قيس سعيد والحبيب بورقيبة: الطريق إلى ظلال الماضي


2022-08-15    |   

قيس سعيد والحبيب بورقيبة: الطريق إلى ظلال الماضي

أفلتت ظلال أوّل رئيس لتونس المستقلة من ترتيبات النسيان. تَرسّخت سيرة “زعيم الأمة” في الذاكرة الجمعية مثل الشّوك والحَصَى. ربّما أنصفت الأيام تَماهي الرئيس الحبيب بورقيبة مع فكرة الخلود، عندما قال عن نفسه يوما: “إنني أعتبر نفسي مسؤولا عن هذه الأمة حيا وميّتا”.[1] فلم ينجح خَلفَه زين العابدين بن علي في إزاحته من إحداثيات الذاكرة، وكان موته في سنة 2000 بعد انسحاب درامي من المشهد مُحزنا للكثيرين، وقد أحيا من جديد صورة الرئيس-الأب. وَصفت الصحفية الراحلة نورة البورصالي جنازة الرئيس بورقيبة قائلة: “لا أزَال أرى اليوم مرور تابوته وحماس الجماهير المتأثرة حتى الدموع…فهمت في ذلك اليوم أن بورقيبة لم يُنسَ ولم يمتْ في ذاكرة التونسيين ومِخيالهم”.[2] عاد بورقيبة بعد ثورة 2011 في سياق إحيائي- سلطوي، إذ أصبحت صورته جزءاً من لعبة توظيف الرموز في معركة الظفر بالسلطة.

لم يكن رئيس تونس الحالي قيس سعيد بعيدا عن المناخ الإحيائي للإرث البورقيبي. ولم يُخفِ انبهاره في أكثر من مناسبة بأوّل رئيس للجمهورية التونسية. فتَح قيس سعيد عينيه على الدنيا في ظل الحقبة البورقيبية.  تَعلّم في مدارس الدولة الاستقلالية وعاصر المناخ الثقافي والسياسي الذي أشاعته جمهورية بورقيبة. وقد كان في نضج الشباب عندما عايَن ترهّل العرش البورقيبي وسقوطه التراجيدي على يد الكولونيل بن علي الذي أصبح وزيرا أوّلاً في آخر أيام بورقيبة. لكن وَارث قصر قرطاج الجديد لا يبحث عن بورقيبة-الرمز من أجل الوصول إلى السلطة -مثلما تفعل ذلك رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي- وإنما يبحث عن بورقيبة-المشروع، بما يحمله من وسائل الهيمنة والتأثير والإقناع.   

   

العودة المُظفّرة إلى النظام الرئاسوي

في إحدى إطلالاته التفسيريّة على نشرة أخبار الثامنة التي يُذيعها التلفزيون الرسمي في تونس، التي تعود تقريبا إلى أواخر شهر أفريل عام 2013، استأذن الخبير الدستوري قيس سعيد من صحفية الأخبار حتى يتمكّن من عرض صورة أمام الكاميرا، يظهر فيها الرئيس بورقيبة على غلاف الصفحة الأولى من جريدة “العمل” وهو يُلقي خطابا حماسيا على الشعب. يعود غلاف الجريدة إلى تاريخ 02 جوان 1959، وهو يوافق اليوم الذي تلا ختم دستور جوان 1959 من قبل الرئيس بورقيبة. أشادَ الخبير الدستوري حينها بعظمة ذلك اليوم التاريخي ولكنّه قال مستدركا بأن دستور 1959 “تحوّل إلى أداة من أدوات الحكم”. تلك الصورة استحوذت على مخيال سعيّد-الرئيس ورافقَته إلى قصر قرطاج، حتى أنه أمَر بوضعها في إطار زجاجي للدلالة على قيمتها الرمزية. أعاد الرئيس الاستظهار بتلك الصورة في مناسبتين: كانت المناسبة الأولى عندما استقبل مباركة عواينية أرملة الشهيد محمد البراهمي أواخر جوان 2021. أما المرة الثانية فكانت بعد حوالي شهر ونصف من إعلان سلطة التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، عندما استقبل العميدين الصادق بلعيد ومحمد الصالح بن عيسى وأستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ. لكن ما الذي جعل الصفحة الأولى من جريدة عمرها أكثر من ستة عقود تحظى بهذا التبجيل المفرط لدى الرئيس؟

