ردّ المجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 7كانون الثاني2016 طعن نواب كتلة “اللقاء الديموقراطي” على قانون استعادة الجنسية اللبنانية رقم 41/2015، الذي قُدّم بحجة خرق القانون لمبدأ المساواة المُصان دستورياً، على خلفية البند الأول منه الذي استثنى اللبنانيين الذين اختاروا جنسية إحدى الدول التي انفصلت عن السلطنة العثمانية.
واعتبر الدستوري أن “القانون لم يميّز على الإطلاق وفق أسس العرق والدين والانتماء، بل كرّس قاعدة عامة شاملة يستفيد منها اللبنانيون”، إلا أنه آثر الصمت التام على عدم دستورية القانون لجهة وضعه شرطاً تمييزياً على أساس الجنس في البند -أ- منه، للاستفادة من بنوده، بإثبات المستدعي إدراج “اسمه هو أو اسم أحد أصوله الذكور لأبیه أو أقاربه الذكور لأبیه حتى الدرجة الثانیة” على سجلات الاحصاء 1924-1921 وسجل 1932 مهاجرين.
إلا أن نائب رئيس المجلس القاضي طارق زياده سطّر وحده مخالفةً بهذا الصدد حافظاً بعضاً من ماء الوجه لمجلس تتّسم سياسته منذ تشكيله بالهروب من البتّ بالمخالفات الصارخة للدستور، تحصيناً للنظام اللبناني القائم بأوجهه المتعدّدة، وتحديداً الذكوري هذه المرّة.
وهذا القرار يستدعي الملاحظات الآتية:
إستنكاف أول عن إحقاق الحق:
إغفال الصلاحية الشاملة في مراقبة دستورية القوانين
من خلال رصدها للمحطات الرئيسية في عمل المجلس الدستوري الحالي، كانت المفكرة القانونية قد توصّلت إلى اعتبار أن عمله هذا يتّسم بالاستنكاف عن إحقاق الحق[1]. وبالفعل لا بدّ من التذكير بأنه كان قد ردّ الطعون المقدّمة خلال فترة الفراغ قبل تعيين أعضائه، بحجّة عدم البت بها في مهلة الشهر القانونية، فراغ تسببت به التجاذبات داخل المجلس النيابي المطعون بقوانينه أمامه. كما أنه امتنع عن النظر في الطعن المقدّم ضد قانون التمديد الأول لولاية المجلس النيابي، بحجّة عدم اكتمال النصاب الذي عمد ثلاثة من أعضائه إلى تعطيله. كذلك امتنع عن النظر في الطعنين المقدّمين على قانون تحرير الإيجارات القديمة بحجة نشر القانون في الجريدة الرسمية قبل موعد صدوره الحاصل بعد يوم من تاريخ النشر. وأخيراً صدر قراره بشأن قانون التمديد الثاني لولاية المجلس النيابي في 2014، حيث “ورغم تسليمه بالحق (عدم دستورية التمديد…) فإنه استنكف عن إحقاقه”[2] بحجة الخوف من “الفراغ”.
ويشكّل صمت القرار الحالي رقم 1/2016 إزاء مخالفة قانون استرداد الجنسية للدستور لجهة التمييز ضد المرأة، بمثابة مضيٍّ في سياسة الاستنكاف هذه. وقد تجلّى ذلك من خلال تجاهل المجلس صلاحيته الشاملة لرقابة القانون بما فيها البنود التي لم تشملها مراجعة الطعن، ضارباً عرض الحائط اجتهاده الذي كان قد كرّس هذه الصلاحية، لا سيما في قراريه رقم 2/1999 و4/2001. وهذا ما ذكّر به القاضي زياده في مخالفته للقرار على قاعدة انه “لا يجوز لأي قانون جديد أن يكون مخالفاً للدستور”[3]. ف”لا يسع المجلس أثناء نظره في المراجعة أن يتجاهل نصاً مخالفاً للدستور”، ولو لم يكن محل طعن من قبل المستدعين. والتخلي عن هذه الصلاحية من قبل المجلس الدستوري هي بالواقع تخلّ عن مسؤوليته في ضمان دستورية القوانين المعروضة عليه.
