“
يتناول هذا الجزء بداية مواجهة الخصخصة من خلال الدعاوى القضائية أمام القضاء الاداري والمحكمة الدستورية وكيفية تفاعل القضاء مع هذه الدعاوى. (المحرر)
المحكمة الدستورية تحبط أول محاولة لمواجهة الخصخصة بالقطاع العام
منذ صدور قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991، ثمة محاولات قام بها العديد من مناهضي الخصخصة لمحاولة إيقاف العمل به. وبدأت هذه المحاولات عام 1993 بقيام العامل حمدي حمودة بدر من شركة رومني برفع دعوى قضائية أمام المحكمة العمالية بالأسكندرية لعدم حصوله على مستحقات له من الشركة؛ وقد صرحت له المحكمة العمالية بالطعن على القانون أمام المحكمة الدستورية. وقضت المحكمة الدستورية في 1997 برفض الطعن مقررة دستورية قانون قطاع الأعمال العام[1].
وربما يكون تراءى للمحكمة الدستورية أن الطعن الدستوري في هذه القضية كان قائمًا على مناهضة الخصخصة كفكرة، والرأسمالية كانحياز أو خيار اقتصادي، وأن ذلك معارض للنظام الاشتراكي الذي نص عليه دستور 1971. لذلك كان أبرز ما استندت إليه المحكمة في حيثيات حكمها ليس تبيان مدى موافقة النص القانوني للنص الدستوري، ولكن تبيان رؤيتها للنصوص الدستورية وعلاقتها بالواقع والقانون حيث ذهبت إلى “أن النصوص الدستورية لا يجوز تفسيرها باعتبارها حلًا نهائيًا ودائمًا لأوضاع اقتصادية جاوز الزمن حقائقها، فلا يكون تبنيها والإصرار عليها، ثم فرضها بآلية عمياء إلا حرثًا في البحر بل يتعين فهمها على ضوء قيم أعلى غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسيا واقتصاديا… أن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يعارض تطويعها لآفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها، فلا يكون الدستور كافلًا لها، بل حائلًا دون ضمانها ومردود..”
وبالطبع هذا الحكم أحبط المحاولات الأولى لمواجهة الخصخصة بالقطاع العام.
وقف خصخصة الهيئة العامة للتأمين الصحي
أصدر رئيس مجلس الوزراء قراره رقم 637 لسنة 2007 بإنشاء الشركة “القابضة للرعاية الصحية” وكان الهدف من هذا القرار هو تهيئة البيئة التشريعية لخصخصة الهيئة العامة للتأمين الصحي، حيث نص القرار على أن تقوم هذه الشركة بتقديم كافة الخدمات التي تقدمها الهيئة، ونص على نقل ملكية كل أموال وأصول الهيئة من مستشفيات وصيدليات ومراكز طبية إلى الشركة الجديدة، بالإضافة إلى نقل كل موظفي الهيئة إليها. وأتاح القانون للشركة إنشاء محفظة لإدارة الأوراق المالية. كما حدد قيمة سهم الشركة بعشرة جنيهات. وبالتالي، تحولت كل أموال الهيئة وأصولها من مال عام إلى مال مملوك للدولة ملكية خاصة، وسوف يتم طرح الشركة بالبورصة والتداول على أسهمها، كما سيصبح الملّاك الحقيقيون لهذه الأصول هم حملة الأسهم بالبورصة وليس المؤمن عليهم الذين سددوا وكانوا لا يزالون يسددون اشتراكات شهرية مكنت الهيئة من تكوين هذه الأصول.
وتم الطعن على هذا القرار أمام محكمة القضاء الإداري من خلال خمس دعاوى قضائية أُقيمت من محامين وسياسيين ومنظمات حقوقية. وقامت المحكمة بضم هذه الدعاوى في دعوى واحدة وأصدرت فيها حكمًا واحدًا. ولعبت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومركز هشام مبارك للقانون، وجمعية أهد للرعاية الصحية ولجنة الدفاع عن الحق في الصحة أدوارًا هامة في إدارة الدفاع والترافع بهذه القضية. وصدر حكم القضاء الإداري في 4 سبتمبر 2008 بوقف تنفيذ قرار مجلس الوزراء لكون الهيئات العامة لا يجوز تغيير طبيعتها بموجب قرارات إدارية، ولكن يجب أن يصدر قانون من البرلمان أو قرار بقانون من رئيس الوزراء.
