في الأشهر الأخيرة، قام عددٌ من السلطات البلدية في مناطق مختلفة من لبنان باعتماد إجراءات جديدة لتنظيم إقامة اللاجئين السوريّين في نطاقها. قد يعود سبب هذه الإجراءات إلى إنتخاب مجالس بلدية جديدة أو إلى موسم الصيف الذي يرى توافد للسياح والمغتربين إلى هذه البلدات. لكن معظم البلديات تبرّر ذلك بأسباب امنية غير واضحة، ورود شكاوى من المواطنين، أو بضرورة إستباق وقوع مشاكل في البلدة.
وفي حين اكتفت بعض البلديات بتنظيم إقامة السوريين عبر جمع المعلومات عنهم وحصر عدد اللاجئين الساكنين في الغرقة الواحدة وفرض تسجيل عقود الإيجار، ذهب العديد منها إلى تجاوز صلاحياتها القانونية وفرض إجراءات تقييدية تبدو غير متناسبة مع حاجة تنظيم إقامة السوريين، كالقيود المفروضة على تنقلهم وتردّدهم إلى الأماكن العامة والتي تشكّل تجاوزاً واضحاً لصلاحيتها القانونية.
تتخذ البلديات إجراءاتها بناءً على تعليمات من وزارة الداخلية صادرة منذ العام 2014، علماً أن الوزارة على علم بتجاوز البلديات لصلاحيّاتها القانونيّة. بالتالي، السؤال الملحّ اليوم يتعلق بكيفية تفسير البلديات لإختصاصاتها، وما هي الحدود التي تتحرك ضمنها عند تنظيمها لأوضاع اللاجئين في نطاقها؟ هل تلقت إيضاحات تفصيلية لحدود سلطتها، أم أن نظام إقامة اللاجئين صار يختلف من بلديةٍ إلى أخرى؟
مطلع شهر تموز الفائت، استعاد محافظ جبل لبنان بالوكالة فؤاد فليفل مضمون تعميم وزارة الداخلية، في تعميمٍ أصدره حول أمن المهرجانات الفنية[1]. أشار تعميم فليفل إلى: “الطلب الى البلديات بوجوب متابعة ملء الإستمارات للنازحين السوريّين وتجديدها دورياً وإبلاغ مالكي الأبنية المؤجرة بوجوب تسجيل عقود الإيجار لديها وفقاً للأصول”. هذا المضمون الفضفاض لا يوضح للبلديات حدود علاقتها باللاجئين السوريين. في المقابل، تفتح أمامها الباب للتوسّع بتقييد حريّات هؤلاء، تحت غطاء الأمن والإستقرار. أمام هذا الواقع، ظهر تباينٌ حادّ في الإجراءات التي تتخذها البلديات تجاه اللاجئين، سواءً في منطقة جبل لبنان أو في باقي المناطق اللبنانية.
بلدية زغرتا – إهدن:
نتروّى..
حتى اللحظة، تبدو بلدية زغرتا – إهدن حائرة. يقول عضو المجلس البلدي أنطوان فرنجية في حديث مع “المفكّرة القانونية”: “منذ استلامنا للبلدية قبل شهرين، ونحن نسأل الجمعيات والأمن العام وكل جهة قد تكون مختصة بموضوع اللاجئين لنعرف ماهية سلطتنا وما هي الإجراءات التي يمكننا اتخاذها في هذا الموضوع”. من بين الأسئلة التي لا يبدو أن البلدية قد حصلت على إجابة عنها، “هل لنا سلطة لنسلم الأشخاص الذين يخالفون شروط الإقامة النظامية للأمن العام؟”. إلى حين الحصول على إجابات واضحة، “تقوم البلدية حالياً بجمع المعلومات حول اللاجئين السوريين المقيمين في مدينة زغرتا” بهدف “خلق حالة تنظيمية قانونية”. يضيف فرنجية أن هناك “لجنة مؤلفة من مهندس وشرطي وموظف في مصلحة جباية الضرائب، تقوم بمسحٍ ميدانيّ للحصول على مجموعة من المعلومات حول إقامة السوريّين وإلتزامهم بالضرائب المترتبة عليهم جرّاء هذه الإقامة، وغيرها من المعلومات”. كلّ هذه المعلومات ستوظّف لاحقاً في تنظيم إقامتهم، لا سيما بالنسبة إلى من هم بوضع غير نظاميّ. فقد بدأت البلدية باتخاذ إجراءاتٍ لتأمين كفالة الأشخاص تمكّنهم من تسوية أوضاعهم القانونية، وفقاً لفرنجية: “لا يمكن أن نتخذ أي إجراء أخر إلا أن ننظم وجودهم”. يضيف فرنجية بلهجة المسلّم بالأمر الواقع:” شو منطردهن؟”، بمعنى أن الطرد لا يجوز.