أعاد الرئيس الاستنجاد بتلك الصورة في سياق المحاججة بعدم صلاحية دستور 2014، مستشهدا بمقطع من خطاب بورقيبة في جوان 1959 يقول فيه: “الدستور قابل للتطوّر بتطوّر الزمان”. وكان يربط تغيير الدستور أساسا بتغيير النظامين السياسي والانتخابي. وفي 18 جوان 2021 لم يُخفِ الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي أن الرئيس سعيّد أعلمه صراحة بأنه يريد العودة إلى دستور 1959 بعد إدخال تنقيحات عليه وفقا لما تقتضيه مرحلة ما بعد الثورة، ثم تنظيم استفتاء شعبي حول تلك التنقيحات. وبالفعل تحققت العودة إلى دستور 1959 عبر فصول دستور جوان 2022، الذي أعاد إنتاج جينات النظام الرئاسوي من خلال مركزة السلطة التنفيذية بيد الرئيس وتوسيع صلاحياته دون تركيز آليات الرقابة والمحاسبة، وإضعاف السلطة التشريعية من خلال إخضاعها لتدخل السلطة التنفيذية. لتكتمل بذلك ملامح النظام الرئاسوي، “الذي يقول تعريفه الأكثر بساطة بأنه نظام رئاسي ممزوج باختلال توازن السلطات لصالح رئيس الجمهورية”.[3]

عندما تعالت موجة النقد للرئيس سعيد بعد تباطئه في تعويض حكومة هشام المشيسي بحكومة جديدة إثر الانقلاب الدستوري في 25 جويلية 2021، وَجدَ في التجربة البورقيبية ملاذا للتبرير. فصرّح قائلا: “في تونس لم تكن هناك حكومة في دستور 1959. ولكن كان هناك مجلس كتاب الدولة”. وبهذا التلميح، كان الرئيس يرسم اتّجاهاً مستقبليّاً واضحاً نحو تركيز نظام رئاسوي ظهرت ملامحه الأولى في الأمر 117 الصادر في سبتمبر 2021، ثم اكتمل بناءه القانوني من خلال دستور جوان 2022. وقد كان أستاذ القانون الدستوري الموبوء بسِيَر الزعماء والملوك يُدرك المعركة الذكية التي خاضها الرئيس بورقيبة داخل المجلس القومي التأسيسي لسنة 1956 من أجل الانزياح بالنقاش من النظام الملكي البرلماني إلى النظام الرئاسي. فمنذ إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 أفلحت حكومة بورقيبة في “إدخال تعديلات جوهرية على مشروع دستور جانفي 1958، في اتجاه توفير أكثر ما يمكن من صلاحيات للسلطة التنفيذية، لأن تاريخ تونس حسب بورقيبة “كان دائما تاريخ فتن”. ولا يمكن حسب هذا الاعتقاد ضمان الاستقرار السياسي الاجتماعي إلا بسلطة تنفيذية قوية غير مقيّدة بعدة ضوابط وقوانين وحدود”.[4] وقد برّر أيضا بورقيبة التوجّه نحو النظام الرئاسي عوضا عن البرلماني بالاضطراب السياسي الذي شهدته الجمهورية الرابعة في فرنسا، معلناً في الوقت ذاته “تحمّسه لنظام رئاسي شبيه بالنظام الأمريكي”.[5] وقد لقيَ الاتجاه البورقيبي آنذاك انتقاداً من بعض النوّاب الذين دافعوا عن فكرة التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من بينهم محمود الماطري وعلي البلهوان وأحمد بن صالح.

القائد مُنشغل بصناعة التاريخ

يبدو اختيار الرئيس سعيد تاريخ 25 جويلية موعداً أوّلاً للانقلاب على دستور 2014، ثم محطّة ثانية لتمرير مشروعه الدستوري الجديد عبر استفتاء في ظرف سنة، يضعه ضمن استئناف التاريخ البورقيبي. وكأنه بهذا الانتقاء الزمني يريد الإشارة إلى أنّه يشكّل امتداداً لتاريخ تأسيس الدولة الوطنية، ولكن من زاوية “تصحيحية”. وهو ما أشارتْ إليه توطئة دستور جوان 2022 في الفقرة القائلة: “كان لا بدّ من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ، وهو ما تم يوم 25 جويلية 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهورية”. وفي فقرة أخرى من التوطئَة وَردَ فيها: “بدأت حركة تحرّر فكري فحركة تحرير وطني، وجاء الانفجار الثوري في 17 ديسمبر 2010، وانطلقت في إثرها حركة التصحيح بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لإعلان الجمهورية، للعبور إلى مرحلة جديدة في التاريخ”.

