوب آليّةَ تعيينهم اعتباراتٌ سياسية وزبائنية[5].
وكان الإعلام يتناول بشكل منتظم، قبل 2019، عاهات مجالس العمل وصعوبات لجوء العمّال إليها، لا سيّما مسألة بطء التقاضي (“يضيّع المتقاضي حياته راكضاً داخل أروقة المحاكم”، وتصبح المراجعة أيضاً “بلا طعمة أو نتيجة أو فائدة” للأُجراء[6])، أو عدم كفاءة ممثّلي الأجراء وأصحاب العمل، وكثرة الدعاوى، وهي مشاكل كانت تشكّل “ضغطاً على الأجراء يدفعهم غالباً إلى التخلّي عن السعي لتحصيل حقوقهم عبر مجالس العمل التحكيمية”[7]. ويؤكّد لنا اليوم الممثّلون العمّاليون الذين قابلناهم خلال عملنا الميداني أنّ ظاهرة عدم اللجوء، أو اللجوء المحدود إلى مجالس العمل في لبنان طالما رافقتها لدرجة أصبحت من ميّزاتها الأساسية:
“قبل الثورة، مش أكتر من 10% من الأجراء كانوا يروحوا على مجلس العمل التحكيمي. وأساساً، صاحب العمل ما بِيْهِمّو إذا رحت إنت كأجير على مجلس العمل التحكيمي. وشو بيجي بيقول عادة، خود 3 أشهر تعويض (لنفترض بحسب طريقة الحساب القانونية بيطلعلك أكتر) وإلّا روح علاق سنين بمجالس العمل التحكيمية”[8].
“من قبل، كانت تروح 6 أشهر ليحدّدوا له الجلسة. مِشان هيك، كان في كتير أصحاب عمل، يقولوا بدفع بعد ما ماطل. بيراهنوا على حاجة العامل، والوقت. بيصير الأجير، اللي عايز مصاري مثلاً بوقتها ليشتري سيارة، يفاوض ولو أخذ أقلّ”[9].
من الواضح إذاً أنّ مجالس العمل التحكيمية في لبنان كانت، في العقدين الأخيرين على الأقلّ، مؤسّسة يتردّد العمّال في اللجوء إليها في حال تعرّضهم لصرف تعسّفي أو لممارسات غير قانونية من قِبل أصحاب العمل. إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية، بما تخلّلها من ظروف ومعطيات، فاقمت حالة التردّد لدى العمّال في اللجوء إلى هذه المجالس، على نحو أدّى إلى تجريدها من دورها المُفترَض في حماية حقّ العمل والتخفيف من اختلال التوازن بين الأُجراء وأصحاب العمل.
هشاشة أوضاع العمّال تبعدهم عن المحاكم
من المفيد، بدايةً، الغوص في وضعيّة الأجير التي تدفعه أحياناً إلى الابتعاد عن المحكمة وعن المطالبة بحقوقه التي يضمنها القانون، على الرغم من قساوة الصرف والوضع الاقتصادي الحالي عليه. فنرى أنّ بعض المصروفين كانوا قد بنوا علاقة شخصية تجمعهم بصاحب العمل، كانت في الغالب جيّدة قبل الأزمة، إلّا أنّها بدأت تنهار منذ العام 2019. فيشرح لنا الأجراء الذين التقيناهم كيف أنّ لديهم “عِشرَة عمر” مع المؤسّسة التي صرفتهم، بحيث يصبح التقاضي أو المواجهة القضائية أمراً غير ممكن أو على الأقلّ محرجاً[10]. فيما يرى أُجراء آخرون أنّهم كانوا من بين المساهمين في بناء المؤسّسة، التي “هي من لحم الكتاف”[11].
كما أنّ علاقة القوّة التي تحكم روابط الأجراء مع صاحب العمل وتصبّ في مصلحة هذا الأخير قد تُتَرجَم رمزياً باحترام مفرط لقامته وموقعه، في إشارة إلى “هيبة صاحب العمل”[12] التي تنتج مفاعيلها على الأجير حتّى بعد انتهاء العلاقة التعاقدية بشكل قد يكون تعسّفياً، فتردعه عن اللجوء إلى المحاكم. وقد يستخفّ البعض بهذا البعد العاطفي-الرمزي في ظلّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تهدّد مصالح العمّال ومعيشتهم، وبالتالي، يجب أن تدفعهم “منطقياً” إلى المواجهة مع أصحاب العمل. إلّا أنّ ظاهرة عدم اللجوء الكثيفة تُظهر أوّلاً، دور البعد العاطفي والنفسي في الممارسات القضائية، وتبرز ثانياً، كيف أنّ الهيمنة الاجتماعية التي يمارسها أصحاب رأس المال تُشعر الكثير من الأُجراء بالخجل الذي يثنيهم عن مواجهة مَن كانوا يحترمونه بفعل موقعه الاجتماعي، حتّى على حساب مصالحهم المباشِرة. ولا شكّ أنّ هذا وجه آخر من أوجه عدم المساواة البنيوية والرمزية التي تحكم علاقات العمل.
إضافة إلى ذلك، لا ننسى أنّ الأجراء، بخاصّة الذين يشغلون مناصب متواضعة يعوّلون عليها لتأمين لقمة عيشهم، والذين تمّ الاقتطاع من معاشاتهم في بداية الأزمة مثلاً، أصبحوا يتمسّكون بعملهم اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، ففي ظلّ تدمير الوظائف وندرة فرص العمل الأخرى في زمن الانهيار يفضّلون التمسّك بالعمل مهما ساءت ظروفه على اللجوء إلى القضاء.
“نصحتُها [الأجيرة] أن تبقى في [المؤسّسة] في هذه الأيّام الصعبة وتقبل أن تقبض راتباً ضئيلاً جدّاً لقاء تركها مضمونة على اسمهم، الهمّ الأوّل هو عدم اللجوء إلى القضاء لأنّ التعويض ضئيل جدّاً”[13].
