مشروع دستور سعيّد: الرئاسويّة دُفعة واحدة، البناء القاعدي بالتقسيط


2022-07-05    |   

مشروع دستور سعيّد: الرئاسويّة دُفعة واحدة، البناء القاعدي بالتقسيط

تمّ تحيينه بتاريخ 09/08/2022

نُشر مشروع الدستور في ساعة متأخرة من ليلة 30 جوان. كما كان متوقّعا، حمل المشروع كلّ بصمات قيس سعيّد. ليس فقط بصمات الفاعل السياسيّ المتصارع مع خصومه، الذي جعل من توطئة الدستور فضاءً لتصفية حساباته وتبرير قراراته وكتابة تاريخه وتخليد ذكراه. ليس فقط بصمات المدرّس الشغوف بتاريخ القانون الدستوري، الذي عرض علينا في توطئة الدستور اكتشافاتٍ جديدةً في تاريخنا الدستوري. وإنّما أيضا، وهذا الأهمّ، بصمات المرشّح الذي يحمل منذ 2012 مشروعًا، هو البناء القاعدي، وبصمات الرئيس الذي ضاق ذرْعا بالسلط المضادّة وآثر تركّز السلطة بين يديه من دون رقيب أو حسيب. النتيجة، نظام سياسي يصعب أن ينتج حدّا أدنى من الديمقراطية، في ظلّ انخرام تامّ لتوازن السلط لصالح رئيس الجمهوريّة، من شأنه أن يزيد اختلالا مع صدور المراسيم الانتخابيّة التي ستستكمل تطبيق مشروع البناء القاعدي. فقد أبقى سعيّد لنفسه، في الأحكام الانتقاليّة للمشروع، على السلطة التشريعيّة، بما يمنحه سلطةً مطلقةً في تنزيل أحكام دستوره واستكمال بنائه. ما كان واضحا عند قراءة المشروع، تأكّد بمقارنته مع المسودّة التي أعدّتها اللجنة الاستشاريّة، وعلى رأسها الصادق بلعيد، والتي سمح نشرُها بتقفي أثر التعديلات التي أدخلها سعيّد بنفسه.

1- البناء القاعدي: وُضعت الأُسُس، في انتظار المراسيم

ليس مفاجئًا أن يسعى الرئيس سعيّد لتطبيق مشروعه بعد إطاحته بدستور 2014. هو يرى في البناء القاعدي خلاصًا ليس لتونس فقط، وإنّما للإنسانيّة جمعاء. وهو يرى فيه رجوعًا لروح الثورة التي انحرفتْ بها منظومة الانتقال الديمقراطيّ. لكنّه تفادى بعناية، منذ 25 جويلية 2021، تبنّي مشروعه بوضوح، وفضّل تمريره تدريجيًا، معتمدًا أسلوب المواربة. باختصار، يقوم هذا المشروع على إجراء الانتخابات في مستوى العمادات وفق نظام الاقتراع على الأفراد في دورتيْن، ليشكّل المنتخبون مجالس محليّة على مستوى كلّ معتمدية، على أن يصعد من كلّ مجلس محلّي، عبر أسلوب القرعة، ممثّلًا في المجلس الجهويّ على مستوى الولاية، وممثّلًا في المجلس الوطني، مع خضوعهم جميعًا لإمكانيّة سحب الوكالة من قِبَل ناخبيهم. كل ذلك مقابل رئيس منتخب مباشرةً يحتكر السلطة التنفيذية، وهو الجانب الذي كثيرًا ما يُغيّب عند تقديم المشروع، ولا يقبل أيّ محاسبة. وبالإضافة إلى الطابع الرئاسويّ للنظام السياسيّ الذي كرّسه مشروع الدستور وسنأتي عليه فيما بعد، جاء باب “الوظيفة التشريعيّة” ليضع أسس البناء القاعدي، ويفتح المجال للمراسيم كي تستكمل البناء وفق إرادة الرئيس.