استنكاف ثان عن إحقاق الحق:
حجب الدستور بأحكام القوانين القديمة
وقد منع تجاهل المجلس وصمته بشأن مدى دستورية التمييز ضد المرأة من الحصول على مادة تسمح بالتحليل والتعليق القانونيين. إلا أن ما جاء في مخالفة القاضي زياده للقرار يسمح باستنباط بعض ما شكّل دون أي شك، محوراً للنقاش داخل المجلس. فنجد في المقطع الأخير من المخالفة ما مفاده أنه “على فرض الجدل أن القانون المطعون فيه هو تمديد جديد لمهلة اكتساب الجنسية، فإنه يتوجّب أن يكون مراعياً لأحكام الدستور وغير مخالف لها، كما وقع في هذا القانون مما كان يوجب ابطاله لهذه الأسباب”. ومفاد ذلك أنه طٌرحت داخل أروقة المجلس علاقة قانون استعادة الجنسية بقانون اكتساب الجنسية الصادر عام 1925، أي بمعنى آخر اشكالية العلاقة بين قانون جديد وقانون سابق صدر قبل إنشاء المجلس الدستوري فبات من القوانين المحصّنة.
وتجدر الإشارة في هذا السياق أن عضو المجلس الدستوري صلاح مخيبر اعتبر في تصريح لصحيفة الأخبار[4] إثر قرار ردّ الطعن، ان المجلس كان “أمام معرض طعن في استعادة الجنسية لا اكتسابها” و”أن الأوضاع القانونية في ما خص الجنسية ليست متشابهة بين الرجل والمرأة، وبما أن القانون يتعلّق بتمديد لوضع سابق (عماده حرمان المرأة حقها في منح الجنسية)، فإن مسألة المساواة لم تكن موضوع بحث”.
ويبدو تعليق عضو المجلس غامضاً ومتناقضاً بعض الشيء أقلّه كما نقلته “الأخبار”. فيُفهم منه أنه فرّق في الجزء الأول منه بين قانوني استعادة الجنسية واكتسابها، ليعود ويعتبر أن القانون الجديد يتعلّق بتمديد لوضع سابق – أي حرمان المرأة من حق منح الجنسية -، مما شكل بالنسبة إليه على ما يبدو سبباً كافياً لإخراج المساواة بين الجنسين من دائرة البحث. ومن هذه الزاوية، يبدو القاضي مخيبر وكأنه يعتبر المجلس الدستوري مقيداً ليس فقط بأحكام الدستور، إنما أيضا بأحكام قانون الجنسية الصادر في 1925 رغم مخالفتها الواضحة للدستور، على أساس أن قانون 2015 باستعادة الجنسية هو مجرد تمديد له. وهذا التوجه يتعارض بالواقع ليس فقط مع المنطق القانوني إنما أيضا مع إجتهاد راسخ للمجلس الدستوري الفرنسي. ففي قراره رقم[5]18785-أو اجتهاده المعروف بÉtat d’urgence en Nouvelle-Calédonie، اعتبر أنه “تجوز إعادة النظر في دستورية قانون صادر خلال إعمال الرقابة على بنود قانونية تعدّله أو تكمّله أو تؤثر على نطاقه باستثناء الحالة التي لا تغدو البنود القانونية سوى تطبيق لهذا القانون”[6]. ويعتبر Bruno Genevoisأمين سرّ المجلس الدستوري الفرنسي السابق[7] أن هذا الإجتهاد الذي وسع من صلاحيات المجلس الدستوري وُضع من جهة للعودة عن اجتهادات سابقة قابلة للانتقاد الشديد، منعت توسّع الرقابة على قوانين سابقة غير دستورية صادرة في فترة لم يكن المجلس الدستوري قد أنشئ فيها، عند إعمال الرقابة على قوانين تعدّلها[8]، وللسماح للمجلس من جهة أخرى ب”منعاستفادة قانون قديم غير دستوري من “أعمال تدعيم”[9] (والعبارة للعميد (Vedelمن خلال تعديله أو الإضافة إليه أو توسيع نطاق تطبيقه”[10].
وقد كرر المجلس الدستوري الفرنسي اجتهاده هذا في قراريه رقم 89-256[11]و99-410[12].وحتى أن التطبيقات الأحدث لهذا الاجتهاد الثابت[13] ذهبت في اتجاه توسيع مدى الرقابة على القانون القديم، من خلال إعمال الرقابة على بنود قانونية جديدة. ففي قرارات صادرة عام 2012، طالت رقابة المجلس قوانين سابقة في حالات لم تكن تشكّل القوانين الجديدة “أعمال تدعيم” لها، باعتماده قراءةً واسعةً جداً لتأثير قانون جديد على نطاق تطبيق قانون قديم[14]، أو حتى في حالة حمل فيها قانون جديد مطابق للدستور آثاراً على تطبيق قانون قديم غير دستوري[15].
