منذ بدء عملها، تميّزت المفكرة القانونية في تخصيص الجزء الأكبر من مواردها وطاقاتها لتعزيز استقلال القضاء. وقد جاء ذلك انطلاقا من قناعة منها بأمرين: أولا، أهمية استقلالية القضاء في مجتمع منقسم، وثانيا، تطوّر ثقافة التدخل في القضاء واستباحته واستتباعه على نحو يحجب الى حد كبير ثقافة استقلال القضاء، وذلك منذ انتهاء حرب 1975-1991ّ. وعليه، وفيما صُمّم النظام الطائفي في العشرينيات على أنه يهدف الى توفير الطمأنينة للمواطنين ليتلاقوا ويطوّروا معا حياة مدنية بمنأى عن الخوف والعوز، فان هذا النظام تحول بعد الحرب الى نظام استقطابي (نظام زعماء) يهدف الى تأطير المواطنين كافة ضمن شبكات مصالح تهيمن قياداتها على الحياة العامة برمتها.
وبنتيجة هذا التشخيص، يتمثّل أحد أبرز مقوّمات اعادة بناء الدولة في فكّ الارتباط بين القضاء وسلطات الاستقطاب الحاكمة. فبمعزل عن كيفية تقاسم السّلطة السيّاسية، فإن حماية حقوق المواطن وحرياته تشترط بالضرورة أن يبقى القضاء خارج اطار هذا التقاسم، أن يبقى مساحة عامّة يأمن لها الجميع، فيشعرون بالطمأنينة وتتوفر لهم حقوقهم الأساسية من دون اضطرارهم للارتباط بهذا الزعيم أو ذاك.
وانطلاقا من تشخيصها للواقع اللبناني (الذي نغوص في تفاصيله في ندوة الغدّ حول أهمية استقلال القضاء في مجتمع منقسم)، طوّرت المفكرة القانونية آليات عملها سعياً الى جبهه وتغييره. ولهذه الغاية نفسها، عملت مع شريكيها: الهيئة الدولية للحقوقيين والمعهد العالي الدولي للعلوم الجنائية، على تطوير مسارات ثلاثة، وذلك من خلال هذا المشروع الذي نطلقه اليوم. وهذه المسارات هي الآتية:
المسار الاعلامي والبحثي: رصد أشكال التدخل في القضاء وفهمها وتحليلها
وهذا المسار ضروري جدا. فالخروج من ثقافة التدخّل، وما يسبّبه من انتهاك لحقوق القضاة والمتقاضين، يستدعي جهوزية ومثابرة في رصد أوجهه وأشكاله ومخاطره، ويتطلب بالضرورة تخصّصا ومعرفة عميقة بالتنظيم والعمل القضائيين، والأهم قدرة على تطوير اشكاليات استقلالية القضاء ومبادئ المحاكمة العادلة. ويجدر التذكير في هذا الاطار بأن انشاء المفكرة القانونية كمشروع بحثيّ واعلاميّ متخصّص، تمّ أصلا انطلاقا من اعتقادنا بضرورة تعزيز الشفافية والمتابعة والرصد في الشوؤن القضائية، ضمن معايير مهنية عالية.
ولهذه الغاية نفسها، يطمح المشروع بداية الى صياغة تقرير شامل عن أوضاع القضاء وأبرز الاشكاليات المعيقة لاستقلاليته، وفق منهجية علمية تستند الى الوثائق والأرشيفات المتاحة والى المقابلات مع شهود عايشوا أحداثاً هامة في قصور العدل. ونأمل أن ننجز هذا التقرير في نهاية 2015، فيشكّل مادّة بحثية رئيسية للاصلاحات التي سنقترحها في السنتين اللاحقتين.
كما نعمل في اطار المشروع نفسه على تأسيس "مركز اقليميّ للدراسات والسياسات القضائية"، نأمل أن يعمل بالتنسيق مع معهد الدروس القضائية وأن يقدّم مادة بحث واغناء للقضاة العاملين والمتدرجين، ولمجمل المهتمين بالشأن القضائي، ومنهم الاعلاميين الراغبين في التخصص في الشؤون القضائية.