أوّلا: سحب الوكالة من النواب

كان من المنتظر أن ينصّ مشروع الدستور على إمكانيّة سحب الوكالة من النواب. فقد كانت الاستشارة الوطنية، التي لم يكن هدفها سوى تمرير الخيارات الكبرى للبناء القاعدي وإلباسها رداء الإرادة الشعبيّة،  فتحتْ الطريق لذلك. جاءتْ الأسئلة موجّهة بطريقة لإضفاء شرعيّة على الأضلع الثلاثة للمشروع، وهي نظام رئاسي، ونظام الاقتراع على الأفراد، وسحب الوكالة من النواب، بالإضافة إلى روحه، وهي الطابع المحلّي للحلول الاقتصاديّة. قيّد سعيّد لجنة صياغة مشروع الدستور بمخرجات الاستشارة، فكان متوقّعا أن نجد سحب الوكالة فيه. بالفعل، نصّ الفصل 61 على أنّ “وكالة النائب قابلة للسحب وفق الشروط التي يحدّدها القانون الانتخابي”. قد يرى البعض في سحب الوكالة ضمانةً ديمقراطيةً من شأنها إبقاء المنتخبين تحت المساءلة، لكنّها، بالإضافة إلى خطر عدم الاستقرار الذي دفع غالبية الأنظمة التي أقرّتها (خصوصا في بعض الولايات الأميركية) إلى الحدّ منها، تتضمّن خطرًا أكبر داخل الهندسة السياسيّة التي يريدها سعيّد. إذ من شأنها أن تزيد من إضعاف السلطة التشريعيّة، وتحديدًا النواب المعارضين، عبر إخضاعهم لسيف ديموقليس حيث يُمكن للرئيس، بما يفترض أن يمتلكه من شعبيّة في كامل التراب الوطني، أن يدفع إلى عزل أيّ نائب يعارضه. خصوصًا وأنّ الرئيس لا يخضع لهذه الآلية. فوكالته فوق أيّ إمكانيّة للسّحب، ولو فقد دعم الغالبية الساحقة من الشعب.

ثانيا: المجلس الوطني للجهات والأقاليم

على عكس دستور 2014، تضمّن مشروع دستور سعيّد برلمانًا مكوّنًا من غرفتيْن: مجلس نواب الشعب، ومجلس وطنيّ للجهات والأقاليم. يُنتخب هذا الأخير من طرف المجالس الجهويّة، بحساب ثلاثة ممثلين عن كلّ جهة، وممثل عن كلّ إقليم. تحمل هذه الغرفة فلسفة البناء القاعدي، بعدم اعتمادها معيار التمثيل الديمغرافي، أي مقعدًا نيابيًّا لكل عدد معيّن من السكّان، وإنّما تمثيل الجهات. يُمكن أن يكون ذلك مقبولًا في غرفة برلمانية عُليا، دورها التشريعي ثانويّ، ولو أنّ هذا المبدأ أقرب إلى الأنظمة الفدراليّة كالولايات المتحدة الأمريكية، حيث يكون للمساواة بين الولايات مغزًى أكبر. لكنّ دور هذا المجلس ليس ثانويّا، وإن كان منحصرا في قوانين المالية ومخططات التنمية بهدف “ضمان التوازن بين الجهات والأقاليم”. إذ اشترط المشروع للمصادقة عليها الأغلبيّة المطلقة لكلّ من المجلسين، على حدّ سواء، ولم ينصّ على أن تعود الكلمة الفصل إلى مجلس نواب الشعب، كما في كلّ البرلمانات المكوّنة من غرفتيْن في التجارب المقارنة. لا يعني ذلك فقط خطر تحوّل المجلس الثاني إلى غرفة منافسة للأولى، ولكن أيضا خطر عدم الاستقرار في حال لم يتّفق المجلسان. اكتفى مشروع الدستور بالإحالة على قانون، أي على مرسوم سيُصدره الرئيس عملًا بالأحكام الانتقاليّة، لينظّم العلاقة بين المجلسيْن.