تُشير بعض الروايات إلى أنّه كان من المنتظر إعلان الجمهورية غرة جوان 1957، ولكن بسبب تعقيدات الوضع التونسي إزاء الاستعمار الفرنسي تم تأجيل ذلك. ولم يكن اختيار 25 جويلية اعتباطيّا، لأنه يوافق تاريخ تأميم الرئيس المصري جمال عبد الناصر قناة السويس. وهكذا “كان لابد لبورقيبة من حدث يضاهي في شعبيته وقوّته ما أقدم عليه عبد الناصر عند تأميم قناة السويس”[6] بخاصة وأنه كان يتعرّض إلى حملة تشكيك في المشرق بوصفه زعيم تحرير وطني، وكان غريمه صالح بن يوسف يحظى بدعم مصري وإقليمي يُزاحم قيمة بورقيبة ودوره في معركة التحرير الوطني. وتبدو هذه الرواية متناسبة مع نظرة بورقيبة لنفسه كفاعل في التاريخ، فإن “يوغرطة المنتصر” مثلما كان يقول عن نفسه، كان ينظر إلى نفسه بوصفه صانعا للتاريخ. هو الراوي والسيرة في آن، والسردية التاريخية التي لا تتّسع لها أرشيفات وتراجم. فقد كان يقول: “إنني على استعداد لأدلي إلى المعنيّين بالتاريخ بتفاصيل حيّة وبأسباب الأحداث ومسبّباتها ممّا يعسر أو يتعذّر وجوده في الوثائق المكتوبة وإنما هي متّصلة بهذا الشخص الذي صنع التاريخ”.[7] وقد شهدت العقود الثلاثة التي أعقبتْ الاستقلال هيمنة سردية تاريخية تُماهي بين الرئيس بورقيبة وتاريخ الحركة الوطنية[8]. وقد ساهمت بطانة الرئيس في ترويجها عبر قنوات الدعاية الحزبية وداخل برامج التعليم الرسمية.

هذا الهَوَس البورقيبي بصناعة التاريخ استثَار الرئيس سعيد، الذي اعتقد بشكل أو بآخر أنه شبيه بورقيبة في تغيير مجرى التاريخ في لحظات زمنية قصيرة. ورغم أن سعيّد لا يملك الغِنَى “السيّر ذاتي” الذي يملكه الرئيس بورقيبة، إلا أنه يسعى إلى ربط فعله السياسي الخاص بتواريخ ذات رمزية جماعية، من بينها 17 ديسمبر ذكرى اندلاع الثورة، الذي جعله عيدا وطنيا للثورة عوضا عن 14 جانفي، وحدّده كموعد أولي لإجراء الانتخابات التشريعية القادمة. وهو ما ينطبق أيضا على موعد 25 جويلية الذي يوافق ذكرى إعلان الجمهورية.   

 

السلطة وإنتاج القداسة: الرئاسة -الإمامة- النبوة

في الذكرى الأخيرة لرحيل الرئيس بورقيبة، وعلى مقربة من ضريحه، استرسَل الرئيس قيس سعيد في التذكير بمناقب الرئيس الراحل. عموما أراد سعيّد التذكير بالجانب “الرّسالي” في شخصية بورقيبة. لم يكن بورقيبة -في نظره- رئيسا دنيويا فقط وإنما قام بثورة تشبه إلى حدّ ما الانقلابات التاريخيّة التي دشّنها الأنبياء. وقد ذَكر سعيد بأن بورقيبة قام بثورة ثقافية غيّرت وجه تونس، حتى في أبسط التفاصيل اليومية من بينها اللباس. ومن الملاحظ أن الرئيس سعيّد يضع نفسه داخل هذا النمط “الرّسالي” في الحكم الذي يتجاوز إمكانيات البشر العاديين. فقد قال بعيد دخوله إلى قصر قرطاج بأيام قليلة بأن انتخابه رئيسا للجمهورية يُعتبر “ثورة حقيقية بمفهوم جديد…هي ثورة حقيقية بأدوات الشرعية ذاتها. ثم هي ثورة ثقافية غير مسبوقة. والثورات الثقافية ليست كتبا تنشر أو مناشير توزع، بل هي وعي جديد…هي لحظة تاريخية يتغيّر فيها مسار التاريخ”.