وحتّى الأجراء الذين صُرفوا من العمل، يأملون العودة إليه حين تتحسّن أوضاع المؤسّسة، في ظلّ أوهام “الأزمة العابرة” التي يروّج لها بعض الزعماء السياسيين اليوم، المبشّرين بعودة الازدهار متى تمّ الوصول إلى اتّفاق سياسي في المنطقة. وبالتالي يحفظ المصروفون طريق العودة، ويُبعدهم أمل مزاولة العمل من جديد، الذي يغذّيه أحياناً بعض أصحاب العمل، عن سلوك طريق مجالس العمل التحكيمية، الذي قد يدمّر علاقتهم نهائياً بالمؤسّسة وإمكانيّة عودتهم إليها، ليصبحوا من دون أيّ أفق، حتّى على صعيد الأوهام التي تسمح أحياناً بالصمود خلال الأزمة.
“أنا ما رحت عالقضاء، بركي رجّعونا. الأزمة بدها تخلص يوماً ما. وناس قالوا لي ما تفوت بمشاكل معهم، ما بيعودوا يخلّوك [تروح] لعندهم”[14].
بين العلاقات الشخصية وغياب البدائل وصناعة الآمال المزيّفة بالعودة إلى العمل، نرى بعض الأجراء يتخبّطون في شباك نفسية-مادّية خاطها حولهم عنكبوت الأزمة والنظام السياسي وعدم المساواة، لا يردعهم عن التقاضي فحسب، إنّما أيضاً عن بلورة بداية فكرة الذهاب إلى مجالس العمل التحكيمية. ينتظرون في أوضاعهم الهشّة يومَ سيُسمح لهم بالعودة إلى “ما قبل” الأزمة، أي إلى ما يشبه استقراراً مهنياً ومادّياً بدأوا ينسون ملامحه في زمن الانهيار المستمرّ.
حتّى الأوهام لم تعد ممكنة: ماذا تقدّم مجالس العمل إلى العمّال في الأزمة؟
“وقت” الأزمة … أطول وأغلى
يشكّل بطءالمحاكمة أمام مجالس العمل التحكيمية موضوعشكوى قديمة من قِبل الأجراء والمحامين[15]، إلّا أنّه أخذ أبعاداً خطيرة جديدة منذ بداية الأزمة الاقتصادية حيث أصبح الوقت عاملاً أساسياً في السباق ضدّ الانهيار الكبير، لا سيّما النقدي. ومن المعلوم أنّ أحد أسباب نشأة قضاء العمل كان السرعة في النظر في الملفّات التي تتعلّق بحقوق اجتماعية واقتصادية جوهرية للأجير. وبالتالي فإنّ المدّة الطويلة للمحاكمة التي طالما أضعفت حماسة العديد من العمّال للجوء إلى مجالس العمل التحكيمية، أصبحت اليوم عاملاً أفقد اللجوء إليها كلّ معناه. وكانت دوّت الصرخة منذ زمن بين المحامين الذين يتذمّرون من ضياع الوقت أمام المجالس، على حساب مصالح موكّليهم كما مصالحهم، ما يقلّل من جاذبية المجالس بالنسبة إليهم. كذلك الأمر بالنسبة للنقابيين:
“قانون العمل غير صالح للتنفيذ، والدعاوى بتاخد سنين، وبين جلسة وجلسة بيمرق أشهر اللي بيخلي الأجير يحسّ بيأس، والتعويض يللي بيلحظو قانون العمل ضئيل”[16].
وتفاقمت المشكلة اليوم بفعل تغيّر قيمة الوقت بعد 2019 بالنسبة إلى العمّال وبعدما بات أكثر خطورة وكلفة عليهم. وبعد أن كان البعد الزمني في السابق عائقاً أمام تحقيق المحاكمة العادلة (التي تستمدّ هذه الصفة عندما تكون سريعة وفعّالة)، أصبح اليوم يهدّد أساس الحقوق التي يطالب بها الأجير والتي أنشئت المجالس لضمانها وحمايتها. كان بطء المحاكمة قبل الأزمة بطئاً في استيفاء حقّ أكيد، أمّا اليوم، فأصبح مرادفاً للوقوع في المجهول، مجهول نقدي، وسياسي، وأمني: أصبح اللجوء إلى مجالس العمل بمثابة قفزة في مسار ضبابي غير معروف النتائج.
“القانون ما بيحميك بلبنان. وإذا رحت عمجلس العمل التحكيمي، سنين أحسن ما أنطر خاصة وأنّو الليرة ما عاد تساوي شي”[17].
يؤدّى التعويض عن الصرف التعسّفي المنصوص عليه في المادّة 50 من قانون العمل، بالليرة اللبنانية التي تشهد انهيار قيمتها الشرائية[18]، وبالتالي تكفي عمليّة منطقية بسيطة في ذهن الأجراء اليوم لاحتساب الكلفة والمنفعة المرتجاة من اللجوء إلى القضاء، وبعد إدخال عامل بطء المحاكمة، تنتهي هذه العملية إلى ثنيهم عن التقاضي. وهذا ما يشجّع الأجراء اليوم على التوجّه إلى المفاوضات التي يسمّيها القانونيّون “حُبِّية” (وكيف تكون حبّية تحت ضغط الانهيار فوق رؤوس العمّال) ليحصلوا من خلالها على المبالغ بسرعة، حتّى لو كانت في بعض الأحيان أقلّ ممّا قد يحكم به مجلس العمل التحكيمي، خصوصاً أنّه حكم لم يعد مضموناً لا بصدوره ولا بقيمته. “الأفضل: عصفور في اليد، ولا عشرة على الشجرة” هي عبارة سمعناها في الأحاديث والمقابلات مع الأجراء، ولا شكّ أنّ شجرة مجالس العمل في لبنان أصبحت من الشجرات الشاهقة التي يستحيل الوصول إليها وتسلّقها.