ثالثا: حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب… ثم التراجع عنه

لم يكتفِ مشروع الدستور، في نسخة 30 جوان، بإخضاع المجلس النيابي الثاني لفلسفة البناء القاعدي، وإنّما حذف شرط الانتخاب المباشر للمجلس النيابي الأوّل. لم يكن ذلك مجرّد سهو، فقد ورد شرط الانتخاب المباشر في المشروع ذاته في علاقة بانتخاب رئيس الجمهورية، والأهمّ، أنّه كان موجودًا في الفصل 54 من مسودّة الهيئة الاستشاريّة بما يتّصل بكيفيّة انتخاب المجلس النيابيّ. بذلك، كانت النيّة متجّهة لفتح باب الانتخاب غير المباشر لمجلس نواب الشعب، تطبيقًا لمشروع البناء القاعدي. دفعتْ الانتقادات والمخاوف التي أثارها ذلك بعد صدور نسخة 30 جوان الرئيس إلى إعادة شرط الانتخاب المباشر في تعديلات 8 جويلية، بعنوان “الأخطاء التي تسرّبت إلى النصّ”. لكنّ هذا التراجع لا يعني تخلّيًا عن فلسفة البناء القاعدي في المجلس النيابي الأوّل. إذ يكفي إقرار الاقتراع المباشر على الأفراد في المعتمديات، بغضّ النظر عن الاختلال الصارخ في التوازن الديمغرافيّ بينها، وهو الخيار الذي دافع عنه سعيّد منذ 2011، كي نكون أمام مجلس نيابيّ أوّل حامل هو الآخر لروح البناء القاعدي. هذه الأخيرة تقوم على استبعاد مبدأ المساواة بين المواطنين، الذي هو جوهر الديمقراطية الحديثة، لصالح مساواة بين المعتمديات، التي ترى فيها وفاءً للثورة وانتصارًا للجهات المهمّشة.

رابعا: التخلّي عن اللامركزية، ودسترة  “المجالس المحلّية”

من بين بصمات الرئيس في علاقة بالبناء القاعدي، نجد أيضا الإحالة إلى الفصل 75 الذي يضبط مجال القانون، على “مجالس محلّية”، تُضاف إلى المجالس الجهويّة ومجالس الأقاليم. ففي حين يتحدّث الفصل 133 المتعلّق بالجماعات المحليّة والجهوية عن مجالس بلديّة، تتأتّى عبارة “مجالس محلّية” من مشروع البناء القاعدي، حيث تتكوّن وفقه على مستوى المعتمديات لا البلديات، ويقعُ منها تصعيد أعضاء البرلمان. في نسخة بلعيد، كان الفصل 75 يتحدّث عن الجماعات العمومية المحلية والجهوية، وهو ما يؤكد، مرّة أخرى، النيّة المبيتة لدى الرئيس لتنزيل مشروعه. وبما أنّ الدستور لم يضبط طريقة انتخاب المجالس الجهوية التي ستنتج عنها الغرفة البرلمانية الثانية، تُصبح فرضيّة تصعيدها من المجالس المحليّة، القائمة على انتخابات على مستوى العمادات كما في البناء القاعدي، واردةً جدًّا.

بالتوازي مع ذلك، وقع التخلّي عن اللامركزيّة التي كرّسها دستور 2014، لصالح فصل وحيد حول الجماعات المحلّية يكتفي بالإحالة إلى القانون، في صياغة شبيهة بدستور 1959. فلامركزيّة البناء القاعدي تخصّ فقط السلطة التشريعية، عبر تحويل الاستحقاق الانتخابي الوطني إلى استحقاقٍ محلّي في المعتمديات، في حين تخضع السلطة التنفيذية لمركزيّةٍ مفرطةٍ بين يدي رئيس الدولة. فالمشروع الذي يعد بديمقراطية جذريّة يحكم فيها الشعب نفسه، يقوم في الواقع على احتكار السلطة من طرف شخصٍ واحد.