زغرتا إذاً تتروى في إتخاذ الإجراءات، وهي أيضاً تلتزم عدم تقاضي أيّ أموالٍ من اللاجئين تتصل بصفتهم هذه. بالتالي، هم لا يدفعون إلا ما يترتب عليهم قانوناً. يؤكد فرنجية ذلك، كما يؤكد أنه لا يوجد أيّ تنظيم لمسألة تجوّل اللاجئين خلال أوقات الليل، مع أنها من أولى المسائل التي واجهات البلدية عند وصولها: “الأصل هو حرية التجوّل، إلا أن شرطة البلدية تستطيع أن تتخذ إجراءات (لم يوضحها) تجاه شخصٍ في حال غير مناسبة أخلاقياً أو إجتماعياً”. بذلك، يكون الباب قد ترك مفتوحاً لمنع تجوّل السوريّين، إذ يخضع لإستنسابية شرطي البلدية. الصورة في زغرتا بشكلٍ عام تبدو قيد البناء، فلا نظام يُناقش في ظل إمتناع البلدية عن الإجتهاد والتوسّع في ممارسة صلاحياتها بحق السوريّين المقيمين في منطقتها. إلا أن هذا الواقع يشكّل تعبيراً حيّاً عن تقصير السلطة المركزيّة، لا سيما وزارة الداخلية، على هذا الصعيد. فبلديات أخرى تخطت القوانين بحجة تنظيم إقامة اللاجئين.
بلدية جعيتا:
لماذا تأخذ أموالهم؟
على عكس زغرتا- إهدن، بنت بلدية جعيتا نظاماً حازماً تجاه اللاجئين السوريين. في حديثهم لـ”المفكّرة القانونية”، يشير لاجئون كثر إلى أن أكثر ما يزعجهم هو إجبارهم على دفع أموال غير مبرّرة، إن على شكل رسومٍ أو غرامات. ويطرح السؤال عن مدى قانونية إستيفاء هذه المبالغ من اللاجئين، وعن الجهة التي تذهب إليها هذه الأموال مشروعاً، لا سيما أن أحداً ممن قابلتهم “المفكّرة” لا يملك إيصالاً بالمبالغ التي دفعها.
وفقاً لرواية اللاجئين، 10 آلاف ليرة لبنانية هو الرسم الذي يدفعه شهرياً ّكل لاجئ سوري مقيم في جعيتا، بدل بطاقةٍ تعريفيّةٍ تلزمه البلدية بالحصول عليها وتجديدها بشكلٍ شهريّ. يقول حسام[2]، وهو أب لولدين، أنه يضطر حالياً على دفع مبلغ 30 ألف ليرة شهرياً لتجديد البطاقة التعريفيّة الصادرة عن البلديّة. هذا المبلغ الذي يسدّده عن نفسه وزوجته وعن السيارة التي يملكها، سيرتفع إلى 50 ألفاً عندما يتخطى ولديه سن 15 من عمرهما. في المقابل، لا تفيد هذه البطاقة حتى لاسترداد حقوق اللاجئ الأساسيّة، كالتجوّل مثلاً. فعلى الرغم من حيازتها، يبقى ممنوعاً من التجوّل بعد الساعة السابعة والنصف ليلاً: “هذه البطاقة التي كانت متوفرة قبل إستلام المجلس الجديد مهامه مجاناً، ما زالت موجودة إلا أنها صارت مقابل أموال”.
