“
منذ أسبوعين، في 13 تشرين الثاني 2018، أقرّ مجلس النواب قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسريا، لذلك نحن هنا اليوم لنحتفي به، وبتكريسه حقّنا بمعرفة مصير أحبائنا، وكلنا إدراك أن هذا التاريخ ليس كما قبله.
بداية، اسمحوا أن نهنئ أنفسنا، أنا والأهالي. كل واحدة وواحد منكم يستحق التهنئة. هذا الإنجاز من صنيعتكم. أنتم حقّقتموه. أنتم الحاضرون هنا وغيرالحاضرين. إنجاز صنعتموه بتمسكِّكم بالحق، بحبّكم لمن اختطفتهم الحرب من بينكم. بتحمّلكم ما يعجز جبل عن تحمّله، بصبركم، بمعاداتكم للحرب وانحيازكم للسلام يا صنّاع السلام.
الآن هنا ، وأنا أقف بينكم ، يحضرني مشهدُ لقائنا الأول هناك، على كورنيش المزرعة، قرب جامع عبد الناصر (17 تشرين الثاني 1982). يومها، جئتم تلبية لنداء أطلقته عبر الراديو إثر خطف زوجي. كنّا نساءً بالمئات: أمهات، زوجات، أخوات وأولاد. لم نكن نعرف بعضنا. المصيبة جمعتنا. تعارفنا، تعاهدنا على توحيد الجهود سعياً لإعادة أحبائنا سالمين. لم تستطع نيران الحرب ولا سطوة المحاربين أن ترهبنا، أن تخفّف من عزيمتنا، ولا أن تمنعنا، بعد ذاك اليوم، من خرق حواجز الانقسام والتلاقي على خطوط التماس من المنطقتين، الغربية والشرقية. اسألوا شوارع بيروت وساحاتها كم تعبت من وطء مظاهراتنا واعتصاماتنا. اسألوا عنّأ الحكّام الذين تعاقبوا، اسألوهم عن سبب تهرّب غالبيتهم من مواجهتنا، عن عدم قدرتهم التطلّع بوجوهنا، ومَن فعلها، حتماً كان بضغط عنادنا وإصرارنا. نحن لم نترك باب مسؤول إلاّ وطرقناه، حتى أننا توجّهنا إلى قادة الحرب مراهنين على صحوة ضمائرهم. فلا بد أن يكون للإنسانية محل لدى كل شخص مهما انقاد في ظروف الحرب في اتجاهات سوداء مظلمة.
أُعلن ما سمي السلم العام 1990 ، استبشرنا وهلّلنا. لكنه للأسف، لم يُعد لنا الأحبة، ولم يعُطنا خبراً عنهم. حاول حكّام ذاك السلم المزعوم، خنق أصواتنا المطالبة بالحقيقة عن مصير ذوينا. تذرعوا بحجج واهية، مرةً بحجّة تهديد السلم الأهلي، وأخرى بالتأسيس لإشعال حرب جديدة….
أنظر إلى نفسي، أنظر إليكم، أراكم فخراً يختصر تركيبتنا الفريدة التشكيل. فرادة طائفة متماسكة عابرة للطوائف في أوج موجة التطييف والانقسامات. طائفة تجاوزت كل التحديات والعقبات، وبقينا موحدّات في زمني الحرب والسلم. حقاً صرنا الإعجاز بعينه، وهذا القانون/الإنجاز يليق بنا. ولمن قال لنا ذات يوم أنتم تهددون السلم، نقول له: نحن الذي نصنعه.
أراكم اليوم وجوهاً مرتاحةَ التقاسيم، نضرةً، وكأنها محتْ ثقل 36 عاماً من الانتظار والمعاناة ..
كما أراني أستحضر وجوها رافقتنا درب الجلجلة، لكنها غادرتْ الحياة، ولم تعد بيننا.
مسيرة نضال سقط لنا خلالها شهيدات. أذكر أم نبيل أبو الهيجا، نايفة نجار حمادة وأو ديت سالم.
مسيرةُ نضال غيّبت منا كثرين ممن خطفهم اليأس، أو القهر أو التعب، أو المرض، أو الشيخوخة، او الحياة التي لم تعد بالنسبة لهم تشبه الحياة. عذرا لعدم ذكر أسمائهم فاللائحة طويلة (جانيت شمعون، أم علي جبر، أم محمد هرباوي، أم أحمد شرقاوي، أم توفيق دقدوقي… علي عوض سيف الدين، إميل شعيب، موسى جدع، أبو جورج عوض…).