وذهب المحامون في هذه القضية إلى أبعد من ذلك، فركزوا على الإجابة على الأسئلة التي طرحتها هيئة قضايا الدولة في مذكراتها شأن (أن الهدف من هذه الشركة هو تطوير الخدمة الصحية لأن الجمهور غير راضٍ عن خدمات الهيئة)، والزعم بأن (الخزانة العامة تئن من دعم التأمين الصحي وأن العجز في ميزانيته أصبح لا يحتمل). فمن أجل الخروج من دائرة معارضة الخصخصة كفكرة كان من الواجب علينا، كمحامين، أن نوضح للمحكمة أن الأمر لا يتعلق بطبيعة المالك فقط، ولكنه يتعلق بالطابع الاجتماعي الذي يقوم عليه التأمين الصحي والذي سيتحول إلى طابع تجاري مما يخل بجوهر فكرة التأمين، فضلًا عن تبيان جوهر القرار الذي يرتكز ليس على تطوير الخدمة ولكن السطو على المال العام عبر سلسلة من الأكاذيب لتهيئة قبول المجتمع لفكرة خصخصة الهيئة.
ومن أهم المستندات التي قُدمت كانت ميزانيات الهيئة المنشورة بالجريدة الرسمية والتي اتضح منها أن إيرادات الهيئة قبل 2001 كانت أقل من المصروفات. ولكن منذ 2001 حتى 2007، حققت الإيرادات أرقامًا أعلى من المصروفات، لدرجة أن الهيئة سددت كل ما عليها من ديون للخزانة العامة، وكونت وديعة بالفوائض. ومن شأن هذه المعطيات أن تدحض ادعاءات تحمل الخزانة العامة لأية أعباء بشأن ميزانية التأمين الصحي. كما طُرح سؤال على المحكمة: إذا كانت الهيئة تحقق كل هذه الفوائض لماذا لا يتم تطوير المستشفيات وتعيين أطقم طبية جديدة؟
كما قُدمت إلى المحكمة دراسة استطلاع رأي صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء حول “مدى رضاء الجمهور عن خدمات التأمين الصحي” وكانت المفاجأة في الدراسة بأن رضاء الجمهور عن الخدمات الأولية كأعمال الاسعافات الأولية والعمليات الصغرى لم يتجاوز 40%، في حين أن رضاء الجمهور عن العمليات الكبرى شأن القلب المفتوح والأجهزة التعويضية.. الخ لم يقل عن 90%.
وهو ما ساعد الدفاع لإيضاح أن تزاحم المواطنين على التأمين الصحي، وتأخر دورهم لعدة أشهر لحين دخول المستشفى ليس دليل إدانة للهيئة أو لخدماتها وإنما هو دليل إدانة ضد كل من يحول دون تطور التأمين الصحي الاجتماعي وزيادة منشآته الصحية، ويدفعه دفعًا ليتحول إلى تأمين تجاري تسيطر عليه حسابات المكسب والخسارة وآليات السوق من العرض والطلب.
ولذلك لم يقتصر حكم المحكمة على تبيان اغتصاب رئيس الوزراء لسلطة المشرع، ولكن أرسى عدة مبادئ لحماية التأمين الصحي الاجتماعي منها:[2]
- أن التأمين الصحي ذات صلة بالحق في الصحة والحق في الحياة، وبالتالي فإن كفالة الدولة للرعاية الصحية تعني ألا يكون الحق في الصحة محلًا للاستثمار أو المساومة أو الاحتكار.
- التأمين الصحي الاجتماعي أصبح نظامًا اجتماعيًا وإرثًا حضاريًا له البعد النفسي والسيكولوجي لدى المواطن.
- القرار المطعون عليه تغول على مال الهيئة بتحويله من مال عام إلى مال خاص، وبالتالي أخرجه عن المصلحة الاجتماعية التي خُصص لها، وجعله مثل أموال الشركات القابلة للبيع والاستنزاف. وبالتالي، فحتى إذا كانت الشركة المنشأة مملوكة للدولة، فإن إنشاءها ينذر بتحويل التأمين الصحي الاجتماعي إلى تأمين صحي تجاري.
لذلك كله، شكّل النجاح في هذه القضية نقلة نوعية، لأنه حال دون انتقال قطار الخصخصة من محطة خصخصة القطاع العام (التجاري والصناعي والزراعي) إلى محطة خصخصة الهيئات العامة، فضلًا عن تجاوزها للإخفاق الذي أصاب المحاولة الأولى أمام المحكمة الدستورية بشأن القانون 203 لسنة 1991، ونجاحها في إرساء عدد من المبادئ القضائية لحماية التأمين الصحي الاجتماعي.
ما بعد 2010: انتصارات قضائية لبطلان الخصخصة
جاءت تطبيقات مواجهة الخصخصة في محاولتها الثالثة بعد صدور حكم من القضاء الإداري المصري في 22 يونيه 2010 بإلغاء عقد بيع أرض بالقاهرة الجديدة حررته وزارة الإسكان لصالح شركة طلعت مصطفى والمعروفة إعلاميًا بأرض “مدينتي”. وفي 14 سبتمبر 2010 أيدت الإدارية العليا حكم القضاء الإداري.
واستند مجلس الدولة في الحكمين إلى أن العقد تم بالأمر المباشر، ودون إتباع لقواعد قانون المزايدات والمناقصات، فضلًا عما أصاب العقد من خلل في التوازن العقدي والمالي لصالح الشركة. وتلقف عمال شركة عمر أفندي الحكمين ولجأوا إلى مجلس الدولة في 21 أكتوبر 2010 للطعن على اجراءات خصخصة شركتهم. وفي 7 مايو 2011 قضت المحكمة ببطلان خصخصة شركة عمر أفندي[3]، لتفتح الباب أمام العديد من العمال للمطالبة ببطلان خصخصة شركاتهم.
لقد كان العمل في كل هذه القضايا في غاية المشقة والصعوبة ليس لأن رجال الأعمال جاءوا بكبار مكاتب المحاماة المحلية والدولية للدفاع عنهم، ولكن لأمرين آخرين. الأمر الأول: أن معظم مستندات القضايا كانت بحوزة الدولة ورجال الأعمال وكان مجرد الحصول على جزء من هذه المستندات هو انتصار في حد ذاته لكونها تصرخ بما حوته من مخالفات قانونية أو فساد، ولا تحتاج منا لمشقة في إقناع القاضي بعدالة مطالبنا. الأمر الثاني: الحملات الإعلامية سواء الصحفية أو التليفزيونية التي كان يحركها رجال الأعمال للادعاء بأن تلك القضايا تضر بالاقتصاد المصري، وتطالب الدولة دومًا بالتدخل لوقف هذه الدعاوى، في محاولة منهم لنزع القبول المجتمعي الذي كانت تحظى به تلك القضايا.
وربما كان هناك العديد من الأساليب والوسائل للبيع الفاسد للتحايل من أجل إهدار المال العام، وجميعها مثبتة بأحكام قضائية، ونتناولها في الحلقات القادمة.
للاطلاع على الحلقة السابقة:
قراءة في دفاتر الخصخصة 1: بداية سياسات الخصخصة في مصر
[1] الحكم رقم 7 لسنة 16 ق.د بتاريخ أول فبراير 1997. *أسست المحكمة الدستورية حيثيات حكمها على عدد من الأسباب كان أبرزها ما يلي “أولا: بأن النصوص القانونية التي تقرها السلطة التشريعية انحرافًا بها عن مقاصد حددها الدستور، وتنكبها بالتالي لأغراض عَيَّنها، تفترض أن تكون هذه المقاصد والأغراض من مكوناتها، فلا ينفصل بنيانها عنها، بل تشملها المطاعن الموضوعية بالنظر إلى اتساعها لكل عوار لا يرتبط بالأوضاع الشكلية التي يتطلبها الدستور في النصوص القانونية ومردود
ثانيًا: بأن النصوص الدستورية لا يجوز تفسيرها باعتبارها حلًا نهائيًا ودائمًا لأوضاع اقتصادية جاوز الزمن حقائقها، فلا يكون تبنيها والإصرار عليها، ثم فرضها بآلية عمياء إلا حرثًا في البحر بل يتعين فهمها على ضوء قيم أعلى غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسيًا واقتصاديًا ومردود
ثالثًا: بأن قهر النصوص الدستورية لإخضاعها لفلسفة بذاتها، يعارض تطويعها لآفاق جديدة تريد الجماعة بلوغها، فلا يكون الدستور كافلًا لها، بل حائلًا دون ضمانها ومردود..”
[2] أحكام القضاء الإداري في وقف خصخصة الهية العامة للتأمين الصحي أرقام 21550، 21665، 2212، 25752، 25857 لسنة 61 قضائية
[3] “بإلغاء القرار المطعون فيه -مع ما يترتب على ذلك من أثار- وأخصها بطلان عقد بيع 90% من أسهم شركه عمر أفندي المبرم بين الشركة القابضة للتجارة (القومية للتشييد والتعمير – حاليًا) وكلًا من شركه أنوال المتحدة للتجارة وجميل عبد الرحمن محمد القنيبط، وبطلان شرط التحكيم الوارد بالمادة العشرين من العقد المشار إليه، وإعادة المتعاقدين إلى الحالة التي كانوا عليها قبل التعاقد، واسترداد الدولة لجميع أصول وفروع الشركة وكافة ممتلكاتها المسلمة للمشترى مطهره من كل الرهون التي سبق أن أجراها المشتري، وإعادة العامليين إلى سابق أوضاعهم السابقة مع منحهم كامل مستحقاتهم وحقوقهم عن الفترة منذ إبرام العقد وحتى تاريخ تنفيذ هذا الحكم بكامل أجزائه، وتحمل المشتري وحده كامل الديون والالتزامات التي رتبها خلال فتره نفاذ العقد، وبطلان بيع المستثمر لنسبة 5%من رأس المال الشركة إلى مؤسسة التمويل وما يترتب على ذلك من أثار“.
“