يكشف محمد أورال عن ذراعه المصابة من جرّاء انفجار بيروت في 4 آب الماضي، يستدير نحو المرآة ليدقق في عينه اليمنى المتورّمة التي لا يستطيع إغماضها، يحاول تحريك أصابع يده اليسرى إلّا أنّ الكسور الثلاثة التي أصابتها تحول دون ذلك، أمّا آلام ظهره الذي تعرّض لرضّاتٍ عدّة لم تزل برغم مرور أكثر من شهرين على المجزرة.
مكتوم القيد مخاوف مضاعفة
يخاف محمّد أن يبقى حال جسده على ما هو عليه اليوم، هو معيل عائلته الوحيد والمسؤول عن والدٍ مسنّ بالإضافة إلى والدته وشقيقه الذي يعاني من مشاكل صحية ونفسية. ففي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة لا يمكنه أن يصبح عاطلاً عن العمل. يضاف ذلك إلى أنّ محمّد بصعوبةٍ تمكّن من إيجاد مصدر رزقٍ له قبل وقوع الانفجار، نظراً إلى كونه مكتوم القيد، وهو أمر غالباً ما يجعله يواجه صعوباتٍ في المجالات الحياتية كافة، فمكتومو القيد بالكاد يستطيعون الدخول إلى المدارس والجامعات، وبصعوبةٍ يتمكّنون من إيجاد أعمالٍ ثابتةٍ ورسمية كونهم لا يستطيعون تحصيل سجلّاتٍ عدلية.
مع إصابته وويلاتها، وجد محمّد نفسه أيضاً أمام تبعات تأمين استكمال علاجاته وصولاً إلى دفع مبالغ قد يراها البعض زهيدة ، ولكنها بالنسبة إليه حتماً ليست كذلك، هو المسؤول عن نفسه وعن معيشة ثلاثة أشخاص وبلا عمل. مع محمّد نسأل عمّن يُطبّق تعميم وزارة الصحة الذي ألزم المستشفيات بمتابعة إصابات وعلاجات جرحى انفجار المرفأ، وكذلك طرح علامات استفهام حول مصير الكميّات الهائلة من الأموال والمساعدات العينية التي وصلت إلى الجمعيات. حتى الصليب الأحمر اللبناني، ووفق ما أفادنا محمد، لم يقدم له المساعدة كونه لا يحمل هوية. ويعلّق محمد بحرقة: “الجروح أقل إيلاماً من الذّل”.
تنقّل محمد في أعمالٍ حرّة عدّة، آخرها في منطقة الجمّيزة حيث أصيب. يستذكر ذلك النهار قائلاً أنه بعد اندلاع الحريق كان على جسر شارل الحلو. لكن ما إن ركن درّاجته النارية لتصوير ما يحصل حتى وقع الانفجارفسقط عليه عامود حديدي فقد على أثره الوعي. كان صديقه الذي سبقه وترجّل من الدرّاجة قد طار في الهواء مسافةً بعيدةً إلاّ أنّ جروحه كانت طفيفة ما مكّنه من العودة لإنقاذ محمد، فحمله على ظهره ومشى به حتى وصلاً إلى بيت الكتائب في منطقة الصيفي حيث وضعه في سيارةٍ للإسعاف الشعبي. لاحقاً أخبره صديقه أنّ اثنين من الجرحى فارقا الحياة في الإسعاف أمام ناظريه، وبأن عينيه (عيني محمد) كانتا مفتوحتين طوال الطريق إلى المستشفى من دون أن يرمش. إلاّ أن محمّد لا يذكر شيئاً ولم يستعد وعيه إلاّ داخل مستشفى الجامعة الأميركية.
والدة محمّد التي تلقّت اتصالاً من أخيها هرعت إلى المستشفى، فأنكروا وجوده، ما اضطرها إلى البحث عنه في مستشفياتٍ عدّة قبل أن تعود إلى الجامعة الأميركية وتصرّ على الدخول. بداية منعها رجال الأمن ما اضطرّها إلى التشاجر معهم، إلى أن سمحوا لها بالدخول، وراحت تبحث عن محمد في الردهات وفي الغرف من دون أن تجده . كشفت عن وجوه الموتى ظنّاً منها أنّه قضى نحبه، وأثناء مرورها قرب إحدى الحماّلات مسكها محمد من يدها، “ما عرفته أول ما شفته، سألته إنت محمّد هزلّي براسه، كان كلّه دم من فوق لتحت”، تقول لـ”المفكرة”.
الجرحى يدفعون بدل متابعة علاجات غير مدرجة على “السيستام”
مكث محمد في ردهة المستشفى حوالي الساعتين، بعد أن اعتمدت المستشفيات مبدأ الأولوية فتمّ إسعاف الحالات الأخطر أوّلاً. لكن مع مرور الوقت بدأت حالة محمد تتدهور حتى أصبح غير قادر على التقاط أنفاسه، فأمر أحد الأطباء بنقله إلى غرفة العمليات، حيث قاموا بسحب الدماء والهواء من رئتيه الممتلئتين، وعملوا على ترميم ذراعه المسحوقة، وقاموا بتقطيب وجهه من دون حضور طبيب عيون. خرج محمّد من العملية غير قادرٍ على إغلاق عينه اليمنى، عندها حضر طبيب مختص بالعيون وأصرّ على ضرورة إجراء عمليةٍ أخرى لإنقاذ العين. مكث محمد في المستشفى مدة 33 يوماً خرج بعدها إلى المنزل، وكان عليه مراجعة الأطباء وإجراء بعض الصور الشعاعية للتأكّد من نجاح العمليات. وبرغم تعميم وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن، الذي يقضي بتغطية الوزارة لعلاجات جرحى الانفجار ومتابعتهم بعد فترة زمنية حين تستلزم حالتهم إجراءات طبية متلاحقة أو فحوصات مخبرية وشعاعية، إلاّ أن مستشفى الجامعة لم يلتزم بهذا التعميم، أقلّه في حالة محمد. فقد أكد الأخير لـ”المفكرة” أنّه دفع 20 ألف ليرةٍ لبنانيةٍ عند مراجعته لكلٍ من طبيب العيون وطبيب العظام، وعند محاولته مراجعة طبيب الظهر طلب منه دفع مبلغ 40 ألف ليرةٍ لبنانية، فما كان من محمّد إلاّ أن غادر المستشفى كونه لن يستطيع دفع كلفة الصور الشعاعية التي سيطلبها الأطباء، كما يقول.
وفي اتصالٍ بمدير مركز العناية في وزارة الصحة جوزيف الحلو، أكّد أنّ على المستشفيات الالتزام بتعميم وزير الصحة، طالباً من الجرحى أولاً تخليص معاملاتهم وملفاتهم التي لا بد أن تُمهَر وتصنّف تحت خانة “متابعة”، بعدها يقوم الجريح بالتوجّه إلى المستشفى لمتابعة علاجه. وطلب رئيس دائرة المستشفيات والمستوصفات في وزارة الصحة، هشام فواز، من الجرحى الذين تفرض عليهم المستشفيات دفع قيمة المراجعات، أن يتقدّموا بشكوى لدى وزارة الصحة على الخط الساخن 1214، ومراجعة الطبيب المراقب في المستشفيات المخالفة.
أما إدارة الجامعة الأميركية فقد صرحت لـ”المفكرة”، بأن المستشفى وجرّاء الانفجار قدّمت العلاج المجّاني لـ700 شخص بنسبة 100%، بالإضافة إلى متابعة جميع الحالات التي تستوجب مراجعات وعمليات إضافية وصور وفحوصات، أما المرضى الذين يريدون مواصلة زيارة أطبائهم للاطمئنان عن صحتهم بدون طلبٍ من الأطباء أنفسهم، فهي تكاليف لا تغطيها الوزارة وبالتالي على المريض تحمّل أعبائها. وفي حالة محمد فإنّ المستشفى “ستقوم بإجراء التحقيقات اللازمة لمعرفة مصير المبالغ التي دفعها كونها غير مدرجة على جداول الدفع، وهي لا تغطّي تكلفة زيارة الأطباء التي غالباً ما تتخطى 100 ألف ليرة لبنانية، وقد قام قسم الشكاوى في المستشفى بالاتّصال بمحمد لسماع إفادته”.
يشدد محمّد أنّه لا يتوقف عند المبالغ “الزهيدة” التي دفعها لغاية اليوم، بل هو يريد ضمان حقه بمتابعة علاجه، من صور شعاعية إلى فحوصاتٍ أو حتى عملياتٍ، في حال توجّب ذلك بدون الخوف من كيفية تأمين تكاليفها.
“جروح الجسد أقل إيلاماً من “جرح الكرامة
لا يكفي أن يتحمّل الجريح أوجاعه وخوفه من التشوّهات أو الإعاقات التي تنتج عن إصابته بالانفجار، بل عليه أيضاً أن يخاف يقلق من كيفية تأمين قوت يومه، فمحمّد وعلى الرغم من أنّه جريح الانفجار، إلاّ أنه لم يحصل إلاّ على حصةٍ غذائية واحدة من “رابطة نوروز الثقافية”، فيما أبلغه كل من دار الفتوى وجمعية البنين أنّ المساعدات التي وصلت إليهما قد نفذت. وكان محمد وبرغم عدم قدرته على التنقّل بسهولة قد قصد مركزاً لتجمّع المتضرّرين تابع للصليب الأحمر اللبناني في الباشورة على حد قوله، إلاّ أنّ العاملين هناك أصرّوا على طلب الهوية، ولما كان محمّد لا يملك هوية بل ورقة من المختار يعرّف بها عن نفسه، رفض عناصر الصليب الأحمر قبولها وبالتالي امتنعوا عن مساعدته.
وفي اتصالٍ مع “المفكرة” استنكر، أمين عام الصليب الأحمر اللبناني جورج كتانة، تلك الحادثة، مشدّداً على أنّ الصليب الأحمر قدّم مساعداتٍ لمتضرّرين من الجنسيات كافّة، طالباً تزويده ببيانات الجريح لتقديم المساعدة اللازمة، لافتاً إلى أنّ الصليب الأحمر لا يستطيع أن يغطّي متضرّري الانفجار كافّة، فقدرته هي توزيع 10 آلاف حصّة غذائية على المنازل في محيط انفجار بيروت.
وبعد اتّصال “المفكرة” بكتانة، تلقّى محمّد اتّصالاً من الصليب الأحمر اللبناني وعدوه فيه بمتابعة حالته.