أتمنى طول العمر لكل الأهالي. “سوا” بدنا نكمّل الطريق عنّا وعنُّن. ومعهم “بدنا نوقع” إنجاز رحلة ألف ميل بألفها ويائها.
مسيرةُ نضال جميل خاضه معنا رجلان دون أن يكون لأي منهما مفقود، ودون أي حساب لوقت أو لجهد أو لمال. قصدتُ الغائبين الحاضرين: سنان براج وغازي عاد.
سنان براج، كان أول مَن وقف إلى جانبنا، رافقنا النضال في أوج سنوات الحرب، تبنى القضية يوم كنا وحدنا على الأرض، صارت شغله الشاغل داخل لبنان وخارجه. شكراً لك أستاذ سنان، شكراً لبصمتِك في هذا الإنجاز.
غازي عاد، ماذا عساني أقول عنك، لك، أيها القاعد الواقف كرامةً؟ معذرة يا رفيق الجلجلة عن التقصير في توصيفك. مزاياك كثيرة. يكفينا التذكّر كم كنتَ كبيراً بإدراك حجم مأساتنا، بتصدّيك لمحاولات تجزأتها، توظيفها، تسييسها حرصاً منك على بعدَيها الإنساني والوطني. ليتك بيننا الآن يا غازي لنخبرَ معاً ظروف ولادة فكرة هذا القانون، مداولاتِنا بشأنه مع عدد من الأصدقاء الداعمين. كيف تشاركْنا في كتابة مقدّمته، في متابعة كل مراحله، من صياغة المسودة الأولى حتى وصوله إلى مجلس النواب. أخالك يا غازي، من حيث انت وتزامناً مع ذكرى رحيلك الثانية، سعيداً بإقرار القانون. أراك، بابتسامتك المعهودة، رافعاً شارة النصر بيد، وشاداً على أيدينا باليد الأخرى وكلك ثقة بمتابعة المسيرة موحدين من أجل تطبيق أحكام هذا القانون.. فألف تحية لروحك غازي.
بالعودة إلى القانون، من دون التوقّف على تأخّره 28 عاماً (اتفاق الطائف)، نرى أنه خطوةٌ متقدمة في نضالنا. أنه محطةٌ مفصلية هامة في مسار حراكنا ليس فقط لحل قضيتنا، إنما للمجتمع اللبناني كله:
-على مستوى الأهالي: لقد كرّس هذا القانون حقَّنا بالمعرفة. بموجبه ستُشكّل هيئة وطنية مستقلةمن ذوي الخبرة والاختصاص. تتمتع بالصلاحيات اللازمة والإمكانيات المادية واللوجستيةالمطلوبة للقيام بعملها: وضع نظام داخلي، تشكيل لجان متخصصة، جمع المعلومات، الاستماع إلى الشهود، إجراء التحقيقات،التعامل مع مسألة المقابر الجماعية… وصولاً إلى إعطاء كل عائلة الجواب الوافي عن مصير مفقودها. هذا ما يريده الأهالي، لا يريدون أكثر منه، ولا يقبلون بأقّل منه.
-على مستوى المجتمع: إن الاعتراف الرسمي بحق المعرفة يعني أن هذا الحق مجتمعيٌ بامتياز، يسري على كل الناس، وينطبق على معرفة كل الحقائق. إن تطبيق أحكام هذا القانون يشكل الممر الإلزامي للمصالحة الحقيقية. كما إنه يساعد الدولة على استعادة مصداقيتها وعافيتها، والقيام بمسؤولياتها . يعيد إليها الاعتبار لأنها عندما تقررُ البحث عن مفقودينا فهي تفتش عن مواطنيها، تفتش عنهم كمواطنين او مقيمين متساوين دون أي تمييز طائفي أو مذهبي أو مناطقي… كما يساهم في تحصين المجتمع من الانزلاق مجدداً إلى التقاتل…وها قد أتتْ الفرصةُ المناسبة لاستثمار هذا الانجاز لصالح المفقودين وأهاليهم، لصالح المجتمع، لترسيخ مقوّمات إعادة قيامة الدولة.