ماذا يحصل لو خالف لاجئ سوريّ حظر التجوّل البلديّ؟ يجيب إبراهيم: “تتم مصادرة أوراق الشخص، حتى ولو كان يحمل إقامة نظاميّة من الأمن العام، بحيث لا يستطيع إستعادتها إلا بعد دفع مبلغ 50 ألف ليرة”. يؤكد سليم هذه الرواية مدعماً إياها بما واجهه شخصيّاً: “اضطررت خلال أسبوعٍ واحد على دفع 200 ألف ليرة غرامات، إحداها بقيمة 100 ألف أتت مضاعفة كوني خرجت على دراجتي النارية إلى الصيدلية، فاضطررت أن ادفع 50 ألف عني وأخرى عن الدراجة”.
يجد اللاجئون أن هذه المبالغ تشكّل عبئاً غير مبرّرٍ عليهم، في ظل واقعهم الإقتصادي، وعلماً أن متوسّط دخل العامل السوري الشهري لا يتخطى 600 دولار أميركي. وهو رقمٌ يأتي على هامش قرار بعض البلديات بتحديد الحدّ الأقصى المسموح كأجر للسوريّ يومياً بـ 30 ألف ليرة، مثل بلدية راشيا الوادي. فيجد السوريّون صعوبةً أصلاً في تسديد تكاليف معيشتهم لا سيما في ظل ربطهم بنظام الكفالة، فكيف برسوم إلزامية شهرية إضافية، وغير مبررة، وغرامات لا يجوز أن تفرض عادةً إلا تجاه مخالفات محدّدة قانوناً، والتجوّل ليس واحداً منها.
عند سؤاله عنها، يشرح رئيس بلدية جعيتا وليد بارود لـ”المفكّرة القانونيّة” أن البلدية تتقاضى 5 آلاف ليرة عن البطاقة فقط، وهي “تكلفة إصدارها”. أما الأموال التي تجنيها فستذهب “لشراء جهاز لإصدار بطاقاتٍ رقميّة متطورة في وقتٍ لاحق”. في الوقت الراهن، البلدية “تجمع معلومات حول اللاجئين المقيمين في نطاقها، وذلك بناء على طلب من الأمن العام”، يجزم بارود. ويكمل: “فالبطاقة تتضمنالإسم الثلاثي وإسم الام، الجنسيّة، محل وتاريخ الولادة، رقم هوية الشخص، رقمي صاحب عمله وكفيله، عنوان السكن، بالإضافة إلى صورة شمسية له”. كما تحصل البلدية أيضاً على “بصمة لكلّ شخص”. في المقابل، لا تمنح هذه البطاقة وفقاً لبارود إلا للأشخاص الذين يحملون إقامات نظامية، ما يجعل التساؤل ملحّاً عن حاجة الأمن العام لهذه البطاقة إن كانت معلوماتها متوفرة لدى الامن العام نفسه ضمن مستلزمات استخراج الإقامات نظامية. ما يجعل حجة البلدية لجمع المعلومات غير مقنعة. فهل المردود المالي هو السبب الأكثر وجاهةً لإصدارها، ما دام هذا التنظيم لا يؤدي إلى أيّ تبدّل في وضع السوريّين، بإقرار بارود نفسه؟
إن تنظيم اقامة السوريين في جعيتا يرتبط بإصدار هذه البطاقات التي لا تتيح لهم التجوّل بعد الساعة السابعة والنصف مساءً إلا في ٍحالات خاصة يطلب فيها الكفيل لعمّال التوصيل في المطاعم ذلك. وتسجّل حالات خاصة قائمة على المحسوبية، في حال كان الكفيل على علاقة جيدة بالبلدية. خارج هذا الإطار، يدفع اللاجئ الذي يتجول خارج الساعات المحددة غرامة لا ترتكز إلى سندٍ قانوني واضح.
في كفرذبيان وكفرمان:
ضابط مراقبة، وابتكارٌ في الممنوع!