2- نظام رئاسوي بالنصّ قبل الممارسة

لئن كان النظام الرئاسي يُصنّف ضمن الأنظمة التي تكرّس الفصل بين السّلط، إلاّ أنّه حامل بطبعه خطر الانحراف عند التطبيق إلى الرئاسويّة[1]. إذ لم ينجحْ النظام الرئاسي في بناء ديمقراطية مستقرّة سوى في الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى خصوصيات أمريكية يصعب تكرارها، كالفدراليّة والثنائيّة الحزبيّة المثلى والانتخابات النصفيّة (midterms) التي تجعل من الرئيس في معظم الأحيان غير متحكّمٍ في أغلبية الكونغرس وتمنع الانحراف إلى الرئاسويّة. في تونس، أصبح النظام الرئاسيّ في السنوات الأخيرة يقدّم كطوق النجاة الوحيد من الأزمات السياسيّة وحالة الشلل، استنادًا إلى تشخيصٍ خاطئٍ مبنيّ على مجرّد انطباعات يحمّل دستور 2014 مسؤوليّة الفشل السياسي.

إلاّ أنّ النظام الذي أرساه مشروع سعيّد لا يحتاج انتظار التطبيق كي يظهر طابعه الرئاسويّ.  فهو لا يقوم فقط على رئيسٍ منتخبٍ مباشرةً من الشعب، يتحكّم تمامًا في السلطة التنفيذية، إذ يمارسها بمساعدة حكومة يعيّنها ويقيل رئيسها وأعضاءها كما يشاء. وإنّما يكرّس رئيسًا منزّهًا عن أيّة مسؤوليّة أو رقابة. يفعل ما يشاء ولا يساءَل أبدًا. بعبارةٍ أخرى، يختلّ في هذا النظام توازن السلط تمامًا لصالح الرئيس. فإذا كان سعيّد حَذَفَ لفظ “السلط” تماشيا مع خطابه طيلة الأشهر الماضية المناهض لفكرة “السلطة القضائيّة”، فإنّ السلطة التنفيذية، على عكس البقيّة، تبقى بالضرورة سلطة بقوّة الإدارة والسلاح، خاصّة إذا حُصّنت من رقابة السلط المضادّة التي ستكون في الواقع كما في النصّ، مجرّد “وظائف”.

أولا: برلمان ضعيف ومنزوع الصلاحيات

خلافا للانطباع العامّ، يقتضي النظام الرئاسي فصلًا صارمًا بين السلط، يكون فيه البرلمان سلطة مستقلّة تماما لا تنازعها في صلاحياتها أي سلطة أخرى. في دستور سعيّد، البرلمان أبعد ما يكون عن هذه المقوّمات. بل هو برلمان محجّم الصلاحيات، معرّض لشتّى أنواع التدخّل والهرْسلة والضغط، مقسّم على غرفتين من شأن الثانية أن تعطّل الأولى وتُضعفها.

لا يقتصر الأمر على صلاحيّة حلّ البرلمان، الممنوعة في الأنظمة الرئاسيّة، والتي منحها دستور سعيّد لرئيس الدولة في حالة تقديم البرلمان لائحة لوم ثانية ضدّ الحكومة، أو بعد انتخاباتٍ رئاسيّة سابقةٍ لأوانها. بالإضافة إلى ذلك، لا يتمتّع مجلس نواب الشعب بالاستقلاليّة الإدارية والماليّة التي كانتْ مضمونةً في دستور 2014، مما يمنح السلطة التنفيذية نوافذ عديدة للضغط عليه. كما يشكّل إجراء سحب الوكالة نافذةً لإضعاف المعارضة البرلمانيّة عبر إبقائها تحت التهديد الدائم. كذلك الأمر بخصوص الحصانة النيابيّة التي تمّ الحدّ منها عبر استثناء “تعطيل السير العادي للمجلس” من مجالها، بما يسمح بالتضييق على المعارضة النيابيّة.