المسار الاجتماعي: تعزيز الحراك القضائي والحراك حول القضاء تعزيزا لمكانته الاجتماعية
خلال سنوات عملها، دعمت المفكرة مجمل الحراكات الداعمة لاستقلال القضاء أو لمكانته الاجتماعية، مع ايلاء أهمية كبرى للعمل مع القضاة، ايمانا منا بأن اصلاح القضاء يبدأ بالضرورة باستقلال القاضي الذي لا بدّ أن يكون شريكا في صنعه، وليس فقط متلقيّا له. وتاليا، يعمل المشروع بشكل خاصّ على دعم التوجّهات الاصلاحيّة داخل القضاء، وفي مقدّمتها التوجّه نحو انشاء تجمعات قضائيّة مهنيّة ديمقراطيّة على غرار تجربة حلقة الدراسات القضائية التي قام بها قضاة رواد في فترة (1969-1972) وعلى نحو يؤدّي الى تطوير التضامن بين القضاة وتعزيز ضماناتهم ازاء أي تدخّل أو استفراد أو تطييف، أو أيضا التوجه نحو تفعيل التشاركية داخل الجمعيات العمومية للمحاكم، والذي من شأن انشاء الهيئات الاستشارية المنشأة حديثا من مجلس القضاء الأعلى أن يشكل بداية له.
وفي هذا المسار نفسه، يهدف المشروع الى ابراز أهمية اللجوء الى القضاء في القضايا الاجتماعية الهامة، وخصوصا في القضايا التي تصطدم بموانع المصالح التوافقية السياسية. وهذا ما نسميه بالتقاضي الاستراتيجيّ أي التقاضي الهادف الى تغيير ممارسة مخالفة للقانون أو الى تكريس حقّ أساسيّ من خلال القضاء. فنقل هذه القضايا الاجتماعية الى منبر القضاء، ينعكس ايجابا على تصوّر القضاء لدوره وعلى تصور المواطنين له. ومن آخر المبادرات بهذا الخصوص وأبرزها، مبادرة سياسيين بتقديم دعوى الى مجلس شورى الدولة لاعادة الانتظام العام المتمثل في اصدار موازنة عامة بعد عشر سنوات من التأخير المفجع. ولا نقول جديداً اذا قلنا أنّ من شأن نجاح هذه المبادرات أن يؤدّي الى تعزيز التواصل بين الحراكات الحقوقية الاجتماعية والقضاء، فيتبدّى القضاء مدخلا رئيسيّا لتطوير المنظومة الحقوقيّة وفي أحيان كثيرة دواءً لعقم السّلطتين التشريعية والتنفيذية، ويزداد تاليا اهتمام المواطنين في الدّفاع عن استقلاله. وهذا ما شهدناه بوضوح من خلال الحملة التي أطلقها ذوو المفقودين لمطالبة الحكومة بتنفيذ القرار القضائي الصادر عن مجلس شورى الدولة في آذار 2014 والذي أقرّ حقّهم بالمعرفة بعد عقود من الانتظار. وللعلم، فان هذه الحملة تمّت تحت شعارين متلازمين: حق المعرفة واستقلال القضاء المتمثل في وجوب تنفيذ أحكامه. وهذا التفاعل بين الفئات الاجتماعية والقضاء سيعكسه فيلم وثائقي نعدّ له ليكون مادة اعلامية مرئية تسهم في تعزيز الارادة المجتمعية في الدفاع عن دور القضاء واستقلاله.
المسار التشريعي والمؤسساتي
ولعل فتح هذا المسار هو أبرز الاضافات التي سيتيحها هذا المشروع بالنسبة الى أعمالنا السابقة. وهذا المسار يتمثل بالدرجة الأولى بالعمل على صياغة عناوين واضحة للاصلاح وتحديدا مشاريع قوانين أهمها قانون تنظيم القضاء العدلي وتنظيمات في مجالات عدة كالمعايير المعتمدة لتعيين القضاة أو نقلهم، وذلك بالتنسيق مع الجهود التي يقوم بها مجلس القضاء الأعلى وسائر الهيئات القضائية في هذا الاطار. ومن أبرز المبادئ التي ستقودنا في هذا العمل، الآتية:
أولا، اعتماد مبدأ التشاركية في صياغة هذه المشاريع. فالشأن القضائي شأن عام بل أحد أهم الشؤون العامة، ويقتضي أن تشارك شرائح واسعة من المجتمع في التفكير فيه واصلاحه، وفي طليعتهم المحامين والأساتذة الجامعيين والقضاة والمنظمات الحقوقية. فبقدر ما يكون المشروع تشاركيا بقدر ما يحظى بزخم اجتماعي يزيد من حظوظ اقراره. وهذا ما سنحرص على ضمانه من خلال ضمان أوسع مشاركة اجتماعيّة في ورش الاصلاح فضلا عن أوسع تغطيّة اعلاميّة لمختلف مراحله وما تسفر عنه؛
ثانيا، تحديد أولويات الاصلاح بدقة ومع اتخاذ أعلى تدابير الحيطة تجنبا لأي آثار سلبيّة قد تؤدي الى خلاف ما نطمح اليه. فآليات محاسبة القضاة قد تؤدي الى سلبيات تفوق حسناتها (وهذا ما أثبتناه بالنسبة الى فترات زمنية عدة) في حال تطويرها أو الأصح تطوير الخطاب حولها من دون ايلاء الاعتبار الكافي لضمانات استقلالية القضاة. فتتحول المحاسبة وخطابها الى سبب اضافيّ لتجريد القضاة من حصاناتهم من دون أن يكون هنالك ضمانات كافية تحمي القضاة ازاء الانتقائية أو سوء استخدام هذه الآليات بحقهم. ومن هنا، أهمية أن يتم تطوير آليات التقييم والمحاسبة بالتوازي، وجنبا الى جنب مع الآليات الآيلة الى تعزيز ضمانات استقلالية القضاء،
ثالثا، الالتزام بالمعايير الدولية لاستقلال القضاء، ونكتفي هنا بذكر العناوين التي نراها الأكثر انتاجية في السياق اللبناني وهي أساسا: مبدأ القاضي الطبيعي (مع ما يستتبعه من الغاء للمحاكم الاستثنائية) ومبدأ عدم نقل القضاة الا برضاه ومبدأ المساواة بين القضاة من دون أي امتياز أو هرمية لقاض على آخر ومبدأ انتخاب أعضاء الهيئات القضائية المشرفة على المسار القضائي وحريتي التجمع والتعبير فضلا عن صون حق القاضي بمحاكمة عادلة في أي ملاحقة قد تؤدي الى اتخاذ اجراءات بحقه.
وانه من دواعي سرورنا اليوم أن نبدأ هذا المسار بالتنسيق مع نقابة المحامين في بيروت وممثلي وزارة العدل والهيئات القضائية الحاضرة هنا والقضاة، فنشكر جميع المتحدّثين في هذا الحفل الجالسين على هذه المنصة وفي الصالة لحضورهم ولاعلان استعدادهم على التعاون الايجابي والمثمر. واذ نعي أن هذا التعاون قد يعترضه أحيانا صعوبات معينة لاختلاف في المواقع أو في وجهات النظر في مسائل معينة أو حول الوسائل الفضلى لتحقيق استقلال القضاء أو مدى أولوياتها أو واقعيتها، فاننا سنتعامل مع هذا الاختلاف بشكل ايجابي جداً، لما تقتضيه مصلحة القضاء، مع تمسّكنا الكامل باستقلاليتنا وواجبنا بالنقد البنّاء.
وأملنا أن ننجح بفعل هذا التعاون، بوضع مشاريع قوانين تحظى بمشروعيّة قضائيّة واسعة وبتأييد مُجتمعيّ على حد سواء، فتصبح عنوانا لبناء الدولة الجديدة.
بقي أن نشكر باسم المفكرة وشريكينا الهيئة الدولية للحقوقيين والمعهد العالي الدولي للعلوم الجنائية، جميع الذين يدعمون بأعمالهم أو سيدعمون أيّا من مساراتنا الثلاثة، مباشرة أو غير مباشرة،وفي مقدمهم لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان واتحاد المقعدين اللبنانيين ومبادرة المساحة المشتركة وجميعة حماية المستهلك- لبنان وجمعية سكون وجمعية بدائل وعدل ورحمة وكفى.. الخ.. ويسعدني تاليا أن أعلن باسم المفكرة وشركائها، البدء بمسار طويل نأمل أن يكون موفقا، عنوانه: استقلال القضاء كأولوية اجتماعية.