وبالعودة إلى قرار المجلس الدستوري اللبناني، نلحظ أن القانون المطعون فيه هو يشكل توسيعاً لنطاق تطبيق القانون القديم على أساس أنه يمدد مهلة اكتساب الجنسية – حسب العبارة التي جاءت في مخالفة القاضي زيادة – ويسمح باكتسابها من خلال أقارب الأصول وليس فقط الأصول. وقد كان حرياً تالياً على ضوء الإجتهاد الفرنسي، بالمجلس الدستوري إعلان عدم دستورية الشرط التمييزي ضد المرأة، ليس فقط في قانون استرداد الجنسية، بل في قانون اكتسابها أيضاً. أما وأنه برر التمييز الحاصل ضد المرأة في القانون المطعون فيه بالتمييز الحاصل في القانون القديم، فذلك يقرب العبث ويشكل شكلاً آخر للاستنكاف عن إحقاق الحقّ.
المجلس الدستوري يكرّس المسار التحجيمي لصلاحياته
بخلاصة القرار رقم 1/2016، يكون المجلس قد تجاهل أولاً صلاحيته الشاملة في الرقابة على كافة بنود القانون على عكس اجتهاده التوسعي المكرّس لهذه الجهة، واعتبر ثانياً بعض أعضائه أنفسهم ملزمين بالتقيد بقوانين سابقة غير دستورية و”التمديد لوضع سابق” على عكس توجه الاجتهاد الفرنسي في هذا المجال، وعلى عكس دور المجلس الأساسي: أي مراقبة مدى تطابق القانون مع الدستور وليس مع القوانين السابقة.
وتأتي في السياق نفسه هشاشة التعليل المؤسس للقرار، إذ لم يعمد المجلس إلى وضع أي تعريف أو معيار “للاختلاف في الأوضاع القانونية” أو ل”اختيار” جنسية إحدى الدول التي انفصلت عن السلطنة العثمانية (فهل على هذا الاختيار أن يكون طوعياً؟)، والتي برّرت برأيه استثناء من “اختاروا تابعية إحدى هذه الدول”. وهذه الهشاشة في التعليل، وتجاهل مسألتي مدى دستورية التمييز ضد المرأة، والتمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات بمنح حق باستعادة الجنسية من دون أي التزام لفئة منهم، تنمّ عن جمود كبير جداً، وعن تقويض أي دور للمجلس في تطوير القانون عبر اجتهاداته. ويأتي تصريح[16] عضو المجلس صلاح مخيبر ليعزّز هذا الانطباع، إذ أعلن أن “كنا قد أعددنا جزءاً من القرار يتعلّق بالطائفية والمساواة والعيش المشترك، إلا أننا ارتأينا إلغاءه”. ولذلك دلالات بالغة الخطورة بالنظر إلى دور المجلس الجوهري في تطوير الاجتهاد باتجاه تحصين الحقوق والحريّات الأساسية.
والمؤسف أننا نجد المجلس الدستوري قد عمد طوعياً بذلك إلى تقليص دوره وصلاحياته، استكمالاً لما كانت السلطة التشريعية بدأت به. فمن الجدير التذكير بأن تعديل الدستور عام 1990 أتى مخالفاً لنص إتفاق الطائف في ما خص المجلس الدستوري، إذ حصر مهام المجلس بمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية، وجرّده من صلاحية “تفسير الدستور” الواردة في نص الطائف، بحجّة أن ذلك يعود حصراً للمجلس النيابي.
من هنا أتت الإشادة بمخالفة نائب رئيس المجلس القاضي طارق زياده التي، شكّلت مرجعاً يمكن البناء عليه في التحليل والفقه القانونيين، حتى وإن لم يكن لها التأثير الحاسم على اجتهاد المجلس. وتظهر بذلك أهمية الحفاظ على حق تسطير رأي مخالف، والذي كان قد ألغي بتعديل قانون إنشاء المجلس الدستوري عام 1999[17]، بحجة المحافظة على هيبة مقررات المجلس[18]، قبل أن يُعاد ويكرّس في 2005.