“هلّق الموضوع أصعب مع تمديد المهل والكورونا. في آلاف الشكاوى انعملت، ما منعرف شو مصيرها رح يكون. لليوم ما في جلسات، إذا في كاتب أو ما في، إذا في قاضي أو ما في، واليوم مسكّرة الطريق، والكورونا… كلّه تأجيل جلسات وتراكم. واليوم بظلّ انهيار الليرة، قبل كانوا 20 – 30 مليون بيقصّوا ضهرو [لصاحب العمل]، اليوم صار يقول بصبر بعد شوي، عفرق العملة، بصيروا 100 دولار”[19].
وفيما شارَكَنا أجراء لجأوا إلى مجالس العمل، غضبَهم تجاه تصرّف بعض المؤسّسات التي جنت من أعمالهم أرباحاً طوال سنوات قبل أن ترميهم في وقت الضيق (“بدّي علّمو إنّو مش هيك بيتصرّفوا”، كما قال لنا أحدهم[20])، لا شكّ أنّ تشابك عاملَيْ البطء والانهيار النقدي كسرا جزءاً ممّا تبقى من الغضب العمّالي، على الأقلّ في بعده القضائي، في تكريسٍ غير مسبوق لفلسفة التفلّت من المسؤولية التي تستفيد منها هنا بعض المؤسّسات، بعدما استفادت منها حتّى الثمالة الطبقة السياسية.
مساحة قضائية سمعتها ترهق الأجراء
يقال في بعض الأوساط إنّ الأجراء يربحون دائماً أمام مجالس العمل التحكيمية، التي قد تبدو بالتالي مساحة مريحة لهم[21] (“ما في يربح صاحب عمل دعوى قدّام مجالس العمل”، قال أمامنا أحد محامي الشركات الكبيرة). إلّا أنّه يكفي قضاء بعض الوقت مع العمّال والأجراء في عام 2021 لإظهار مدى خطأ هذا الانطباع. حتّى لو كان صحيحاً جزئياً على صعيد الأحكام القضائية[22] في دعاوى الصّرف فإنّ مقاربة عدم اللجوء إلى مجالس العمل التحكيمية، أي مساحة ما قبل القضاء، تؤكّد كم أنّ العمّال يخسرون الدعاوى العديدة التي لا تُقام أبداً والتي لا يذكرها إحصاء ولا دراسة، فتذوب ذكراها سريعاً في وحول المصائب العمّالية. فمجرّد طرح فكرة مجالس العمل، يرهق الكثير من الأجراء لدرجة تثنيهم عن اللجوء إليها مهما كبرت مصائبهم: لا يمكن للأحكام القضائية، حتّى إن كانت منصفة، أن تنصف سوى مَن لديه القوّة والموارد للجوء إلى المحكمة أساساً.
يتفادى الأجراء مجالس العمل لأنّ بنيتها وتنظيمها، كما بنية معظم النظام القضائي، مصمَّمة بشكل يرهقهم، كما يرهق معظم المهمَّشين في مجتمعاتنا. يرى العمّال في قضاء العمل مساحة تتعبهم وتبدّد طاقاتهم، في فترة هي في الأساس مُتعِبة وشاقّة بالنسبة إليهم. ويملي التعب المضاعَف هذا (تعب الأزمة وتعب التقاضي) على الأجير عدم اللجوء، وإن عبّر عنه بطرق مختلفة مثل: “لا دخيلك ما إلي جلادة قصر العدل”[23]، أو: “كلّ هالقصّة [الصرف من شركة عملت فيها لسنوات] قرّفتني، بدّي إخلص ما إلي نَفَس (ع) محاكم ومحامين…”[24]. وتكثر عبارات تدلّ على الإرهاق النفسي الذي يعانون منه، ويرون زملاءهم يعانون منه، في كلام الأجراء المصروفين عندما يتكلّمون عن القضاء: “طيّب شو عملوا؟ راحوا وإجوا، راحوا وإجوا [على مجالس العمل]، وضيّعوا وقت، وهالشباب حرام تتعذّب، هِلْكوا، كانت أيّام صيفيّة. حرام ما طلعلن شي. الله يعطِيُنْ العافية”[25].
يعتبر أجراء كثيرون في 2021 أنّ مساحة مجالس العمل هي مساحة شقاء ومصدر متاعب ومصاريف ونفقات إضافية – ولو رمزية[26] تضاعف شقاء الأزمة ولا تخفّف منه، فيتجنّبوها. إذ تشكّل مجريات المحاكمة، بحدّ ذاتها، بالنسبة إليهم عقاباً هم بغنى عنه، مهما كان الحكم في النهاية مضموناً[27]. ففكرة اللجوء إلى القضاء وحدها كفيلة بإرهاق من انتُهِكَت حقوقُه، حتّى لو لم يباشر بأيّ إجراء عملي على الأرض.
“مِنْكون متنا وراحت علينا الدنيا… يروحوا ويجوا عالقضاء. قلت لهم متل قلّتها هالروحة. هيدي [اسم المؤسّسة] إذا هنّي عندهم محامي واحد، هي عندها 10 محامين (…) هيي ذاتها، متل قلّتها، ما في حلّ. بتترك عالله”[28].
وما يلفت النظر عند استطلاع شهادات الأجراء الذين قابلناهم استذكار مجالس العمل ضمن حقل معجمي مرتبط بالتعب والإرهاق الذي يتعرّض له العمّال اليوم، إلى جانب عبارات أخرى مثل “الطقس الصيفي الحار” عام 2020، وغلاء المعيشة والفقر وغيرها من ويلات الأزمة، وتنسجم فكرة التجربة القضائية المُحتمَلة مع آفات لبنان الأخرى والعجز أمامها بشكل تام. إنّ قضاء العمّال والأجراء ليس واحة لمَن يتعطّش إلى استرجاع حقوقه، بل هو وجه إضافي قديم-جديد من أوجه بؤس الطبقة العاملة في لبنان عام 2021.