في مجال الصلاحيات، لا يحتكر البرلمان “الوظيفة” التشريعيّة، كما يقتضي ذلك النظامُ الرئاسي، وإنما للرئيس دورٌ هامّ فيها عبر المبادرة التشريعيّة التي لها أولوية النظر، وعبر المراسيم التي يمكن له إصدارها بناءً على تفويض برلماني، أو خلال العطلة البرلمانية، أو في حالة حلّ المجلس. علاوةً على ذلك، أرسى دستور سعيّد مجالًا مقيّدًا للقانون، حيث استرجع صيغة الفصل 35 من دستور 1959 بعد تنقيح سنة 1997، التي تمنع على البرلمان التدخّل تشريعيًا في ما يخرج عن مجال القانون، وتمنح الرئيس الوسائل القانونية للتصدّي لذلك. كذلك الدور الرقابي، الذي لم يسلم من التضييق، ليس فقط عبر حذف الإشارة إلى اللجان الخاصّة ذات الدور الرقابي ولجان التحقيق، التي كان للمعارضة البرلمانية وفق دستور 2014 الحقّ في تكوينها وترأّسها، ولكن أيضا عبر جعل المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان تقريبا مستحيلة التطبيق.

ثانيًا : (لا) مسؤوليّة الحكومة أمام البرلمان

إذا كانت المسؤولية السياسيّة للحكومة أمام البرلمان من خصائص النظام البرلماني، فإنّ أحكام مشروع الدستور المتعلّقة بمسؤوليّة الحكومة تعبّر عن الروح الرئاسويّة للنظام. إذ لا يمكن للبرلمان توجيه لائحة لوم للحكومة، إلاّ من أجل “مخالفة السياسة العامّة للدولة والاختيارات الأساسيّة المنصوص عليها بالدستور”. فالبرلمان لا يحاسب السياسة العامّة التي يختصّ رئيس الجمهوريّة بضبطها، وإنّما يحاسب الحكومة على عدم تنفيذها بشكل جيّد. فهي، رمزيّا، مسؤوليّة تنتصر لرئيس الجمهوريّة ضدّ حكومته.

كما أنّ شروط تفعيل هذه المسؤوليّة شبه مستحيلة. إذ تقتضي لائحةً ممضاةً من الأغلبية المطلقة للمجلسيْن معا، وتصويتًا بأغلبيّة الثلثين في المجلسيْن، وهما شرطان تعجيزيّان. في الحقيقة، فكرة اشتراط الثلثيْن لإسقاط الحكومة من طرف البرلمان ليست جديدة في تونس، إذ حاولت حركة النهضة تمريرها في التنظيم المؤقت للسلط بعد انتخاب المجلس الوطنيّ التأسيسيّ في 2011، قبل أن تضطرّ على التنازل عنها. كما كانت من مخرجات الحوار الوطنيّ في سنة 2013 تحصينًا لحكومة المهدي جمعة من إمكانيّة إسقاطها من طرف الأغلبية داخل المجلس. وها سعيّد يسعى للهدف ذاته، وهو تحصين حكوماته من أيّ مسؤوليّة أمام البرلمان، خاصّة وأنّ مشروع الهيئة الاستشاريّة كان يشترط فقط الأغلبية المطلقة من مجلس نيابي واحد.

حتى في صورة نجاح أغلبية معارضة للرئيس داخل المجلسيْن في توجيه لائحة لوم للحكومة أكثر من مرّة خلال نفس المدّة النيابيّة، فإنّه يصبح للرئيس خيارٌ بين قبول استقالة الحكومة أو حلّ أحد المجالس النيابيّة أو كليْهما. غيّر الرئيس سعيّد رأيه في هذا الشأن، حيث كان يدافع، قبل سنواتٍ قليلة من وصوله إلى قصر قرطاج، على فكرة استقالة الرئيس في صورة توجيه لائحتيْ لوم من البرلمان ضدّ حكوماته. أمّا الآن، فالكلمة العليا يجب أن تبقى دائمًا للرئيس، وإذا وُجد برلمانٌ معارضٌ له حاول الإطاحة بحكوماتِه، فسيكون تحت طائلة الحلّ.