هذا القانون أردناه لمعرفة مصير غيّابنا. وهذا خيارٌ استراتيجي للأهالي. ونفيدكم علماً أننا لسنا مسؤولين عن المادة 37 من القانون المتعلقة بمعاقبة الفاعلين أو المحرضين على الخطف. وهي لا تضيف شيئا إلى القانون الحالي أو إلى مطالبنا. إن مسودة مشروع القانون التي تقدّمنا بها لم تتضمّن أية عقوبة على ارتكابات الماضي.. وقد اقتصرت المحاسبة التي نريدها ليس على مَن دفعته نفسُه إلى الإساءة إلينا وإلى أبنائنا في ظروف الحرب، بل على مَن ينبذ حقنا اليوم، في الحاضر وفي المستقبل. يعني على كل مَن يتجاهلُ حقنا الذي تمَّ تكريسُه قانونا بالمعرفة، على كل من يمنع النفاذ إلى المعلومات، أو يتسبّب بعرقلة إتاحة المعلومات المطلوبة. أو يعطي معلومات خاطئة تؤدي إلى تضليل عملية تقفي أثر أي مفقود أو مخفي قسرياً أو عرقلتِها. وهو خيارٌ استراتيجي نتمنى أن يدركَ كلُ من يسمعنا، وبالأخص من أساء إلينا يوما، أبعاده العميقة فينا. نعم، نحن نغفر توقاً لوطنٍ يوحّدنا، لوطنٍ ينفض عنه قيمَ الحرب ليكرِّس قيمَ السلم الحقيقية حيث المساواة والاحترام المتبادل. غفرانُنا ليس أمراً شخصيا بيننا وبين أيٍّ كان. غفرانُنا رسالةٌ إنسانية نقايضُ فيها المسامحةَ عن جرائم الماضي بوثبةٍ نتمناها على صعيد القيم، وثبة هيّأ لها البرلمان من خلال القانون وهي تتحقّق عند تنفيذه. أقولها مرة أخرى، متوجهةً إلى كل من أساء إلينا في ظروف الحرب: هذا هو خيارنا: غفرانُ الماضي مقابل وثبة نحققها معا جميعا على صعيد القيم. وترجمتُها التزامٌ أمينٌ، لكل من لديه معرفة بشأن مصير المفقودين، بحق الأهالي بها. ننتظر ممن يعرفْ البوحَ بالحقيقة، ولكم منا أن نوفِّر، قدر المستطاع، البيئة السليمة لتسهيل البوح بهذه الحقيقة.
ونذكّر إثباتا لذلك، أننا لم نلجأ يوما إلاّ للدولة (أي لما يجمعنا جميعا)، لم نتخلّ يوماً عنها بعكس ما فعلته بحقنا… أننا راهنّا عليها ونراهن. أننا لم نلجأ يوما إلى الطوائف لأن قضيتَنا من صلاحيات دولتنا. لأن ذاكرتَنا ووجعَنا كما ذاكرة الضحايا، هي ذاكرةُ تجمع ولا تفرق. حاولنا دائماً من موقعنا كشهودٍ وقوة مطلبية، أن نوظفَ وجعَنا في خدمة هذه الدولة، ولم نسع يوما إلى إستخدامها. وأعتقد أنه حسناً فعلنا. يدُنا كانت قصيرة، لكن عيننَا كانت وما تزال بصيرة.
إنطلاقاً من هذا الإنجاز الذي استطعنا تحقيقه “بطلوع الروح”، بعمل مضنٍ وشاق، على أرضٍ ملغّمة بأفخاخٍ متعددة الوجوه والألوان الأوزان على مدار سنوات اقتربت من عقدها الرابع،
وبعد أن نجحنا في تثبيت حق المعرفة، وتأمين الإطار القانوني لذلك،
وبناء على الإجماع اللافت حول إقرار القانون، وشيوع جو عام من الرضى والإستحسان من جراء ذلك، إن على المستوى السياسي أو المجتمعي.
السؤال الذي يُطرح: الآن، ما العمل ؟ سبق وذكرت في البداية، أن تاريخ 13 تشرين الثاني 2018 ليس كما قبله على مستوى هذه القضية.
- للأهالي أقول: وصلتْ قضيتَنا إلى محطةِ مفصلية، إنها استراحةُ محارب، نحن في أول خطوة نحو الخلاص، وليس الخلاص. مجددا علينا شحذ قوانا وعدم التخلّي عن العزيمة والإرادة الصلبة التي أوصلتنا إلى هذه المحطة. علينا تجديدُ صبرٍ أصبحنا نملك مفتاحَه. علينا المثابرة لإكمال المسيرة يداً واحدة، كما دائماً، للترجمة العملية لأحكام هذا القانون حتى نصل إلى بر الأمان.