محامون “يردعون”، نقابيون “يتجنّبون”، موظّفون “ينصحون”: هيمنة ثقافة عدم اللجوء
ليس قرار عدم اللجوء إلى مجالس العمل الذي يتّخذه الأجير مبنيّاً حصرياً على أفكاره أو أوضاعه الشخصية، ولا يُعزى فقط إلى نظرته إلى المؤسّسات القضائية، بل تمتدّ جذوره إلى مجموعة من العوامل الخارجية التي تدفع الأجير المصروف أو المُنتَهَكة حقوقه إلى تجنّب قضاء العمل. يتألّف فلك الأجير اليوم من فاعلين يقنعونه بشتّى الوسائل أنّ القضاء لا يُعوَّل عليه: محامون، نقابيون، موظّفون حكوميون في وزارة العمل؛ جلّهم كانت تدفعهم أدوارهم التقليدية إلى دعم الأجير وإرشاده نحو المساحة القضائية وفيها، إلّا أنّ الأزمة اللبنانية قلبت الأدوار بشكل تامّ لتجعل من هؤلاء حواجز على درب محاكم لم تعُدْ تُرضي أحداً. تُظهِر المراقبة الميدانية ازدواجية متجدّدة في وظيفة هؤلاء: فإلى جانب مهامّهم العادية، طوّرت الأزمة مهمّة جديدة، ألا وهي مهمّة الحثّ على عدم اللجوء إلى مجالس العمل التحكيمية بسبب عدم جدواه. يتعاطون مع الأجير الذي يتوجّه إليهم عن طريق النصح والإرشاد، لإقناعه أنّ العدالة لا تتحقّق على أقواس المجالس، كما لا تُصان مصلحة الأجير باللجوء إلى المحاكم.
اعتبر محامي شركات[29] أمامنا أنّه يجب “ردع” الأجراء عن اللجوء إلى القضاء، فإرشادهم إلى القضاء اليوم “ليس الحلّ الأفضل”، إذ يجب فعل كلّ ما بوسعه لضمان عدم المضي بالنزاع. يدفع هذا المحامي الفرقاء وبينهم الأجراء، نحو حلول أخرى مثل الاتّفاقيات “الحبّية”، مؤكّداً لنا أنّه في آخر سنتين لجأ إلى هذا الحلّ في جميع الملفّات، ولم يتوجّه بأيّ ملفّ إلى المحكمة.
“من ناحية الأجير، مش كتير منيح اللجوء للقضاء، لأنّو أوّلاً لازم نشوف إذا حكم القاضي، وما فينا نعرف كيف ممكن يحكم، وإذا طلع القرار، ما بقى إلو قيمة اليوم. حتّى أنّه harmful [مؤذي] أن ننصح أجيراً باللجوء إلى مجالس العمل. إلّا إذا كان مرتاح، أو كرمال المبدأ”.
إذاً، أصبح اليوم اللجوء إلى المجالس بمثابة ترف فكري أو أخلاقي متاح فقط للأجراء المرتاحين على وضعهم الذين لا يعوّلون على التعويض لتأمين معيشتهم. لا حقوق ولا قانون فعّال في وجه صاحب العمل، فالتقاضي أصبح بحدّ ذاته مُرادفاً لتسجيل موقف في عالم العمل الذي تنهار أسسه التقليدية وَقِيَمِه يوماً بعد يوم. حتّى الأجراء الذين لم يوكِّلوا رسمياً محامياً بل استشاروا محامين مقرَّبين منهم نُصحوا أن يغضّوا النظر عن المجالس، وكأنّ عالم مجالس العمل التحكيمية أصبح بعيداً عن المنطق والصواب.
“خيي محامي قال لي أحسن توافق، أفضل ما تروح عالمحكمة”[30].
“أنا زوج عمتي محامي. استشرته، قال لي روح عالحبّي. بلاها تروح عمجلس عمل تحكيمي بدها 7 سنين. هيدا إذا في دولة”[31].
“مش عارف جاوبك إذا أنا مع الروحة عالقضاء. ما بعرف جاوبك. لمّا قال لي المحامي ما عاد فكّرت. المحامي قال لي خلص”[32].
إنّ أسباب قلّة حماسة المحامين على دعاوى العمل عديدة، فيروي لنا أحد النقابيين كيف أنّ معظم المحامين الذين يلجأ إليهم يعتبرون أنّ قضايا العمل تتطلّب جهداً وتعباً كبيرين، وتستلزم لوائح عدّة، وتقديم طلبات أمام أجهزة التفتيش، وفي النهاية يقول: “أنا شو بدّي إدبحو للعامل؟ أدّيش بدّي آخد منّو إذا بْجِبلو الـ10 مليون، هيدي لمّا كان إلن قيمة؟”[33] وعليه، وبغضّ النظر عن فعاليّة اللجوء إلى المجالس، لا تثير قضايا العمل دفاعاً عن الأجير شهيّة المحامين المهنية.
مجالس العمل “مقبرة”
أمّا في ما يخصّ النقابات، فقد أدان نقابيان قابلناهما نشاط مجلس العمل التحكيمي، معتبرَيْن ألّا وجود لأيّ أمل في هذه المؤسّسة التي لا يُعوَّل عليها: القضية بالنسبة إليهما أكبر وأهمّ من مجلس العمل، والحلّ لا يمكن أن تقدّمه هذه المؤسّسة المترهّلة تحت وطأة المشاكل والصعوبات، إذ إنّه يرتبط بطبيعة النظام السياسي بأكمله. ونجد في الوقت عينه بعض المستشارين القانونيين للنقابات لا ينصحون باللجوء، ويُقنِعون الأجراء بتفاديه:
“أنا بالأوّل فكرت إرفع دعوى إيه إيه. لأنّو كانوا ingrats [ناكرين للجميل]. كان بدّي إيه كان بدّي. بس لمّا رحت عند [محامي النقابة] غيّرت رأيي، خاصّة إنّو مع الأزمة اليوم ما رح لاقي [عمل آخر]”[34].