بعدما صارت القيود على التجوّل التي تفرضها البلديات على السوريين أمراً مألوفاً رغم لا قانونيته ولادستوريته، برزت إشكاليات يومية في إطار هذا التنظيم لعل أبرزها إدخال صاحب السكن والكفيل كضابطَي إيقاع للعلاقة بين اللاجئ والبلدية. يشير اللاجئ إبراهيم الى أنه كان يقف امام باب الغرفة التي يسكنها، عند الساعة الثامنة مساءً، عندما سأله صاحب الملك: “شو بعدك عم تعمل برا؟” (ماذا تفعل في الخارج). يكمل صاحب الملك :”لا أريد مشاكل مع البلدية”. ما يشرح رغبة البلدية بالحصول على رقم هاتف صاحب البيت الذي يسكنه اللاجئ، إذ تحوّل إلى أداة ضغط على اللاجئ بأمانه السكني. تنسحب الحال على صاحب العمل الذي يستطيع أن يضغط على عماله بقوتهم اليوميّ، بغية تلافي “وجعة الراس مع البلدية”.
هذه العلاقة تبدو أكثر وضوحاً في التعميم التي تتوجه فيه بلدية كفرذبيان بتاريخ 24/6/2016 إلى “مالكي الأبنية المؤجرة والمستعملة من قبل الرعايا السوريّين” في البلدة. ومن بين ما تطلبه البلدية من أصحاب الملك “إيداع البلدية لائحة إسمية بعدد المستأجرين، مع صورة عن هويتهم وطريقة دخولهم إلى الأراضي اللبنانية”. كما تطلب منهم منع المستأجرين من “إستضافة أحد، وخاصة بعد الساعة الثامنة”. بهذا المعنى، تكون البلدية قد فوضت صلاحيات لا تملكها أصلاً على المؤجرين، لتنفيذ الإجراءات التي تريد إتخاذها. فتضمن البلدية إلتزام الأفراد بإرادتها من دون ايّ سندٍ قانونيّ، وبضغط إحتمال أن يطردهم المؤجّر من المنزل. سكوت السوريين عن ذلك كله يطرح السؤال حول مدى قدرتهم الفعلية على الإعتراض على إجراءات البلدية والوصول إلى العدالة للدفاع عن حقوقهم القانونية.
إذا كان الوصول إلى العدالة صعباً بالنسبة إلى السوريين، فإن الوصول إلى الأماكن العامة ممنوعٌ في العديد من المناطق. في تعميم أخر لبلدية كفرذبيان صادر في التاريخ ذاته، تطلب من “الفتيان من اللاجئين السوريين…عدم الدخول إلى الأرزاق والأملاك الخاصة والعامة”، وكأن الملك العام يخضع لنظامٍ مماثل للأملاك الخاصة، عندما يتعلق الأمر بالسوريّين.
الحال يصبح أكثر فداحة في بلدية كفررمان الجنوبية. إذ ذهبت الأخيرة حدّ وضع نظامٍ متكاملٍ مفصّلٍ، ينطوي على تعديات لا متناهية على حقوق اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها.[3] هذا النظام أقل ما يقال فيه أنه يرمي إلى “ترحيل” السوريّين خارج البلدة. فقد قرّرت البلدية منع اللاجئين من “ركن سياراتهم أو دراجاتهم النارية في الأماكن العامة أو على الطرقات مهما كانت الأسباب وإقتصار ركنها في باحات منازلهم التي يستأجرونها”. كذلك، “عدم السماح للاجئين السوريّين بارتياد الحدائق العامّة بسبب إكتظاظ المواطنين اللبنانيّين في هذه الأماكن في أثناء فصل الربيع والصيف لأسباب امنية”. ويمنع اللاجئون أيضاً من “إقامة الأعراس إلا بعد إعلام البلدية، وذلك حصراً في الإستراحات بعيداً عن أماكن التجمّعات السكنيّة على أن يتم تحديد ساعة العرس ومكانه وعلى أن تنتهي الاعراس عند الساعة السابعة والنصف”. يلتقي الموعد مع إنتهاء الفترة المسموحة فيها للاجئين بالتجوّل في البلدة، أيّ عند الساعة الثامنة صيفاً.
نشرت هذه المقالة في العدد |42|آب/أغسطس 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
[1] التعميم رقم 2072/2016 يتعلق بتدابير متصلة بحفظ الاستقرار العام، الصادر عن محافظ جبل لبنان بالوكالة بتاريخ 5/7/2016
[2]– الأسماء جميعها مستعارة.
[3] القرار رقم 148 متعلق بتنظيم ملف النازحين السوريين في بلدة كفررمان، الصادر عن المجس البلدي لبلدية كفررمان بتاريخ 11/9/2016