في 8 إبريل 2020، ولمواجهة انتشار فيروس "كورونا – COVID-19" بمصر[1]، قررت الحكومة المصرية متمثلة في رئيس مجلس الوزراء تمديد حظر التجوال ليلاً من الثامنة مساءً وحتى السادسة صباحاً[2]، والذي أعلنته في 24 مارس الماضي[3]. وتجدر الإشارة أن هذا الإعلان جاء بناءً على المادة الثالثة من قانون حالة الطوارئ رقم 162 لسنة [4]1958. وهنا تجب الإشارة أن مصر تحت حالة الطوارئ منذ أكثر من عامين[5]، وكان رئيس الجمهورية جدد سريان هذه الحالة في يناير 2020 لمدة ثلاثة أشهر[6]؛ ولكن فرض حظر التجوال هو اختصاص رئيس الجمهورية، كما ينص قانون حالة الطوارئ المُشار إليه، إلا أن رئيس الجمهورية كان قد فوض رئيس الوزراء بهذه الاختصاصات في 2014[7].
وجاء هذا القرار ليعكس تخوفات السلطة المصرية من احتمالية تفشي الوباء بين عدد أكبر من المواطنين، خاصة في ظل عدم اكتراث الكثير من المواطنين لمبادرات التوعية الاعلامية على كلاً من القنوات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تحثهم على البقاء في المنازل وتقليل فرص الاختلاط بالآخرين حرصاً على سلامتهم الصحية. وكان مجلس الوزراء قرر في وقت سابق غلق كل المطاعم أمام الجمهور واقتصارها على خدمة التوصيل للمنازل، مع غلق كل الأماكن التي تقدم الترفيه والتسلية. بالإضافة إلى غلق المحلات والمراكز التجارية في الخامسة مساءً على أن تغلق بشكل كلي يومي الجمعة والسبت.
ولعل انتشار المرض المعدي يحتّم اتخاذ إجراءات للحد من انتشاره والحفاظ على الصحة العامة وحياة المواطنين، ومنها تقييد بعض الحقوق والحريات، ولكن لابد أن يتم ذلك وفقاً لضوابط قانونية محددة. ولكن القرار المُشار إليه خلا من تلك الضوابط وهو ما نتج عنه عدد من الإنتهاكات الفردية بحق المواطنين بسبب خرقهم لحالة حظر التجوال لأسباب الضرورة القصوى. كما أن مثل هذا القرار أثّر بالسلب من ناحية أخرى على حياة المواطنين الاجتماعية والاقتصادية بشكل مباشر خاصة الذين يباشرون أعمالهم خلال ساعات الليل. يستعرض هذا المقال انعدام الضوابط القانونية التي جاءت في طيات قرار حظر حركة المواطنين والأثار السلبية التي نتجت عنها، كما يستعرض تجاهل الحكومة لبعض فئات المجتمع ضمن هذا القرار مما تسبب في التأثير سلبا علي حياة المواطنين الاقتصادية.
سلطة تقديرية واسعة لضباط الشرطة: قبض عشوائي تحت مظلة خرق حظر التجوال
من خلال قراءة نصوص القرار، نجد أنه يختلف كثيراً عن غيره من قرارات الحظر التي كانت السلطة المصرية تصدرها لأسباب سياسية خلال فترات سابقة مثل قرار حظر التجوال الذي صدر في عام 2013 عقب فضّ اعتصام ميدان رابعة لجماعة الأخوان المسلمين[8]، والذي جاء يتضمن مادة واحدة تفرض الحظر على محافظات مختلفة ومادة أخرى بمعاقبة المخالفين بالسجن من دون تحديد مدة محددة.
فقد سمح القرار الحالي باستثناءات عدة، حيث نصت المادة الأولى منه على "السماح بالحركة الضرورية المرتبطة بالاحتياجات الطارئة التي يقدرها مأمور الضبط القضائي". وهنا نوضح أن المقصود بمأموري الضبط القضائي هم العاملون في وزارة الداخلية باختلاف رتبهم. وبالتالي، أعطى القرار سلطة تقديرية واسعة لهؤلاء لتقدير ما هي الاحتياجات الطارئة وما إذا كان المواطن قد خرق حظر التجوال من عدمه؛ مع الإشارة إلى أن مخالفة حظر التجوال تعرض مرتكبها لغرامة قدرها 4 آلاف جنيه مصري وللحبس أو بإحدى العقوبتين. وهنا كان على القرار أن يقوم بتحديد المقصود ب "الإحتياجات الطارئة" وعدم ترك الأمر لأفراد وزارة الداخلية، ذلك لأنهم منفذون للقوانين وليسوا في صدد تقدير مثل هذه الأمور، ولا سيما بعد الحوادث السلبية التي تمت خلال السنوات الماضية وسوء معاملة بعض أفراد الداخلية للمواطنين.
كما نصت المادة الرابعة من القرار على استمرار عمل المستشفيات والمراكز الطبية والعاملين بها من دون أن تتقيد بمواعيد حظر التجوال أو الغلق المنصوص عليها في القرار. ولكن السلطة التقديرية المنصوص عليها في المادة الأولى أدّت إلى سوء تطبيق لهاتين المادتين. وهو ما نتج عنه بالفعل حالات عديدة. فعلى سبيل المثال، حررت قوات الأمن خلال الأيام الأولى من تطبيق قرار فرض القيود على حركة المواطنين بتحرير محضر خرق حظر تجوال لطبيب بشري وهو في طريقه إلى منزله بعد الإنتهاء من تأدية عمله[9]. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي شهادات شبيهة لأطباء تم توقيفهم وعرقلة حركتهم بالشوارع العمومية وإرغامهم على العودة من حيث جاؤوا تطبيقاً لقرار الحظر. دفعت هذه الممارسات نقابة أطباء مصر إلى مخاطبة وزير الداخلية لتوجيه الضباط المكلفين بتطبيق حظر التجوال إلى تسهيل مهمة الأطباء وكذلك العاملين بالجهات الصحية والمستشفيات أثناء تحركهم وتوجههم من وإلى أعمالهم دون التقيد بمواعيد حظر حركة المواطنين إعمالاً للاستثناء المنصوص عليه بقرار رئيس مجلس الوزراء[10]. فضلاً عن ذلك، يتم القبض يومياً على مئات المواطنين خلال أوقات حظر التجوال بسبب شرائهم مستلزماتهم من الأماكن المستثناة من الحظر السابق ذكرها[11]. وبالتالي، يمكن استخدام القرار – بصياغته الحالية – للقبض العشوائي على المواطنين تحت مظلة خرق حظر التجوال؛ مما يؤدي إلى تحوله إلى أداة قمعية جديدة.
تدارك بعض أخطاء القرار السابق: هل يحقق القرار الجديد الاستقرار المالي ويقوّض انتشار المرض؟
لقد جاء قرار تمديد حالة حظر حركة المواطنين بالشوارع العمومية ليلاً ليعالج بعض الأخطاء الجوهرية التي تجاهلتها الحكومة المصرية عند إصدار قرار الحظر السابق، والتي كان من شأنها التأثير السلبي على الحياة الاقتصادية لبعض الفئات المهمشة. وقد جاءت نصوص القرار السابق تنحاز وتخاطب بشكل مباشر فئة محددة من المواطنين وهم الموظفين والعاملين بأجهزة الدولة ومؤسساتها الذين يحصلون على رواتب شهرية بصورة مستمرة، وأيضاً أبناء الطبقات العليا القادرين على تلبية احتياجاتهم المعيشية خلال هذا الظرف الاستثنائي. بالمقابل، لم تراعِ الحكومة المصرية في قرارها أوضاع بعض الفئات المجتمعية الأكثر تضرراً من قرار الحظر مثل العمالة غير المنتظمة والموسمية غير المرتبطة أعمالهم بساعات عمل محددة، وليس لديهم مصدر دخل ثابت. ويتكوّن هؤلاء بحسب تعريف كلاً من قانون التـأمينات الاجتماعية الجديد رقم 148 لسنة [12]2019، وكذلك قرار وزير القوي العاملة رقم 162 لسنة 2019[13] بشأن تشغيل ورعاية وحماية العمالة غير المنتظمة، من الفئات العاملة بالمجالات الآتية: عمال التراحيل، صغار المستغلين لحسابهم الشخصي كالباعة الجائلين ومنادي السيارات وموزعي الصحف وماسحي الأحذية وغيرهم من الفئات المماثلة مثل عمال المطاعم، وعمال خدمات توصيل الطلبات إلي المنازل والحرفيين. هذا بالإضافة إلى عمال الزراعة والمقاولات والموانئ والصيد، وغيرهم من العاملين في المجالات المشابهة. وتقدر أعدادهم بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء بـــ 11 مليون عامل لا يتمتعون بتأمين صحي أو معاش اجتماعي، وأجور منتظمة[14]. وعلى الرغم من الحماية الدستورية المكفولة بموجب المادة 17 من الدستور المصري التي تكفل للمواطنين غير القادرين والعمالة غير المنتظمة معاش اجتماعي مناسب،[15] إلا أن الحكومة شرعت في قرارها السابق بفرض حالة حظر التجوال على كافة المواطنين دون توفير حلول بديلة تساعد هذه الفئات الضعيفة على توفير احتياجاتهم اليومية كالطعام والأدوية والإيجارات، واكتفت بإصدار قرار صرف 500 جنية منحة رمزية للعمالة غير المنتظمة المتضررة من انتشار الوباء، وهو المبلغ الزهيد الذي لا يكفي لسد الاحتياجات الأساسية.
وجاء قرار التمديد ليحدّ من هذه الأثار الاقتصادية السلبية على الفئات المذكورة؛ حيث وسعت الحكومة في المادة الرابعة دائرة المُستثنين من قرار الحظر بما يسمح للمركبات التي تنقل البضائع إلى الأسواق المحلية، والمركبات التي تنقل العاملين بالمصانع بالتحرك من دون عائق[16]. هذا بالإضافة إلى تشغيل جميع المصانع ومواقع أعمال المقاولات، والموانئ والمستودعات والمخازن الجمركية، وخدمات طوارئ الغاز، والمياه، والكهرباء والاتصالات بشرط الحفاظ على إجراءات الوقاية والسلامة الصحية. كما سمحت المادة، كما في القرار السابق، لأصحاب محال الخضروات والفاكهة واللحوم أو الدواجن أو الأسماك، بالعمل على أن يقتصر العمل بها خلال ساعات حظر التجوال على استلام وتسلم البضائع دون استقبال للجمهور.
فضلاً عن ذلك، سمحت المادة الثانية من القرار لأصحاب المطاعم ووحدات الطعام المتنقلة بالعمل على توصيل الطلبات إلى المواطنين في بيوتهم على مدار اليوم من دون انقطاع، وهو ما يسهل على المواطنين الماكثين في بيوتهم الوصول للطعام وكافة مستلزماتهم من دون الحاجة إلى الخروج إلى الشارع، ومن ناحية أخرى يُمكن العمال وأصحاب المطاعم والمحلات العامة من مزاولة أنشطتهم التجارية.
علي الرغم من إيجابية التعديلات التي أدخلتها الحكومة المصرية على قرار الحظر الجديد في سبيل تنشيط الركود الاقتصادي بسبب تفشي الوباء، إلا أن هذه التعديلات قد تكون سبباً في انتشار المرض بين المواطنين في أماكن العمل خلال الفترة القادمة.
وكان من باب أولى على الحكومة المصرية إقرار بعض القرارات التي تجبر أصحاب الأعمال والشركات، بالتكفل بمرتبات العاملين بها وإلزامهم بعدم صرف أي عمالة منتظمة أو غير منتظمة؛ إلى جانب تقديم مساعدات مالية للشركات الصغيرة والمتوسطة للحفاظ على العاملين بها وتقديم مساعدات حقيقية للعمالة غير المنتظمة، مع فرض حالة حظر التجوال الجزئي على مدار اليوم كما تفعل أغلبية دول العالم حالياً، حتى نتمكن من الخروج من هذه الأزمة الصحية في أسرع وقت وبأقل عدد من الضحايا.
[1] وفقا لوزارة الصحة المصرية: أصاب المرض حتى تاريخ 15 إبريل 2020، 2505 مواطن وأدى إلى وفاة 183 منهم.
[2] قرار رئيس الوزراء رقم 852 لسنة 2020.
[3] راجع قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 768 لسنة 2020.
[4] تنص المادة الثالثة من قانون رقم 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ على " لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام وله علي وجه الخصوص: (1) وضع قيود علي حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض علي المشتبه فيهم أو الخطرين علي الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية…"
[6] راجع قرار رئيس الجمهورية رقم 20 لسنة 2020.
[7] راجع قرار رئيس الجمهورية رقم 368 لسنة 2014.
[8] قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 772 لسنة 2013 بشأن إعلان حظر التجوال
[9] رامي خلاف، أمن المنوفية يحرر محضر خرق حظر تجوال لطبيب رغم الاستثناء، جريدة القاهرة، 27-03-2020.
[11] مصر القبض على مئات لمصريين بسبب حظر التجوال، RTأخبار، 30-03-2020.
[12] راجع نص المادة 10 من قانون التأمينات الاجتماعية الجديد رقم 148 لسنة 2019. للمزيد حول ملف العمالة غير المنتظمة، راجع الورقة البحثية الصادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان العمالة غير المنتظمة، إبريل 2020،
[13] راجع نص المادة الثانية من قرار وزير القوي العاملة رقم 162 لسنة 2019 بشأن اصدار اللاحة المالية والإدارية لتشغيل ورعاية وحماية العمالة غير المنتظمة.
[14] محمد عبد الله، وسط مطالبات حظر التجوال بمصر… ماذا عن ملايين الفقراء؟، الجزيرة، 21-03-2020.
[15] راجع نص المادة 17 من الدستور المصري الصادرة عام 2014 والتي تنص على" تكفل الدولة توفير خدمات التأمين الاجتماعي. ولكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي الحق في الضمان الاجتماعي، بما يضمن له حياة كريمة، إذا لم يكن قادراً على إعالة نفسه وأسرته، وفى حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة وتعمل الدولة علي توفير معاش مناسب لصغار الفلاحين، والصيادين، والعمالة غير المنتظمة، وفقاً للقانون.، وأموال التأمينات والمعاشات أموال خاصة…".
[16] راجع نص المادة الرابعة من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 852 لسنة 2020 بشأن تمديد حالة حظر التجوال بأنحاء الجمهورية.