حتّى النقابيون الذين كانوا، قبل الأزمة، يعتبرون مجالس العمل مكاناً منصفاً إلى حدٍّ ما، غيّروا رأيهم في الوقت الحالي، إذ لم تعد المجالس اليوم مؤسّسة “مقبولة من حيث فعاليّتها”. ولا تزال النقابات تشجّع على اللجوء إلى مجالس العمل، إلّا أنّها أصبحت تفعل ذلك أكثر فأكثر من باب رفع العتب، فيما تعوّل بشكل أساسي على مفاوضات تحصل خارج المحاكم. ولا تزال العادات النقابية والمنهجية التقليدية المُعتمَدة من قِبلهم تدفع نحو إطلاق عجلة التقاضي، وتسجّل الدعاوى لتغذّي إحصائيّات المحاكم، لكنّ العمّال لا يراهنون عليها ولا يؤمنون بخواتيمها.
“مبدأ الشكوى محفوظ. بس عم نروح عالمفاوضات كتير. في عمّال عم بيقولوا إذا بقبضن اليوم أحسن ما إقبضن بكرا. عمنسجّل شكاوى مجلس عمل تحكيمي، بس ما عم نراهن، لذلك عم نروح عنقاش مباشر [مع صاحب العمل]. للأسف، عنّا مشكلة إنّو أصحاب العمل عم يستغلّوا الظروف الاقتصادية. كان في معمل XX عطريق XX، كان فيه 100 عامل، صار في صرف تعسّفي، وعملنالهم شكاوى عمجلس عمل تحكيمي. وفِيُن لبنانيي وسوريين. صارلو 10 أيّام، عم يتلفن للشباب يقول لهم شو بدّكم من المحاكم، تعوا نحلّها برّات المحاكم، لأنّو صار يدفعلن دولار قليل. هو عنده حاجة يقسّم الورثة، وبدّو براءة ذمة من الضمان. هيدي حالة، ما فينا نعمّمها، بس إنّو 100 موظّف. مجالس العمل بهيدا الوضع، ما عاد شايفين في أفق. [مجالس العمل] مقبرة وما في نتيجة”[35].
أمّا الموظّفون الحكوميون، فيدفعون في الاتّجاه نفسه. يتلقّى مفتّشو ومحقّقو وزارة العمل عادة شكاوى الأجراء ويسعون إلى إجراء وساطات بينهم وبين أصحاب العمل. وفي حال فَشَل هذه المفاوضات، يتوجّه الفرقاء إلى مجلس العمل التحكيمي الذي قد يستعين بهم مجدّداً إذا استدعت القضيّة التوسّع في التحقيق. نجد هؤلاء الموظّفين يرثون المؤسّسة القضائية ويصوّرونها بشكل يبعد العامل عنها، علماً أنّ المكان الأوّل الذي يذهب إليه الأجير هو الوزارة، فتلعب لقاءاته وانطباعاته الأوّلية هناك دوراً أساسياً في تشكيل وعيه القضائي. في ما يلي مثال لما يسمعه بعض الأجراء عند الاحتكاك الأوّل مع المؤسّسات الرسمية:
“أنا كنت بلّشت قانونياً. بالوزارة قالولي حرام تروح عمجلس العمل”[36].
وكانت مقالاتالمفكّرةالسابقة أكّدت هذا المنحى، “فالآليّة المُتَّبَعة في وزارة العمل لا تشجّع على التشكّي”، كما أنّ “هذه السلوكيّات (في الوزارة) تخفّف من إمكانيّة تقديم الشكاوى والدعاوى”[38]: فوساطة الوزارة “أفضل من انتظارمجالسالعملالتحكيمية[39]. من باب أفضل النوايا وبهدف مساعدة الأجراء على الوصول إلى حلّ سريع، يتمّ تسويق فكرة عدم اللجوء داخل أروقة الوزارة عبر التركيز على مزايا وحسنات الاتّفاقيات الحبّية غير القضائية، بخاصّة بالنسبة إلى مجالس عمل فقدت حالياً مغزاها. كلّ الطرقات تُبعد الأجير عن مجالس العمل التحكيمية، في أكثر وقت هو بحاجة إلى مؤسّسات محايدة وشفّافة تحمي حقوقه.
قضاء غير مستقلّ يشجّع عدم لجوء الأجراء إلى المحاكم
يتداول الأجراء روايات المحسوبيات السياسية والتدخّل السياسي في القضاء، ونفوذ أصحاب العمل ذوي الرساميل الضخمة داخله، وتهدّ عزيمتهم إذ يرَون دعاويهم خاسرة حتّى قبل أن تنطلق.
“وإذا عنده واسطة… إنسَ… نحن الأجراء سمكة أمام الحوت صاحب العمل. هيدا الزلمي داعمه حدا بالسياسة من هودي اللي صارلن 30 سنة وهوي الـBoss [الريّس] أساساً من عيلة كتير غنيّة. صدّقني تليفون واحد بينَيِّم الملفّ إذا راح عالقضاء”[40].
ونرى هنا مفاعيل ثقافة التدخّل في القضاء المهيمنة في لبنان في العقود الأخيرة التي نبّهت المفكّرة من مخاطرها مراراً، فأصبحت تشكّل اليوم عائقاً أساسياً أمام لجوء الأجير إلى المحاكم. فما جدوى الدخول في متاهات المحاكمات متى كانت النتيجة معروفة سلفاً (أو هكذا أصبح يؤمن العديد من الأجراء بعد سنوات من الممارسات التي تدمّر الثقة بالقضاء)، أي انتصار الطرف النافذ أو المدعوم سياسياً، وهو غالباً طرف صاحب العمل؟ مِن الأفضل إذاً التوجّه إلى مصدر السلطة مباشَرة بدون المرور في خانة المحكمة التي أصبحت بالتالي مَضْيَعة للوقت، وفقدت معظم قيمتها، بغضّ النظر عن مدى استقلاليّة أعضائها الفعلية. “ما بتاخد حقّ معن، ما بتاخد حقّ، أنا بعرفن منيح، ما بتاخد حقّ معن”[41]، هي عبارة سمعناها بأشكال مختلفة خلال بحثنا.