ثالثا: لامسؤوليّة مطلقة للرئيس

تبقى العلامة الأبرز لرئاسويّة النظام السياسي، هي لا مسؤولية الرئيس. فمن البيّن أنّه تمّ تنحيّة الفكرة التي تحدّث عنها خبيرا الهيئة الاستشاريّة، الصادق بلعيد وأمين محفوظ في الإعلام، وهي إجبار رئيس الجمهورية على الاستقالة في حالة المصادقة على لائحة لوم ضدّ حكوماته لمرّتين في مدّة واحدة، وهي فكرة كان سعيّد الخبير الدستوري يدافع عنها، ولم تعد تلائم سعيّد الرئيس الحاكم بأمره.

لكنّ الأخطر من لا مسؤولية الرئيس السياسية، هي لا مسؤوليّته في حالة الخرق الجسيم للدستور. لا يشكّل ذلك فقط تراجعا عن دستور 2014، وإنما عن جلّ الدساتير في العالم بغضّ النظر عن نظامها السياسي، وأبرزها النظام الرئاسي الأمريكي الذي يتضمن إمكانيّة عزل الرئيس (impeachment). هذا الإجراء كان موجودًا في دستور 2014، حيث يوجّه الاتهام من قبل المجلس النيابي بأغلبية الثلثيْن، وتحكم المحكمة الدستورية بالإدانة والعزل بأغلبية الثلثيْن أيضًا. وقد استنسختْه الهيئة الاستشاريّة في الفصل 92 من مشروعها، إلاّ أنّ قيس سعيّد حذفه مع سبْق الإصرار والتصميم. يعني ذلك ببساطة، أنّه لا يتحمّل أي محاسبة أو إمكانيّة للعزل، حتى في حالة خرقه الدستور خرقًا جسيمًا، حتى وإن كان يتحكّم هو نفسه في تركيبة المحكمة الدستوريّة. هو رئيس ليس فقط فوق جميع السّلط أو الوظائف، وإنّما هو أيضا فوق الدستور.

لا يمكن محاسبة رئيس الجمهورية أو عزله حتى في حالة خرقه الدستور خرقًا جسيمًا.

رابعًا: سلطة الاستثناء خالية من أيّ تقييد

تتأكد لامسؤوليّة الرئيس حتى في حال خرقه الدستور في الفصل 96 المتعلّق بالحالة الاستثنائيّة، وهو الفصل المشابه للفصل 80 من دستور 2014. فقد أدخل سعيّد تغييرًا جوهريًا على هذا الفصل، بالمقارنة ليس فقط مع صيغة الفصل 80، وإنما أيضا بالمقارنة مع نسخة الهيئة الاستشارية. من جهة، حذف سعيّد رقابة المحكمة الدستوريّة حول تواصل الحالة الاستثنائيّة. يعني ذلك أنّ الرئيس سيّد نفسه ليس فقط في الإعلان عن الحالة الاستثنائيّة، بل وفي تواصلها. فلا يمكن لأحد سواه أن يضع حدّا لها. حتّى بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم، التي ينصّ عليها الفصل 80 من دستور 2014 وهي وحدها كافية لاعتبار إعلان 25 جويلية 2021 خروجًا عن الدستور، لم تعدْ موجودة. بهذا الشكل، يمكن للرئيس التعلّل بالحالة الاستثنائيّة لعدم إجراء انتخابات رئاسيّة مثلًا، دون أيّ إمكانيّة لإنهائها أو لعزله. يبدو أنّ سعيّد أعجبته سلطة الحالة الاستثنائيّة وأراد إطلاقها وتأبيدها متى أراد، عبر حذف أيّ حدّ ممكن لها، وهو ما يعني، من دون الحاجة إلى قراءة الفصول الأخرى، دسترة الدكتاتورية الدائمة.