- للحكومة المنتظرة أن تسرع الإجراءات لتنفيذ أحكام هذا القانون بدءاً بتشكيل الهيئة الوطنية، بتسمية مرشحيها، آملين منها أن تختار أعضاءها وفق معايير الكفاءة والنزاهة والمصداقية، وفقط وفق هذه المعايير، بعيدا عن اعتماد المحسوبيات والمحاصصة الطائفية، المذهبية والسياسية… فالمعايير الوطنية الجامعة التي عملنا وفقها منذ كنا على خطوط التماس حتى اليوم، هي التي يجب أن تسود في عملية اختيار أعضاء الهيئة، ضمانا لتطبيق نفس المعايير في أعمالها. إن الاسراعَ في إنشاء هذه الهيئة ضرورةٌ تفرضُها ضرورةُ جمعِ العيناتِ البيولوجية من الأهالي واستلامِ العينات التي باشرت بجمعها، مشكورة، البعثة الدولية للصليب الأحمر .
- للمجتمع بأفراده وهيئاته الحقوقية والإعلامية، نناشدُكم مواكبتَنا والسيرَ قُدما. لأن اقرارَ حقوقنا هو الطريق الأمثل لإعادة بناء الدولة على ذاكرة موحّدة، على أسس المساواة والعدالة والديمقراطية. فلنحافظ معا على هذا الإنجاز، فلنبقه بعيداً عن الانقسامات التي تنخر جسم بلدنا، تماماً كما حافظ عليه صانعوه، أهل القضية ، في زمني الحرب والسلم. فلنثبته من خلال تنفيذ القانون (الكشف عن مصائر المفقودين والمخفيين قسرياً والتخفيف من معاناة عائلاتهم)، فلنستثمره لبناء قيم السلم على أنقاض قيم الحرب.
- للذين اساؤوا إلينا عن قصد أو غير قصد في ظروف الحرب، والذين يملكون معلومات مفيدة حول مصائر المفقودين، هذا القانون لم يأتِ ليولِّد نزاعا بيننا أو أيَّ نزاعٍ جديد. أتى لينهي النزاعاتِ من خلال تضميد الجراح التي ما برحتْ تنزف.. جراحنا. فأرجو التعاملَ معه على هذا الوجه كما سبق وأوضحت. أرجو أن تعلموا أن مَن يعرف هو الذي يملكُ اليوم بلسمَ جراحِنا (المعرفة) وأن القانون أتى لينظِّم انتقالَ هذا البلسم منه إلينا بعدما تمَّ إعلانُه حقا لنا. بلسمٌ يضمِّد جرحنا فنطوي الماضي معا. الدعوةُ أوجِّهُها لكل من يملك هذا البلسم، لكل من يعرف، أيا كان مقامُه ودورُه، أن يتوجه إلى الهيئة الوطنية، فور إنشائها، لتسليمها ما لديه من معلومات.
لنستعدّ جميعا للعمل إنطلاقاً من هذه المحطةِ المفصلية، التاريخية، سعياً لوضعِ خاتمةٍ لهذا الملف، وختمِ أحزانِنا.
أخيرا، شكرا للرؤساء الثلاثة
شكرا لأعضاء مجلس النواب الحاضرين والسابقين،
شكراً للبعثةِ الدوليةِ للصليب الأحمر لما بذلتْه من جهودٍ كبيرة في السنوات الأخيرة. وشكرا سلفا لها على الجهود اللاحقة التي سيتطلبها تنفيذ القانون خلال السنوات القادمة، نحن نعوِّلُ عليها كثيرا.
شكرا لـ “حقنا نعرف” ،”للمفكرة القانونية” و”لنعمل من أجل المفقودين” ولكافة
شكراً لكل مَن آزر مسيرتَنا من محامين وقضاة وكتّاب وصحافيين وفنانين ومؤسسات إعلامية وثقافية.
شكراً للوجوه المواطنية التي مسحتْ العار عن جبين ما ارتكبه مجتمعُنا مع زعمائه خلال السنوات السوداء التي نأملُ مع إقرارِ القانون أننا بدأنا في تركها وراءنا.
مبروك لنا نحن الأهالي اعتراف الدولة بنا: اعتراف أولي هو بمثابة وردة نُهديها لمن يعود، أو نضعُها على ضريح مَن رحل.
شكراً لمجيئكم، شكراً لإصغائكم.
“