“إنّو القضاء مسيّس و[المؤسّسة التي صرفته] لو ما متّفقة مع الوزارة ومع السياسيين، ما كانت بتسترجي تعمل هيك مع هلقد موظّفين. اللي مش مدعوم، طلّعته. هيدي من الآخر. المش مدعوم سياسياً ضعيف قدّام القضاء. القضاء مسيّس. ما الطبقة السياسية هي اللي بتنتخبهم، إنّو تعيّنهم للقضاة”[42].
تبدو مجالس العمل التحكيمية ضحيّة حلقة مفرغة من عدم الثقة في القضاء وفقدان مشروعيّة المؤسّسات القضائية والعامّة. فثقافة التدخّل في القضاء التي تضخّمت في السنوات الأخيرة تُبعد الأجراء عنها نحو وساطات أخرى أسرع وأكثر فعاليّة، وهي غالباً ما تغذّي ولاءات موازية تربّى اليوم على خراب الانهيار الكبير، وتلقي ظلالاً تزداد سواداً يوماً بعد يوم على المؤسّسات القضائية ذاتها التي لم تعد تؤدّي الدور الذي أُنشئت من أجله، ما يزيد من ظاهرة عدم الثقة بها وعدم اللجوء إليها. وهكذا يستمرّ المسار الانحداري.
عدم اللجوء إلى المؤسّسات العامّة: أحد عوارض انهيار شرعيّتها
بشكل عامّ، يُظهر عدم اللجوء إلى القضاء أو المؤسّسات العامّة للمطالبة بحقّ، حذر الناس منها، ورفض الأفراد لـ”مواطنتهم الاجتماعية”، وهو بحدّ ذاته علامة غياب الرضا أو الاهتمام بما تقدّمه الدولة، أو بفكرة الدولة بحدّ ذاتها التي ينقضها عدم اللجوء[1]. من هذا المنطلق، إنّ عدم اللجوء إلى مجالس العمل في زمن الأزمة هو الوجه الآخر لتراجع إضافي يصيب علاقات المواطنة والتضامن الاجتماعي، يُترجَم عبر لجوء الأجراء إلى مراجع أخرى موازية للمؤسّسات العامّة والقضائية، ومنافسة لها. يرى بعض الأجراء أنّ اللجوء الأضمن في الوقت الحاضر، في حال التعرّض للصرف أو الاقتطاع من المعاش، هو اللجوء إلى جهات سياسية نافذة أو إلى الزعيم، أي إلى فضاء اللا قانون، لانعدام الإيمان بهذا القانون والقضاء الذي يطبّقه. ففي معرض مقابلة مع أجير[2] يؤدّي عملاً محدود الأجر، ترك عمله بسبب عدم حصوله على راتبه، علمنا أنّه لم يلجأ إلى القضاء لأنّه “لا يحبّ” و”يخاف أن يخسر”، فاتّكل على نائب “بِيْمون” لكي يحلّ هذه المعضلة. فعدم اللجوء هنا فتح الباب لتعزيز علاقات الخدمات المتبادَلة بين المواطن والنائب، الأوّل ينتخب والثاني يخدم، أي يقوم بما لم يعد القضاء قادراً عليه: إنصاف الأجير.
وخلف ظاهرة عدم اللجوء إلى القضاء تختبئ ظاهرة أكثر خطورة، وهي ذوبان الإيمان العمّالي في منظومة الحقوق التي تشكّل العمود الفقري لمشروعيّة المؤسّسات العامّة التي هي أساس قوانين العمل منذ نشأتها في نهايات القرن التاسع عشر على أسس مطلبية، عندما أتت مؤسّسات مثل مجالس العمل لتعيد بعض التوازن إلى علاقات عمل مالت في القرنين السابقين إلى مصلحة أرباب العمل وأصحاب الرساميل. ويؤشّر انهيار الإيمان في الحقوق والدولة التي تضمنها، بشكل متسارع منذ بداية الأزمة (“بس بدّي إسألك، في دولة قانون؟”[3])، الذي يدفع العمّال نحو عدم اللجوء إلى مجالس العمل، إلى دخولهم في فترة قد تشبه ببعض ملامحها فترات الرأسمالية المتوحّشة التي ميّزت القرن الأوّل بعد الثورة الصناعية، حيث كان الأجير وحيداً أمام رأس المال (المتحالف والمتماهي مع الزعامات السياسية اليوم في لبنان)، في ظلّ غياب تامّ لقانون العمل ومجالسه.
“راحوا عالقضاء هنّي، وضلّن سنة يتعذّبوا. مين هو القضاء؟ ما هوّ القضاء محسوبيّات. أنا أكلولي حقّي 38 سنة وما عملت شي. إنت هون في لبنان، ما بتاخد حقّ، ما في شي إسمه حقّ هون. ما فيك تلجأ لحدا. شو ما عملت ما في شي. ما في حلّ. أنا عم قلّك ما فيك تطلع مع الحرامي. ما فيك تقول له إنت حرامي. حدا بيقول عن حالو أنا حرامي؟ لا. متل قلّتها إذا لجأنا للقضاء أو لغير شي، يعني بعدك “مكانك قف (…). شو منستفيد إذا رحنا للقضاء، شو منستفيد، أيّ قضاء منن. ما هنّي القضاة عم يتخانقوا مع بعض، عويدات وعون وهودي. ما هنّي القضاة نفسن مش مناح مع بعضن”[4].
ويأتي التدمير المُمَنهَج للنقابات العمّالية اللبنانية في العقود الأخيرة ليكمل مشهد تراجع الثقة في مجالس العمل، وجميعها عوامل ترمي العامل المستوحِد في أحضان الزعيم – الوسيط. الظاهرة ليست جديدة طبعاً، وقد تكون من أبرز سمات جمهوريّة ما بعد الطائف التي ازدهرت فيها أصلاً هذه الرأسمالية المتوحّشة خلف واجهة قانونية- دستورية لم تعد تقنع الكثيرين، فأفرغت المؤسّسات من مضمونها الواحدة تلو الأخرى، قضائية كانت أم إدارية، ضاربة عرض الحائط منطق الحقوق التي تضمنها الدولة لتستبدله بمنطق الزعامة الذي يسخّر الدولة المُفرَغة خدمة لمصالحه. إلّا أنّ الأزمة سرّعت هذه المسارات التي انطلقت منذ سنوات، كما حسمت توجّهات كان البعض يؤمن في إمكانيّة تغييرها قبل الـ2019.