خامسًا: رئيس يتحكّم في القضاء

لم يكتفِ سعيّد بتحجيم دور البرلمان، وإنّما كرّس سيطرته على القضاء. فهي مجرّد وظيفة، وليست سلطة. حتّى التنصيص على استقلالها لا يضمن الشيء الكثير، في غياب الضمانة المؤسساتية التي كان يمثّلها المجلس الأعلى للقضاء، الذي يتكوّن بدرجة أولى من قضاة منتخبين من زملائهم بالإضافة إلى ممثلين منتخبين عن المهن الأخرى المتصلة بالقضاء. اكتفى مشروع سعيّد بالحديث عن مجلس قضاء أعلى لكلّ نوع من القضاء (عدلي، إداري، مالي)، من دون أيّ قواعد حول تكوينها، مما يمهّد إلى تنصيب مجالس خاضعة له كما فعل خلال الأشهر الماضية. كما تخلّى عن آلية تسمية القضاة برأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء، واكتفى ب”ترشيح” يبقي للرئيس حرّية الاختيار. ولا حاجة للخوض في بقيّة التفاصيل، ولا للتذكير بالحصيلة الحاليّة للرئيس في علاقته بالقضاء، كي نفهم أنّ الهدف هو نسف استقلالية القضاء. الأمر ذاته ينطبق على المحكمة الدستوريّة، التي لم يكتفِ سعيّد بتحجيم صلاحياتها، بل أصبحتْ تتكوّن من 9 أعضاء جميعهم “من أقدم القضاة”، أي أنّ الرئيس سيتحكّم في تعيينها إن لم يكن مباشرةً، بعد حذف حرف “من” في تعديلات 8 جويلية، فبطريقة غير مباشرة، عبر صلاحيّة تسمية القضاة.

أمّا الهيئات الدستوريّة، فلم ينجُ منها سوى هيئة الانتخابات، لكن من دون ضمانات الاستقلالية التي كانت موجودة في دستور 2014، وعلى رأسها انتخاب الأعضاء من قبل المجلس النيابي بأغلبية معزّزة. بهذا الشكل، لا شيء يمنع تعيين أعضاء هيئة الانتخابات جميعهم من قِبل رئيس الدولة، كما فعل سعيّد نفسه في مرسوم 21 أفريل 2022. هكذا، ألغى سعيّد هيئات الاتصال السمعي والبصري، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، ومكافحة الفساد، التي نصّ عليها دستور 2014، بما تمثّله من ضمانة ديمقراطية في ميادين حسّاسة. وبهذا الشكل، سيكون من السهل أكثر فأكثر على السلطة إحكام السيطرة على الإعلام السمعيّ البصريّ وإضعاف فرص الرقابة على أعمالها. بالتوازي مع ذلك، انتهز سعيّد فرصة انفراده بالتأسيس كي يُحقّق أمنيته العزيزة على قلبه، التي ينادي بها منذ 2011، وهي دسترة مجلس أعلى للتربية والتعليم.