نشر هذا المقال في العدد | 35 |كانون الثاني/يناير/ 2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القضاء يخسر معركتين في سبعة أيام
[1] أنظر “المجلس الدستوري يسلّم بالتمديد كامر واقع: خطوة إضافية في اتجاه الاستنكاف عن إحقاق الحق”، المفكرة القانونية، العدد 24 و”المجلس الدستوري وقضية قانون الإيجارات: حين أصبحت سمته الاستنكاف عن إحقاق الحق”، المفكرة القانونية، العدد 18.
[2]أنظر “المجلس الدستوري يسلّم بالتمديد كامر واقع: خطوة إضافية في اتجاه الاستنكاف عن إحقاق الحق”، مذكور أعلاه.
[3] أنظر أيضاً ميراي شكرالله نجم وبول مرقص، المجلس الدستوري اللبناني في القانون والاجتهاد، مشروع دعم الانتخابات النيابية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع المجلس الدستوري، 2014، ص. 106.
[4] هديل فرفور، “ردّ الطعن في «استعادة الجنسية»: الطاعنون «يدرسون» القرار”، الأخبار، العدد 2782 تاريخ 8 كانون الثاني/يناير 2016.
[5]Décision n° 85-187 DC du 25 janvier 1985, rendue à propos de la
loi relative à l’état d’urgence en Nouvelle-Calédonie et dépendances,Rec. Cons. const. p. 43.
[6]« La régularité au regard de la Constitution des termes d’une loi promulguée peut être utilement contestée à l’occasion de l’examen de dispositions législatives qui la modifient, la complètent ou affectent son domaine, il ne saurait en être de même lorsqu’il s’agit de la simple mise en application d’une telle loi ».
[8]V. B. Genevois,
Un exemple de l’influence du contrôle a posteriori sur le contrôle a priori : l’application de la jurisprudence État d’urgence en Nouvelle-Calédonie,RFDA 2013 p.1.
[9]« Travaux confortatifs ».
[10]B. Genevois,
Un exemple de l’influence du contrôle a posteriori sur le contrôle a priori : l’application de la jurisprudence État d’urgence en Nouvelle-Calédonie,op. cit.
[11]Décision n° 89-256 DC du 25 juillet 1989, Rec. Cons. const. p. 53 ; RFDA 1989. 1009, note P. Bon ; CJEG 1990. 1, note B. Genevois ; AIJC. 1989. 473.
[12]Décision n° 99-410 DC du 16 mars 1999.
[13]V. Cons. const., 9 août 2012, décis. n° 2012-654 DC,
Loi de finances rectificative pour 2012, consid. 83, AJDA 2012. 1554, obs. M.-C. Montecler; AJDI 2012. 737, étude J.-P. Maublanc; Constitutions 2012. 561, obs. P. Bachschmidt;
ibid. 631, obs. C. de la Mardière; Cons. const., 13 déc. 2012, décis. n° 2012-659 DC,
Loi de financement de la sécurité sociale pour 2013, consid. 14 et 15 ; AJDA 2012. 2410; Cons. const., 29 déc. 2012, décis. n° 2012-662 DC,
Loi de finances pour 2013, consid. 20 à 22 ; AJDA 2013. 9; D. 2013. 1, édito. F. Rome;
ibid. 19, chron. A. Mangiavillano
.
[14]V. décision n° 2012-659 DC du 13 déc. 2012,
Loi de financement de la sécurité sociale pour 2013, consid. 14 et 15, AJDA 2012. 2410
.
[15]V. décision n° 2012-662 DC du 29 déc. 2012,
Loi de finances pour 2013, consid. 20 à 22, AJDA 2013. 9; D. 2013. 1, édito. F. Rome;
ibid. 19, chron. A. Mangiavillano
.
[16]هديل فرفور، “ردّ الطعن في «استعادة الجنسية»: الطاعنون «يدرسون» القرار”، الأخبار ، مذكور أعلاه.
[17]المادة 12 من القانون رقم 150 تاريخ 30/10/1999.
[18]أنظر نزار صاغية، “قراءة نقدية لخطاب الاصلاح القضائي في دولة ما بعد الطائف”، أوراق بحثية، المركز اللبناني للدراسات، 2008، ص. 21.