“لو بيعملوا مجلس عمل تحكيمي [مدّة المحاكمة فيه] شهر… وإذا عنده [صاحب العمل] واسطة…إنسَ! لو في مجلس عمل تحكيمي ودولة مع الأجير كنت بروح. إذاً أنا مجبور حلّها حبّياً، ومجبور قول عفى عمّا مضى. 6 أشهر إلي، عم تحكيلي عنن حسب القانون[5] هنّي حبر عورق”[6].
قد تشكّل ظاهرة عدم لجوء الأجراء الكثيفة إلى مجالس العمل التحكيمية في لبنان اليوم، بعد عام ونصف من بداية الانهيار، أهمّ الدلائل على التحوّلات الاجتماعية السياسية الجارية والممكنة في المستقبل. فهل يعيد التراجع المتسارع لفكرة التقاضي الجوّ العمّالي إلى ما يشبه فترة ما قبل قوانين العمل، وهي فترة الهيمنة الرأسمالية على الأجراء، لكنّها أيضاً فترة ابتداع وسائل تحرّك عمّالية قديمة-جديدة تدفعهم على المواجهة المباشِرة مع الكارتيلات من دون الاتّكال على وساطة القضاة والمحامين؟ قال لنا مناضل عمّالي قديم، نشط في الحراك العمّالي في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، أي في فترة حيوية كبيرة للنقابات والحراك الاجتماعي في لبنان، أنّه لم يسمع أبداً في شبابه وسنوات نضاله بمجالس العمل التحكيمية. هو لم يسمع بها إلّا بعد الـ2000، أي عند تراجُع الحركات العمّالية والنقابية والاجتماعية، عندما ترك النضال على الأرض ودخل في “فلك إدارة العمل” حيث الوزارة ومجالس العمل والقضاة والمحامين، وهو فلك مختلف تماماً عن “فلك العمل” والعمّال، كما شرح لنا بناء على تجربته الشخصية[7]. فهل هذا يعني أنّ الاهتمام العمّالي بمجالس العمل لم يتمّ إلّا عند تراجُع القوى العمّالية والمواجهات على الأرض؟ وهل المسار المعاكس ممكن اليوم؟ فنرى تراجع الاهتمام بمجالس العمل (المتمثّل بعدم اللجوء) يفتح الباب أمام حيويّة جديدة على الأرض للعمّال والأجراء؟ إنّ المسار الانهياري للدولة ولقضاء العمل، إن اكتمل، لن يعني بالضرورة انهيار ما تبقّى من القوى العمّالية، ناهيك عن طموحاتهم، بل قد يفتح الباب أمام عمل نقابي متجدّد يقتحم مباشَرة مجال علاقات القوّة مع رأس المال وأدواته، وبالتالي أمام إعادة بناء مؤسّسات قضائية مختلفة، في مجال العمل وخارجه، بشكل يستعيد أخيراً ثقة العمّال أوّلاً، واللبنانيين عموماً.
هذا المنتج هو جزء من مواد شبكة عملي، حقوقي! وهي شبكة تضمّ منظمات المجتمع المدني تعمل على تحقيق العدالة والحماية الاجتماعية والقانونية الشاملة لا سيّما الحماية للأفراد العاملين في سوق العمل النظامي وغير النظامي في لبنان، بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان وقانون العمل اللبناني ومعايير العمل الدولية.
تدعم منظمة أوكسفام الشبكة وينسقهاالمرصد اللبناني لحقوق العمال الموظفين بالتنسيق مع المفكرة القانونية في إطار مشروع “تعزيز العمل اللائق وتنمية الأعمال المستدامة في البقاع، لبنان.”
قادت المفكرة القانونية انتاج هذه المواد.
تم إنتاج هذه المواد بدعم مادي من البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية لدعم لبنان، الأردن والعراق (RDPP II)وهو مبادرة أوروبية مشتركة بدعم من جمهورية التشيك، الدنمارك، الاتحاد الأوروبي، ايرلندا وسويسرا. تمثل هذه المواد آراء شبكة عملي، حقوقي! ولا تعكس بالضرورة سياسات أو آراء منظمة أوكسفام أو المرصد اللبناني لحقوق العمال الموظفين أو البرنامج الأوروبي الإقليمي للتنمية والحماية أو الجهات المانحة له.
[1] بحسب مقالة نُشرت على موقع Commerce du Levant في الأوّل من تمّوز 2020 (تمّ الاطّلاع عليها في 3 أيّار 2021): فقد 350 ألف شخص عملهم منذ بداية سنة 2019، أي ما يعادل ثلث العاملين في القطاع الخاصّ. ولا شكّ أنّ هذا العدد ازداد اليوم. أمّا المرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظّفين، فيقدّر أعداد المصروفين منذ بدء الأزمة الاقتصادية في النصف الثاني من 2019 بنحو 500 ألف عامل وموظّف “وهؤلاء يشكّلون ثلث العاملين قبل الأزمة”، فيما يرفع عدد اللبنانيين الذين فقدوا وظائفهم أو يعملون بنصف راتب أو بلا ضمانات إلى مليون شخص (أنظر في هذا الخصوص مقالة: الصّرف متواصل على قدم وساق والحكومة تتفرّج: مليون لبناني فقدوا وظائفهم أو يعملون بنصف راتب أو بلا ضمانات، لور أيّوب، المفكّرة القانونية كانون الثاني 2021).
[2] Philippe WARIN,“Qu’est-ce que le non-recours aux droits sociaux”, La Vie des idées, 2010 : “le non-recours renvoie à toute personne qui – en tout état de cause – ne bénéficie pas d’une offre publique, de droits et de services, à laquelle elle pourrait prétendre” (consulté le 29 avril 2021).