لم يكن بورقيبة يخفي إحساسه بالنبوءة، وفي بعض الأحيان كان يستعير سيرة النبيّ محمّد وأصحابه للدلالة على عظمة مسيرته السياسية والاجتماعية. وقد ساهم الإحساس بقداسة الموقع في الاضطلاع بوظيفة “الإفتاء” أو “الإمامة” التي برعَ فيها بورقيبة من خلال تفسير الأحاديث الدينية وفقاً لأهدافه السياسية والفكرية[9]. وفي الكثير من الأحيان، كان بورقيبة يتكلّم من موقع الفقيه المُطّلع على المعاني الخفيّة للنصّ الديني. ولم يَشذّ قيس سعيد عن هذا النمط الذي يربط القيادة السياسية بالإمامة الدينية. وقد برز هذا الاتجاه مؤخرا من خلال الجدل حول علاقة الدين بالدولة في دستور جوان 2022. فقد حاول سعيّد الظهور في صورة الإمام المُمسك بالحقيقة الدينية. ومن خلال الفصل الخامس أراد التميّز عن سابقيْه، من بينهم بورقيبة نفسه، من خلال ربط دور الدولة بالحفاظ على مقاصد الإسلام الخمسة.

إن احتلال موقعيْ “الرسالة” و”الإمامة” يأتي لإضفاء القدسية على موقع “الرئاسة”. وهكذا يصبح رئيس الدولة ظاهرة ميتا-تاريخية، ذات صبغة إعجازية في بعض الأحيان. وعلى المستوى السياسي العملي يُشكّل هذا التمثل مدخلاً للسلطوية والاستبداد باسم احتكار “الحقيقة” و”السلطة” معًا. وهنا نستحضر إجابة الرئيس بورقيبة حول دوره في النسق السياسي التونسي، عندما قال بالفرنسية: “Quel système. Je suis le système” (عن أي نسق. أنا النسق).[10] ورغم أن مشروع قيس لم يفصح بعد عن كامل فردانيته السياسية، إلا أن السلوك السياسي للرئيس الحالي وتصوراته للسلطة والمعارضة والمجتمع، تضعه على طريق الاستبداد. بخاصة وأن مجمل النظام السياسي مشدود إلى شخصه، الذي يمقت الرئيس أن يكون محلّ تشكيك أو انتقاد. وهو إلى حد الآن يتحاشى الحديث عن صلاحياته الواسعة وامتيازاته الكبيرة التي وهبها لنفسه عبر دستور جوان 2022.      


[1]  حافظ عبد الرحيم. أنا الزعيم: قراءة سوسيولوجية في الكاريزما البورقيبية وامتداداتها، ط1، تونس: كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، 2011، ص: 97.

[2]  نورة البورصالي. بورقيبة والمسألة الديمقراطية: 1956-1963 (تعريب محمد عبد الكافي) ط3، تونس: دار نقوش عربية، 2016، ص: 263.

[3]  مهدي العش، محمد الصحبي الخلفاوي، بمشاركة سامي بن غازي. الرئيس يريد: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره. منشورات المفكرة القانونية، تونس، جويلية 2022، ص: 52.

[4] عبد الجليل بوقرة. المجلس القومي التأسيسي: الولادة العسيرة لدستور جوان 1959، ط1، تونس: دار آفاق للنشر بتونس، 2011، ص: 51.

[5]  المرجع نفسه ص: 48.

 [6] خليل بن عبد الله: متلازمة بورقيبة ومسألة الصراع على السلكة في تونس: 1927-1987، تونس: دار مسكلياني للنشر، 2020، ص: 113-114.

[7] شكري المبخوت. الزعيم وظلاله: السيرة الذاتية في تونس. ط1، تونس: المنشورات الجامعية بمنوبة،، ص: 2016، ص: 95.  

[8] المرجع نفسه.

[9] للوقوف أكثر على علاقة بورقيبة بالإسلام. انظر: لطفي حجي، بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة. آمال موسى: بورقيبة والمسألة الدينية.

[10] حافظ عبد الرحيم. أنا الزعيم،  ص: 95. (مرجع مذكور سابقا)

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني