“
بعد إحالته إلى مجلس نواب الشعب منذ 15 أكتوبر 2019، ما يزال مشروع قانون المالية لسنة 2020 مركونا على الرفّ في انتظار تحديد تاريخ مناقشته من قبل لجنة المالية التي لم تضع حتى الساعة موعدا لهذا الغرض. وبرغم حجم التغيير السياسي الذي شهدته البلاد عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، إلا أن حكومة يوسف الشاهد، تركت بصمة أخيرة ستلقي بظلالها على حياة التونسيين طيلة السنة المقبلة. فمشروع الميزانية الجديد، يجترّ نفس العناوين القديمة بمزيد من التداين والجباية ومواصلة سياسة التقشف في ظل مناخ اقتصادي مأزوم سيمثل الامتحان الأول والأهم للحكام الجدد.
سيكون مشروع قانون المالية لسنة 2020، أحد أهم محاور النقاش العام خلال الفترة المقبلة، نظرا للتعقيدات القانونية والتقنية التي تشوب مسار مناقشته بدءا بلجنة المالية وصولا إلى الجلسة العامة والمصادقة عليه في حد أقصى يوم 10 ديسمبر 2019. فعلى ضوء استبعاد فرضية أن تبدأ لجنة المالية الحالية نقاشها حوله وهي التي لم تدرجه حتى الآن على جدول أعمالها، فإن اللجنة المرتقبة ستظل مشلولة إلى حين منح الثقة للحكومة الجديدة حتى تتمكن المعارضة من ترؤس لجنة المالية حسب ما ينص عليه الدستور التونسي. لكن الجدل حول مشروع الميزانية الجديدة لن يقتصر على البعدين القانوني والسياسي، حيث جاء هذا المشروع بملامح سنة أخرى قاسية على التونسيين وخصوصا الفئة الأضعف منهم من محدودي الدخل والأشد فقرا.
المناخ الاقتصادي العام: السنوات العجاف مستمرة
مع اقتراب سنة 2019 من نهايتها، تكشف التقارير الصادرة عن مختلف المؤسّسات العمومية على غرار البنك المركزيّ والمعهد الوطني للإحصاء عن الصورة الكاملة للوضع الاقتصادي. فالمؤشّرات والإحصائيات التي نُشرت تباعا، تثبت تواصل السنوات العجاف، والتي لم تكن كافية لدفع الحكومة لإجراء تغييرات جذريّة في سياساتها الاقتصاديّة، وهو ما يعكسه مشروع قانون الماليّة لسنة 2020 الذي لم يحد في خطوطه العريضة عن ثوابت إدارة الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد خلال السنوات الخمس الماضية. حيث لم يتمكن الدينار التونسي من تجاوز أزمته المتواصلة، والتي فقد خلالها قرابة 30% من قيمته أمام الدولار، ليتراجع سعر صرفه من 1.97 سنة 2015 إلى 2.84 مع نهاية السنة الجارية. تراجع سعر صرف الدينار التونسي تزامن مع تصاعد مطّرد لعجز الميزان التجاري الذي تدهور بنسبة 23.5% مقارنة بسنة 2017 مسجلا عجزا ناهز 1984 مليون دينار خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2019. من جهة أخرى، حافظت مؤشرات البطالة على استقرارها ضمن نسبة 15.3% بين سنتي 2018 و2019 مع تواصل ارتفاع نسبة التضخّم من 4.8% سنة 2014 إلى 6.7% بحدود سبتمبر 2019، وبالأخص على مستوى أسعار المواد الغذائيّة التّي بلغت فيها نسبة التضخّم 8.8% خلال السنة الجارية. القطاع الصناعي لم يكن أفضل حالا، حيث تراجع مؤشر الإنتاج الصناعي خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2019 بنسبة 3.5% بحساب الانزلاق السنوي. ويعود ذلك بالأساس إلى التراجع المسجل في قطاع الطاقة بنسبة 6.8% وقطاع النسيج والملابس والجلد بنسبة 1.9% وقطاع المناجم بنسبة 24.6% وقطاع تكرير النفط بنسبة 77.7%. كما تراجع الإنتاج في قطاع المطاط واللدائن بنسبة 4.1% وقطاع نجارة الخشب بنسبة 3.9% وقطاع الورق والورق المقوى بنسبة 3.9%.
الملامح الكبرى للتوازنات المالية لمشروع ميزانية 2020
- الحكومة تواصل سياسة اعتصار الجيوب الفارغة
يحدد مشروع قانون الماليّة لسنة 2020 ميزانية الدولة ب 47227 مليون دينار بنسبة نمو تقدر ب 9.5% مقارنة بموازنة السنة الفارطة. هذا التطور يرتكز بالأساس على تعبئة موارد الدولة لتخفيض عجز الموازنات العموميّة من 3.5% سنة 2019 إلى 3%. وتعتمد هذه المقاربة على تعزيز الموارد الذاتيّة التّي تتوزّع بين العائدات الجبائيّة بنسبة 67.25% والعائدات غير الجبائيّة والتي تبلغ 8.04% من إجمالي موارد الدولة وأخيرا القروض التي تساهم ب 23.81%.
وقد وضعت حكومة يوسف الشاهد سقفا للترفيع في الأداءات المباشرة ب 9.6% خلال السنة المقبلة ليبلغ إجمالي عائدات الضرائب المباشرة على الدخل وعلى الشركات ما يقارب 13662 مليون دينار مقابل 12460 مليون دينار حسب الميزانية المرصودة لسنة 2019. لكن زيادة الموارد الذاتية للدولة وتعزيز مداخيلها لن تكون مسؤولية مشتركة ومتساوية في حجم الضغط بين مختلف الخاضعين لنظام الأداءات المباشرة. حيث يكشف مشروع قانون المالية لسنة 2020 أن الضريبة المباشرة على الدخل للأجراء والموظّفين ستمثّل 70.64% من إجمالي الموارد الجبائيّة المباشرة مقابل 29.36% بالنسبة للشركات لسنة 2020. وستعمد الحكومة إلى الترفيع في الأداء على الدخل بنسبة 13.2% مقارنة بسنة 2019 في حين ستكتفي بتحديد سقف نمو العائدات الجبائيّة المباشرة على الشركات البترولية ب5.2% والشركات غير البترولية ب0.9% مقارنة بسنة 2019. ويعكس هذا القرار سياسة ضريبيّة اعتمدت منذ سنوات على تحميل عبء الموارد الجبائية للأجراء والموظّفين واستمرارا لقانون المالية لسنة 2018 الذي أعاد تفعيل آلية الاعفاءات الجبائية التي تم الغاؤها بمقتضى قانون الاستثمار سنة 2016. حيث تطوّرت الضرائب على الدخل المقتطعة من الأجور بين سنوات 2010 و2018 بنسبة 43.1%. بينما تراجعت الضرائب المقتطعة من الشركات البتروليّة وغير البترولية خلال نفس الفترة بنسبة 43.3% حسب احصائيات وزارة المالية.
تعبئة موارد الدولة لن يقتصر على الضرائب المباشرة، حيث يتضمن مشروع قانون المالية لسنة 2020 الترفيع في عائدات الأداءات غير المباشرة بنسبة 8.9% مقارنة بسنة 2019، وبقيمة تناهز 18097 مليون دينار. ولكي يتم تحقيق هذا الهدف، ستعمل الحكومة المقبلة على تطوير المعاليم الديوانية بنسبة 13.3%، لكنها ستعمد أيضا على رفع مردود المعلوم على الاستهلاك ب 6.4% بالمقارنة مع النتائج لسنة 2019، وهو ما يقتضي الرفع في أسعار التبغ بنسبة 4.1%، والمنتجات النفطية بنسبة 6.1% إضافة إلى المنتجات الكحولية ب 3.1% والسيارات ب 5.9%. هذا وستُفرض أداءات جديدة على منتجات استهلاكية أخرى لم يقع تحديدها في نص مشروع الموازنة لتتطور عائداتها بنسبة 22.4% خلال السنة المقبلة.
- الديون: ثقب أسود يبتلع موارد الدولة على حساب التنمية والإستحقاقات العاجلة
العنوان الأساسي لمشروع قانون المالية لسنة 2020، والقائم على ضرورة الضغط على عجز الموازنة العموميّة، يقابله تعويل مفرط على الاقتراض الخارجي الذي سيمثل 18.73% من اجمالي موارد الدولة خلال السنة المقبلة بقيمة 8848 مليون دينار. سياسة توصد الأبواب أمام أي حلّ مرتقب لتراكم الدين العمومي الذّي سيبلغ 94068 مليون دينار سنة 2020 بما يمثّل 74% من اجمالي الناتج المحلّي الخام الذّي يناهز 127118 مليون دينار. وقد تطوّرت ديون الدولة التونسيّة بين سنوات 2015 و2020 بنسبة 49.87% وهو ما يعني أنّه سيتمّ توجيه 24.72% من ميزانيّة سنة 2020 نحو تسديد خدمة الدين العمومي الذي شهد تطورا ب 18.3% مقارنة بسنة 2019.
فشل السياسات الحكومية في التعامل مع معضلة المديونيّة خلّف ارتدادات خطيرة على الموازنات العموميّة. إذ تفيد تفاصيل نفقات الدولة المضمنة في مشروع قانون المالية لسنة 2020، بأنّ تسديد خدمة الدين العمومي ستتمّ على حساب نفقات التنمية. حيث تطورت أقساط تسديد الدين العمومي وفوائده من 4613 مليون دينار سنة 2015 إلى 11678 مليون دينار في السنة المقبلة مقابل تطوّر نفقات التنمية من 4799 مليون دينار سنة 2015 إلى 6900 مليون دينار لسنة 2020. تطوّر غير متكافئ يعكسه قانون المالية الأخير الذي رفع من نفقات الدولة المخصّصة للتنمية ب 900 مليون دينار مقارنة بسنة 2019، في حين ارتفعت خدمة الدين العمومي خلال نفس الفترة بنسبة 18.3% وبقيمة 1804 مليون دينار، وهو ما يعني تخصيص 24.72% من الميزانية العموميّة القادمة لسداد أقساط القروض مقابل اقتصار نفقات التنمية على 14.7% من إجمالي نفقات الدولة.
التقشف الحكومي لن يقتصر على الإستثمار العمومي، بل سيشمل نفقات الدعم. حيث لن يتم ضخ المزيد من المخصصات لدعم المواد الأساسية لتظل عند سقف 1800 مليون دينار، رغم تطور الرقم القياسي العام لأسعار المواد الغذائية ب 30 نقطة خلال السنوات الخمس الفارطة. بل وسيتم التخفيض في الدعم الموجه إلى المحروقات من 2538 مليون دينار إلى 1880 مليون دينار أي بنسبة 25.9% مقارنة بسنة 2019. أما على صعيد التعاطي مع مشكلة البطالة التي استقرت نسبتها عند 15.3% منذ سنة 2017، فإن قانون الماليّة للسنة المقبلة سيواصل سياسة الحد من الإنتدابات في الوظيفة العمومية ضمن إجراءاته للضغط على الإنفاق العمومي وحصرها في حدود 7720 خطة لفائدة بعض القطاعات الحساسة كالأمن والدفاع ووزارة التربية، وبعض الاختصاصات الملحة ذات الأولوية. إضافة إلى عدم تعويض المحالين على التقاعد والشغورات المتوقّعة بسبب الاستقالة أو الوفاة أو الإلحاق خلال السنة الجارية. هذه الإجراءات لا تنفصل عن خطّة إصلاح الوظيفة العموميّة المسقطة من صندوق النقد الدولي والتي تشترط في أحد بنودها الضغط على كتلة الأجور. خطة وضعت الحكومة بين مطرقة المطالب الشعبيّة ورفض منظّمة الشغّيلة وسندان القروض المشروطة التّي تعوّل عليها لترقيع العجز المتواصل.
- مخصصات العائلات المعوزة ومحدودة الدخل: فتات لا يسمن من جوع
تحت عنوان نفقات التدخل دون الدعم، خصص مشروع قانون المالية الجديد 786 مليون دينار لفائدة العائلات المعوزة ومحدودة الدخل بنسبة نمو لم تتجاوز 3.4% مقارنة بالسنة الفارطة. وتخضع هذه الفئة الأكثر فقرا وهشاشة، والتي يناهز تعدادها 10% من مجموع الأسر التونسيّة، منذ 22 سنة تقريبا للمنشور المشترك لوزير الدّولة المكلّف بالدّاخليّة ووزير الشؤون الاجتماعيّة عدد 21 المؤرّخ في 20 أوت 1987 المتعلّق بالبرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة، إضافة إلى منشور وزير الشؤون الاجتماعية عدد 5 المؤرخ في 15 ماي 1988 والمتعلق بالتصرف في البرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة. تراتيب تقضي بتخصيص “إغاثة” شهرية لفائدة هذه الأسر، تمّ زيادتها تباعا لتبلغ 180 دينارا لكلّ عائلة حسب قانون الماليّة لسنة 2019.
وتكشف تفاصيل توزيع النفقات محدودية قدرة هذه المخصصات على تخفيف وطأة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئة. فبالإضافة إلى المنحة الشهرية التي يبلغ مجموع قيمتها 513 مليون دينار تتقاسمها 285 ألف عائلة، تتوزع هذه الإعتمادات بين 10 دينارات شهرية كمساعدات على نفقات التعليم للتلميذ الواحد، ومساعدات خلال المناسبات الدينية. هذه المساعدات التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية، والتي تعتبر فُتاتا لا يُقارن بنفقات التصرف وخدمة الدين العمومي، بسقف لن يتجاوز نسبة 1.66% من إجماليّ ميزانيّة الدولة، تمثل أهم أوجه التدخل الحكومي لمساعدة العائلات المعوزة. إلا أنها تبدو بعيدة كل البعد عن الاستجابة للحاجيات الأساسية للعائلات المستهدفة. فبموازاة الترفيع الشحيح والبطيء لقيمة هذه المنحة من 120 دينارا سنة 2012 إلى 150 دينارا سنة 2016 واستقرارها عند مستوى 180 دينار منذ سنة 2019، والتي لا تمثل سوى 9.25% من معدّل الإنفاق السنوي للأسرة التونسيّة الواحدة، تشهد البلاد ارتفاعا متواصلا لنسبة التضخم التي قفزت بين سنوات 2014 و2019 من 4.8% إلى 6.7%. تطور خلف انعكاسات سلبية على المؤشرات العامة لأسعار الاستهلاك العائلي التي قفزت ب 30 نقطة خلال نفس الفترة حسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء، تزامنا مع ارتفاع الأرقام القياسية العامة لأسعار السكن والصحة بنسبة 20% وتطور نفقات التعليم بنسبة 25.6%.
رغم وضوح الأرقام والمؤشرات الصادرة عن المؤسسات الرسمية للدولة، ورغم موجات الغضب الشتوية التي تهز البلاد بعد المصادقة على كل ميزانية سنوية، تعود الحكومة إلى إقرار نفس الإجراءات التي أقرتها طيلة السنوات السابقة. خيارات أثبتت في كل مرة فشلها ودورها في تأزيم الوضعية المالية العمومية المختلة وإنهاك كاهل الدولة بالديون، ولم تضف أي مردودية على مستوى التشغيل أو تعزيز الموارد الجبائية. ليأتي قانون المالية الجديد لسنة 2020، والذي وضعته حكومة يوسف الشاهد في ربع الساعة الأخير من عمرها على رأس السلطة التنفيذية، ليعكس مرة أخرى إصرارها، ومختلف مكوناتها السياسية، على انتهاج نفس الخيارات الاقتصادية واجترار سياسات إنتاج البؤس.
“