يعالج WARIN عموماً أسباب عدم اللجوء:
“…de l’ignorance pure et simple à l’échec de la demande, en passant par la non demande par désintérêt ou désaccord”.
[3] William L. F. FELSTINER, Richard ABEL et Austin SARAT, 1980, «The emergence and transformation of disputes: naming, blaming, claiming…», Law & Society Review, vol. 15, p. 631-654.
[4] Arnaud BEAL, Nikos KALAMPALIKIS, Nicolas FIEULAINE, Valérie HAAS, “Expériences de justice et représentations sociales: l’exemple du non-recours aux droits”, Les cahiers internationaux de psychologie sociale, 2014/3, no. 103, p. 549-573.
[5] نزار صاغيّة، النيوليبرالية تهيمن على فضاءات العمل، المفكّرة القانونية، العدد 28، أيّار 2015؛ “ليس بالوطنية وحدها تحمى العمالة”، المفكّرة القانونية، العدد 61، آب 2019.
[6] رولان إسبر، مجالس العمل التحكيمية تخالف القانون.. وبحاجة إلى إصلاح!، ليبانون ديبايت، 20 تمّوز 2017.
[7] عزّة الحاج حسن، لهذه الأسباب لا يلجأ الموظّفون المصروفون إلى مجالس العمل التحكيمية، المدن، 27 تشرين الثاني 2017.
[8] مقابلة مع رئيس اتّحاد نقابات قطاع شهد صرفاً كبيراً في الآونة الأخيرة.
[9] مقابلة مع كاسترو عبد الله، رئيس الاتّحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان.
[10] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف فيها على فروع عدّة.
[11] مقابلة مع أجيرة مصروفة كانت تتمتّع بخبرة سنين عديدة.
[12] مقابلة مع كاسترو عبد الله، رئيس الاتّحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان.
[13] مقابلة مع محامية.
[14] مقابلة مع أجير صُرف من عمله في مؤسّسة مهمّة تُعتبَر من أكبر المشغّلين في لبنان.
[16] مقابلة مع رئيس اتّحاد نقابات أجراء في قطاع كان مزدهراً حتّى عشيّة 17 تشرين.
[17] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان مدير فرع فيها.
[18] انظر أيضاً، لور أيّوب، الصّرف متواصل على قدم وساق والحكومة تتفرّج: مليون لبناني فقدوا وظائفهم أو يعملون بنصف راتب أو بلا ضمانات، المفكّرة القانونية، كانون الثاني 2021.
[19] مقابلة مع كاسترو عبد الله، رئيس الاتّحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان.
[20] مقابلة مع أحد الأجراء المصروفين الذي اعتبر أمامنا أنّه وضع نفسه وعلمه ومعرفته الشخصية في خدمة صاحب العمل ومصلحته.
[21]Alain VULBEAU, “Contrepoint – les prud’hommes: recours ou non recours?”, Informations sociales, 2013/4, no. 178, p. 81.:”On voit que, contrairement à ce qu’ils pensaient au départ, les salariés licenciés ne gagnent pas à tout coup”.
[22] تبيّن من خلال دراسة المفكّرة المذكورة، 2019، وفي مقالة منشورة في العدد المذكور، أنّه تمّ قبول، كلّياً أو جزئياً، الطلبات المُقدَّمة من قِبل الأجراء في معظم الأحكام الصادرة عن مجالس العمل التحكيمية في جبل لبنان وبيروت.
[23] مقابلة مع أجيرة مصروفة من عملها.
[24] محادثة مع أجيرة صُرفت من العمل بداية 2020 بعد 15 عاماُ عملت خلالها في المؤسّسة نفسها.
[25] مقابلة مع أجيرة صُرفت من عملها في مؤسّسة مهمّة تُعتبَر من أكبر المشغّلين في لبنان.
[26] وهو ما تؤكّده أبحاث أخرى خارج لبنان، مثلاً: المرجع السابق، Alain VULBEAU, p.81.
[27] بشكل يذكّر بطروحات الباحث ملكولم فيلي حول النظام الجزائي الأميركي:
Malcolm FEELEY, The Process Is the Punishment. Handling Cases in a Lower Criminal Court, New York, Russell Sage Foundation, 1979.
[28] مقابلة مع الأجيرة نفسها.
[29] مقابلة مع محامي شركات، يأخذ على عاتقه أحياناً بعض قضايا الأجراء.
[30] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان مدير فرع فيها.
[31] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف فيها على فروع عدّة.
[32] مقابلة مع أجير صُرف من عمله في مؤسّسة مهمّة تُعتبَر من أكبر المشغّلين في لبنان.
[33] مقابلة مع كاسترو عبد الله، رئيس الاتّحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين في لبنان.
[34] مقابلة مع أجيرة مصروفة من عملها.
[35] مقابلة مع مسؤول نقابي.
[36] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان مدير فرع فيها.
[37] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف على فروع عدّة فيها.
[38] لور أيّوب، المرجع السابق.
[39] أدوار متعدّدة لوزارة العمل في تنظيم علاقات العمل: الحقوق عند اليسر… فقط؟، سعدى علّوه، المفكّرة القانونية، 2019.
[40] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف على عدّة فروع فيها.
[41] مقابلة مع أجيرة صُرفت من عملها في مؤسّسة مهمّة في لبنان تُعتبَر من أكبر المشغّلين في لبنان.
[42] المرجع نفسه.
[43] Philippe WARIN,ibid, 2010.
[44] مقابلة مع أجير لم يقبض أجره.
[45] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف على فروع عدّة فيها.
[46] مقابلة مع أجيرة صُرفت من عملها في مؤسّسة مهمّة تُعتبَر من أكبر المشغّلين في لبنان.
[47] وهي المدّة القصوى التي يفرضها القانون على محكمة التمييز لتصدر قراراتها في موضوع الطعون المقدَّمة ضدّ أحكام مجالس العمل، حسب المرسوم الاشتراعي رقم 3572 تاريخ: 21/10/1980.
[48] مقابلة مع أجير مصروف من شركة كان يُشرف على فروع عدّة فيها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.