سادسًا: رئيس يستفتي الشعب مباشرةً

على عكس دستور 2014 الذي فرض المرور عبر البرلمان كمحطّة إجبارية قبل أيّ استفتاء تشريعيّ أو دستوريّ، حرص الرئيس في مشروعه على فتح طريق استفتاء الشعب. إذ يجوز له أن يعرض مشاريع تعديل الدستور مباشرة على الشعب، من دون تداول برلمانيّ. من شأن ذلك أن يفتح المجال لإضافة صلاحيات جديدة والتلاعب بالقواعد الدستورية التي وضعها على مقاسه. ولا يُغيّر من ذلك صلاحية المحكمة الدستورية في فحص مشروع التعديل، للتثبّت مما لا يجوز تعديله، أي النظام الجمهوري وعدد المدد الرئاسيّة ومكتسبات الحقوق والحريات، طالما أنّ هذا الفحص المسبق لا يتناول صلاحيات الرئيس ولا صلاحيات السلطات الأخرى ولا يحول بالنتيجة دون تعزيز الطابع الرئاسوي للنظام. كذلك أعطيَِ الرئيس إمكانية إجراء الاستفتاء التشريعيّ بشأن قوانين متعلّقة بالموافقة على معاهدات “يمكن أن يكون لها تأثير على سير المؤسسات”، أو ب “تنظيم السلط العموميّة”. ومن شأن هذه الصلاحيّة أن تمنحه مجالًا أكبر للمساس بتنظيم السّلط الذي اختاره هو نفسه. فالاستفتاء، كما كان يردّد سعيّد الخبير الدستوري، هي في أحيان كثيرة “أداةٌ من أدوات الدكتاتورية المتنكّرة”.

في المقابل، أضعف المشروع فرص تعديل الدستور من طرف البرلمان، ليس فقط عبر اشتراط موافقة أغلبية الثلثيْن على التعديل، فذلك موجود في دستور 2014 ومعمول به في الدساتير المقارنة، ولكن خاصّة عبر اشتراط قراءةٍ ثانية بعد 3 أشهر على الأقلّ من القراءة الأولى. هذا الشرط، المأخوذ من دستور 1959، من شأنه أن يفتح المجال للرئيس كي يمنع أيّ تعديل لا يروق له، عبر الضغط على عدد من النواب، بل وربما دفع أنصاره إلى المبادرة بسحب الوكالة ضدّهم.

إنّ الهندسة الدستوريّة التي وضعها سعيّد تعكس نزعة واضحة ومفضوحة للاستبداد بكلّ السلطة. فهي هندسة لا علاقة لها بالنظام الرئاسي، الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلط، والذي يكون فيه البرلمان سلطة عليا لا يمكن التدخّل فيها. مشروع سعيّد يقوم على العكس من ذلك على إضعاف البرلمان، سواء عبر تحجيم صلاحيّاته التشريعيّة والرقابيّة، أو عبر فتح الباب لسحْب الوكالة من النواب، مقابل إعلاء الرئيس في مكانة شبه مقدّسة، لا يخضع فيها لأيّ مساءلةٍ ممكنة. إضعافٌ سيتفاقم أكثر فأكثر بالمراسيم التي ستعوّض القانون الانتخابيّ، حيث يتأهّب سعيّد لفرض نظام الاقتراع على الأفراد في دوائرَ غير متوازنة ديمغرافيّا، تطبيقًا لمشروعِه، وهو ما من شأنه، بغضّ النظر عن الشروط الأخرى التي قد تقصي أحزابًا سياسيّة من المنافسة، أن ينتج برلمانًا متذرّرا يكون فيه للمستقلّين تمثيلٌ كبيرٌ. فالدستور ليس سوى مرحلةٍ في مسار تنزيل مشروع شخصيّ لم تكن لصاحبه النزاهة والشجاعة كي يعلن عنه بوضوح أمام الشعب. وها نحن اليوم وجهًا لوجه مع رئيس انتُخب ليحميَ الدستور الذي أقسم على احترامه، فاغتصب السلطة لفرض مشروعه الشخصيّ وتأبيد حُكمه، والارتداد ضدّ كلّ المكاسب التي تحقّقت منذ الثورة التي يدّعي الانتصار لها.

البرلمان لا يحاسب السياسة العامّة التي يضبطها رئيس الجمهوريّة وإنّما الحكومة في حال عدم تنفيذها.

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] محمد الصحبي الخلفاوي، النظام السياسي لدستور 2014: ظُلم التشخيص، وخطورة البديل الرئاسي، نشر في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية، زلزال ديمقراطية فتية، نوفمبر 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني