عاشت تونس، خلال الأسبوعين المنقضيين، على وقع احتجاجات ليلية في عشرات الأحياء الشعبية في العاصمة وفي عدد من المدن سواء الساحلية أو الداخلية، أخذت بالأخصّ شكل مواجهات بين المحتجين وقوات الأمن. تزامن انطلاق الاحتجاجات مع الذكرى العاشرة لسقوط بن علي، التي فرضت الحكومة خلالها حجرا صحيا عامّا بأربعة أيام، اعتبره الكثيرون قرارا سياسيا بمنع أي تحرّك قد يحرجها. وفي حين انتظر رئيس الحكومة قرابة أسبوع ليطلّ بكلمة لاقت انتقادات واسعة شكلا ومضمونا، فإنّ خياره في مواجهة الحراك كان إطلاق اليد القمعية التي بلغت حصيلتها وفاة الشابّ هيكل الراشدي بعد إصابته بقذيفة غاز مسيل للدموع في رأسه، وإيقافات تجاوز عددها 1300، بينهم مئات الأطفال القصّر. شراسة القمع لم تكن فقط ردّة فعل على الاحتجاجات، وإنما مثّلت كذلك أحد أبرز أسبابها.
جاءت انتفاضة شباب الأحياء الشعبية لتؤكّد القاعدة : شهر جانفي هو شهر الاحتجاجات والانتفاضات في تونس. فمنذ أول إضراب عامّ منذ الاستقلال في 26 جانفي 1978، وما تخلله من مواجهات، وصولا إلى حراك ”فاش تستناو“ في 2018 احتجاجا على غلاء الأسعار، مرورا ب”انتفاضة الخبز“ في 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي في 2008، وثورة 17 ديسمبر-14 جانفي 2011، أصبح لشهر جانفي رمزية ثورية في التاريخ السياسي التونسي، فهو الشهر الذي يفتكّ خلاله المهمّشون والمفقّرون الكلمة، فيقتحمون الخطاب السياسي والإعلامي الذي يغيّبهم في العادة.
احتجاجات جانفي 2021، على خلاف سابقاتها، غابت عنها المطالب والشعارات. لكنّها نجحت في تسليط الضوء على الوضعية المأسوية في الأحياء الشعبية، حيث الانقطاع المبكّر عن التعيلم هو القاعدة، وفرص العمل في الاقتصاد المنظّم نادرة، فيكاد الحلم يقتصر على الهجرة إلى أوروبا. هجرة سدّت هي الأخرى أبوابها النظامية على من لم يتميّز اجتماعيا أو دراسيا، لتصبح قوارب الموت سبيلها الوحيد.
ولئن فرضت المسألة الاجتماعية نفسها على التناول الإعلامي، فإن هذا الأخير اتّسم عموما بتركيز مبالغ فيه على أعمال التخريب وخلع بعض المغازات العامّة، وبتجريم الاحتجاج الليلي وإخراجه من دائرة الحقّ في التظاهر والتعبير، بالإضافة إلى تبني الرواية الرسميّة الصادرة عن وزارة الداخلية، والتعتيم على شراسة القمع التي انتشرت صورها وفيديواتها كالعادة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الشرارات الأولى للانتفاضة : احتجاج على الانتهاكات البوليسية
انطلقت الاحتجاجات الليلية من أحياء مدينة سليانة، إحدى أضعف المحافظات التونسية في مؤشرات التنمية، بعد انتشار فيديو يوثّق اعتداء شرطي على راعي الأغنام عبد الرحمان العثماني، وإهانته له، بحجّة مرور قطيعه أمام مقرّ الولاية (المحافظة). كانت لهذا الاعتداء رمزية كبيرة، فقد فضح منطق التمييز والاحتقار الذي يسود التعامل الأمني مع المهمّشين، وأظهر استنفار الجهاز التنفيذي، لا لمحاربة الفقر وتحسين أحوال الناس، وإنما لقمع الفقراء وإبعاد مشاهد البؤس عن المقرّ السيادي، كي لا تقلق راحة ممثل السلطة المركزية. رمزية أخذت بعدا أكبر بالنظر لتزامنها مع الذكرى العاشرة لثورة الحرية والكرامة، التي كانت شرارتها الأولى اعتداء شبيها على محمّد البوعزيزي.
حادثة الاعتداء على ”راعي سليانة“ حصلت بعد أيام من قمع مظاهرة في العاصمة تونس لجماهير النادي الافريقي، وهو أحد أكثر النوادي التونسية شعبيّة، تحتجّ على تعامل الجامعة التونسية لكرة القدم مع وضعيّة ناديها الصعبة. واجهت قوات الأمن هذه المظاهرة باستعمال مكثف للغاز المسيل للدموع، وإيقافات عشوائية بلغ عددها المئات في صفوف الشباب والأطفال وحتى المارّة، وإبقاءهم في وضعيات مهينة ما لبثت أن انتشرت صورها على وسائل التواصل الاجتماعي لتشعل نار الغضب وتذكّر، هي الأخرى، بمحافظة وزارة الداخلية على نفس الأساليب القمعيّة والمنتهكة للكرامة الإنسانية، بعد عشر سنوات من الثورة.
تزامنا مع اندلاع الاحتجاجات الليلية في أحياء سليانة، تحرّكت بعض الأحياء الشعبية في العاصمة، المعروفة ب”أحزمة الفقر“، وكان لمجموعات الأولتراس، حسب شهادات عديدة، حضور لافت فيها. امتدّت الاحتجاجات الليلية سريعا لتشمل معظم الولايات، سواء الساحلية أو الداخلية، آخذة شكْلَ قطعٍ للطرقات التي يكاد يكون استعمالها منعدما نظرا لحظر التجوال ليلا، وكرّ وفرّ مع القوات الأمنيّة. ولئن حصل، في الليالي الأولى، خلع بعض المغازات ومكتب بريد في بعض أحياء العاصمة، فإن معظم الاحتجاجات اقتصرت على المواجهات مع الأمنيين، ولم تقع فيها أعمال سرقة أو اعتداء على الأملاك الخاصّة أو العامّة. لكنّ قمع احتجاجات الأحياء الشعبية لم يميّز بين الاحتجاجات السلمية وأعمال السرقة، بل كانت هذه الأخيرة ذريعة استخدمتها الحكومة لتبرير مقاربتها في التعامل مع الاحتجاجات، القائمة على القمع ولا شيء غيره.
سلطة لا تتحدّث سوى لغة القمع
ظهرت شراسة التعامل الأمني منذ الليالي الأولى للاحتجاجات. شراسة يعكسها أوّلا العدد الكبير للإيقافات، الذي تجاوز 1300، قرابة ثلثهم من الأطفال القصّر. إيقافات لم تقتصر على ميدان المواجهات الليلية، فقد داهم الأمن عشرات المنازل في الليل كما في النهار، لإيقاف شباب الأحياء الشعبية، وفي أحيان كثيرة دون إذن من النيابة العمومية. كما شملت الإيقافات عددا من المدوّنين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي الذين ساندوا الاحتجاجات، في حين تمّ توجيه استدعاءات لآخرين للمثول أمام الفرق الأمنية. سياسة الإيقافات العشوائية انعكست، حسب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في تحرير محاضر اتهام تقريبا متطابقة لمئات الشباب الموقوفين، فكأن التهم جماعية، والمسؤولية جماعية، والهدف هو الزجّ بأكبر عدد ممكن من المحتجّين في السجون، لكبح جماح الانتفاضة.
شراسة التعامل الأمني تظهر أيضا من خلال الاستعمال المكثف والعشوائي للغاز المسيل للدموع، الذي اخترق منازل المتساكنين في حيّ التضامن في العاصمة. بل أن مقطع فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر أحد الأعوان وهو يرمي، بدم بارد، قذيفة غاز مسيل للدموع لمتساكن في شرفة منزله، في أحد أحياء مدينة صفاقس.
كلفة الاستعمال المكثف والعشوائي لقنابل الغاز المسيل للدموع كانت للأسف أكبر بكثير. فقد أصابت إحدى القنابل رأس الشاب هيكل الراشدي، في منطقة سبيطلة من ولاية القصرين، لتؤدي بعد أيام لوفاته في مستشفى سهلول في مدينة سوسة، الذي يبعد ساعتين ونصف الساعة عن مدينة سبيطلة. ورغم خطورة ما حصل، اكتفت وزارة الداخلية بالتشكيك في ملابسات إصابة الراشدي، والترويج لرواية مغايرة مفادها سقوطه من سلّم منزل، مما زاد من إشعال غضب عائلة الراشدي وأبناء مدينته. غضب لم يجد إجابة سوى قنابل الغاز المسيل للدموع، التي جابهت الحشود التي خرجت في جنازة هيكل الراشدي، فعاد ليتفجّر من جديد في الاحتجاجات الليلية.
قمع مظاهرات النهار يثبت زيف الخطاب الرسمي
رغم تعدّد التجاوزات الأمنية وتوثيق عدد منها صوتا وصورة، جاء خطاب رئيس الحكومة، بعد ستة أيام من اندلاع الاحتجاجات، ليشدّد على أن التعامل الأمني اتّسم بحرفيّة عالية و”عقيدة جمهورية“. كذلك، اعتبر وزير الدفاع في جلسة الحوار مع البرلمان حول الاحتجاجات، أن الأمنيين أثبتوا قدرا عاليا من ضبط النفس واحترام الذات البشرية وحقوق الإنسان. لم يقتصر الغطاء السياسي لشراسة التعاطي الأمني على رئيس الحكومة وأعضائها، بل شمل أيضا الأحزاب الداعمة لها، وخاصّة حزبي النهضة وقلب تونس. وقد اتفق جميعهم على تجريم الاحتجاج الليلي، والتمييز بينه وبين الحقّ في التظاهر، الذي يكون بالضرورة في النهار. فالخروج في الليل، حسب هذا الخطاب، دليل كاف على أن الغرض ليس التعبير على الرأي، وإنما السرقة والتخريب.
لكن التعامل الأمني مع مسيرات النهار، التي لا جدال حول سلميّتها، أثبت أن قمع الاحتجاجات لم يكن يهدف لحماية الممتلكات، وأن التضييق من الحقّ في التظاهر لا يميّز بين احتجاجات الليل والنهار. فقد جابه البوليس مسيرة يوم 19 جانفي في شارع الحبيب بورقيبة، المساندة لاحتجاجات الأحياء الشعبية والمطالبة بإطلاق سراح الموقوفين، بالاعتداء على المتظاهرين وإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع. كما حاولت قوات الأمن منع مسيرة يوم 23 جانفي، عبر غلق المنافذ المؤدية لشارع الحبيب بورقيبة وفرض طوق عليه، استطاع المتظاهرون بعد جولات من الكرّ والفرّ كسره، ليتمّ إيقاف بعضهم لمدّة ساعات. كرّرت الحكومة الاستراتيجية ذاتها بعد ثلاثة أيام، في الذكرى 43 لأحداث 1978 وتزامنا مع جلسة منح الثقة للوزراء الجدد، لتمنع المسيرة التي دعت إليها أبرز المنظمات الحقوقية في تونس أمام البرلمان. فرضت قوات الأمن طوقا أمنيا غير مسبوق في محيط قصر باردو، شبّهه عدد من النواب بالمنطقة الخضراء في بغداد، حال دون وصول عدد من المتظاهرين، بل عطّل حتّى بعض النواب ومساعديهم. ورغم أن مئات المتظاهرين استطاعوا بلوغ محيط البرلمان، نجحت قوات الأمن في منع وصول المسيرة التي انطلقت من حي التضامن، وجمعت عددا من شباب الحيّ بنشطاء حقوقيين ويساريين، من الانضمام لهم.
قد يكون تطويق مجلس نواب الشعب بذلك الشكل جنّب رئيس الحكومة ما كان سيمثّله مشهد آلاف المتظاهرين المحتجّين على حكومته، بالتزامن مع بحثه على تجديد شرعيّته في البرلمان. لكنّه سبّب له إحراجا أكبر، حيث أظهر خوْف الحكومة والأغلبية المساندة لها من المسيرات الاحتجاجية، حتى تلك التي تدعو لها منظمات المجتمع المدني في وضح النهار، وأثبت انتهاكها للحق في التعبير والتظاهر، وهو من أبرز مكتسبات الثورة. مشهد المدرعات التي تحيط البرلمان من كلّ الطرق والأنهج أعطى صورة بالغة الرمزية لمدى انعزال الطبقة السياسية الحاكمة عن نبض الشارع، وانشغالها بالمعارك السياسوية وصراع المواقع.
القضاء : حلقة في المنظومة القمعيّة، أم حامي الحقوق والحريات ؟
حجم الإيقافات في صفوف الشباب دفع عددا من المنظمات الحقوقية، كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومنظمة محامون بلا حدود، بالإضافة إلى عدد من النشطاء، إلى التجنّد لحماية حقوق الموقوفين وتوفير محامين لهم. فقد انتقلت المعركة من ساحات الأحياء الشعبية إلى قاعات المحاكم، وأصبح أوّل المطالب إطلاق سراح الموقوفين، خاصّة بعد صدور أحكام قاسية بسنتين سجنا مع النفاذ العاجل عن محكمة بنزرت. ساهم هذا الجهد في صدور أحكام عديدة بعدم سماع الدعوى، كما في المهدية وبن عروس. فقد كانت الملفات في معظمها خالية من أي دليل إدانة، بما أن التهم كانت في أحيان كثيرة توجّه بطريقة عشوائية.
هذا التوجّه ظهر كذلك في بيان جمعية القضاة، بتاريخ 28 جانفي، الذي شدّد على رفض التعاطي الأمني مع الاحتجاجات المشروعة، وعلى أهمية دور القضاء في حماية الحقوق والحريات من كل انتهاك، وأن التصدي لأعمال التخريب والنهب والاعتداء على المؤسسات والأملاك الخاصة والعامة يجب أن يكون ”في كنف احترام الإجراءات القانونية وكفالة ضمانات المحاكمة العادلة “.
لكن، يبدو أن دور حماية الحقوق والحريات يقتصر، في ذهن عدد من قضاة النيابة العمومية، على القضاء الجالس. حيث تبرز شهادات عديدة رفض وكلاء الجمهورية معاينة آثار العنف والتعذيب على المتهمين. بل كانوا يأذنون بسهولة تامة بالاحتفاظ بالمتهمين، كما تدلّ عليه قرارات الاحتفاظ بما لا يقلّ عن 150 موقوف في بن عروس في يوم واحد، حسب الناشطة في منظمة محامون بلا حدود أميمة مهدي.
كما يطرح تتبّع عدد من الموقوفين، كالصحفي المصوّر إسلام الحكيري، بتهمة ”هضم جانب موظف عمومي“ لمجرّد مناقشته أعوان الأمن واحتجاجه على طريقة تعاملهم، إشكالا كبيرا، حيث تكفي في أحيان كثيرة شهادة الأمنيين وزملائهم لإدانة أشخاص لا ذنب لهم سوى مطالبتهم باحترام حقوقهم وكرامتهم. وفي انتظار إصلاح المجلة الجزائية وفصولها البالية، القضاة مطالبون بأن لا يبقوا هذه التهمة، التي لا يتردّد أعوان الأمن في استعمالها ضدّ كل من ينتقدهم أو يشتكي من تجاوزاتهم، سيفا مصلّتا على الأفراد ودرعا يحمي الأمنيين من أي مسائلة.
إنّ الحماية القضائية للحقوق والحريات لا تقف عند إصدار أحكام بعدم سماع الدعوى لخلل في الاجراءات أو لضعف الأدلّة، وإنما من واجب القضاء أن يتابع التجاوزات الصادرة على أعوان الأمن في حقّ أبناء الأحياء الشعبية، وفي طليعتها تلك التي أدّت إلى وفاة الشاب هيكل الراشدي في سبيطلة، وأن لا يرضخ لمحاولة النقابات الأمنية حماية منظوريها، ولا لتستّر وزارة الداخلية على أعوانها المورّطين. فإفلات أعوان الأمن من العقاب، مهما كانت الانتهاكات التي يقترفونها، ليس فقط نكرانا للعدالة وتشجيعا لمنظومة القمع، وإنما يساهم أيضا في خلق القطيعة بين شباب الأحياء الشعبية، وهم من أكبر ضحايا هذه المنظومة، والدولة بجميع أجهزتها. فالخلط بين البوليس والدولة مردّه انطباع منتشر، وله ما يؤيّده، أن من ينفّذ القانون هو فوق القانون.
انتفاضة شباب الأحياء الشعبية لم تعرّ فقط الواقع الصّعب الذي يعيشونه، والتهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يعانون منه، وإنما شكّلت دليلا إضافيا على أن الدولة لا تمتلك مقاربة لمطالب هؤلاء الشباب، غير اليد القمعيّة، وأنّ الثورة التي نحيي ذكراها العاشرة لم تغيّر كثيرا في طريقة التعامل مع أبناء الأحياء الشعبية، القائمة على التمييز وافتراض النيّة الإجرامية من المظهر الخارجي أو عنوان السكنى، وكذلك أنّ الطريق لإرساء أمن جمهوري، يحترم الحقوق والحريات وكرامة الناس لا تزال طويلة. لكنّ هذه الانتفاضة، وموجة المساندة التي أحاطت بها، تشكّل في الآن ذاته فرصة لبناء جسور بين شباب الأحياء الشعبية وجزء من النخبة الذي يمثّله النشطاء ومنظمات المجتمع المدني، وصياغة ترجمة حقوقية لصرخة الغضب التي أطلقوها.