“
غبار، نش، رائحة عفن، جرذان وهررة ميتة، أحذية سكب بداخلها الباطون، وملفات وحقوق ناس ثبتت على الأرض بسكب الإسمنت عليها. هكذا كان حال مخزن محفوظات وملفات محكمة التمييز الجزائية والمدنية (الأرشيف) في قصر عدل بيروت، حين بادرت جمعية “فرح العطاء” منذ حوالي شهر ونصف لإصلاح ما أمكنها إصلاحه وإنهاء حالة الفوضى في هذا المضمار. وعليه، باشرت الجمعية عملية ” ترتيب، توضيب وإعادة الأرشفة لكل الملفات الموجودة داخل المخزن من خلال وضعها في ملفات جديدة حفاظاً على حقوق الناس”. وقد تمكنت الجمعية من ذلك بعدما حصلت على موافقة غير مألوفة من رئيس مجلس القضاء الأعلى والرئيس الأول لمحكمة التمييز جان فهد على هذه الأعمال. وهذا ما نقرأه في البيان الصادر عن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى بتاريخ 16 شباط 2019.
عندما نقول أرشيف محكمة التمييز، فإننا نتصور منطقيا أن يكون مودعا في غرفة نظيفة في أحد طوابق العدلية. ولكن هذا ليس حال أرشيف محكمة التمييز في بيروت أقله خلال السنوات الممتدة منذ الاستقلال وحتى العام 1997، والذي كان كناية عما يشبه “الزنزانة” المهجورة التي تقع مقابل موقف سيارات القضاة، معتمة وفي حالة يرثى لها لا بل تبعث الرعب في قلب من يود الإقتراب منها وربما هذا ما دفع بالموظفين إلى رمي الملفات داخل هذا المخزن على نحو عبثي على الأرض دون الاكتراث لمسألة الترتيب والتنظيم. وزير العدل القاضي ألبرت سرحان وأثناء زيارته للمكان نهار السبت 16/2/2019 أبدى تعجبه من وجود هذا المخزن وقال:”أنا قاضٍ منذ سنوات وآتي إلى هنا أركن سيارتي ولم يخطر ببالي أن أرشيف المحكمة موجود هنا مبدياً كل الدعم لهذا العمل الذي “يعد الأول من نوعه في قصور العدل”، وهو “أنموذج للمواطنة الصادقة والملتزمة”.
بالاستعانة ببعض الألواح الخشبية، تم إغلاق قسم من موقف قصر العدل الذي يحيط بالمخزن، وجرى تحويله إلى غرفة عمليات حيث وضعت الطاولات موزعةً إلى أقسام في هذا المكان المستحدث، “منطقة إعادة تأهيل وترميم ملفات مهترئة، ملفات جزائية، طاولة فرز الملفات، منطقة ترتيب، منطقة الطعام، وزاوية تبديل الملابس.
مجموعة من الشباب والشابات من طلاب الجامعات المتطوعين في جمعية فرح العطاء حضروا إلى المكان. في البداية استبدلوا ملابسهم بملابس العمل التي حملت شعار الجمعية، وضعوا الكمامات والقفازات ثم انغمسوا بالعمل، و كخلية نحل لا تهدأ كان بعضهم ينفض الغبار عن الملفات هناك، والبعض الآخر يكنس، وآخرون يدونون على الملفات الجديدة والحماسة لا تغيب عنهم ولا لحظة.
إنقاذاً لحقوق الناس
ينغمس المحامي الياس سلامة من جمعية فرح العطاء في العمل بتفانٍ وغير مبالٍ بالغبار الذي يصبغ شعره باللون الأبيض. يروي ما تمت مشاهدته في البداية في هذا المكان، ويقول:”إن قضية الأرشيف لم يكن يعطى لها أي قيمة في السابق علما أنه هو الذي يحمي حقوق الناس. أعمال الصبّ والترميم لم يكن عليها رقابة، فقام العمال بصب الباطون على الملفات، فيما النش أسهم في تلف العديد من الملفات التي لم تحرقها نار الحرب. ومن بعدها، كان الموظف يأتي ويرمي الملف ثم يذهب”. يلفت سلامة إلى أن “ما لم تحرقه الحرب من ملفات بإمكان أن يحرقه مس كهربائي مفاجئ نتيجة اختلاط ماء النش والشرطان الكهربائية في المكان حيث لا يوجد أي نظام أمن في هذا المخزن”.
ويرى أن أهمية العمل الذي تقوم به الجمعية يكمن في أنه “يتعلق بملفات وحقوق الناس، ناهيك أنه لا يليق بحق العدالة أن يكون الأرشيف على هذا النحو”. واعطى مثالاً عن مسألة الحقوق فقال: “هناك ملفات تتعلق بدعاوى عقارية، الدعوى العقارية لا تسمع إلاّ إذا كانت هناك إشارة على الصحيفة العقارية. اليوم إذا كانت هناك دعوى قد صدر الحكم فيها ولكن لم ينفذ فورا وجاء المواطن بعد عشر أو عشرين سنة لينفذ الحكم وتوجه إلى أمين السجل العقاري وطلب منه قرارا برفع الاشارة إذا كان الارشيف على هذا النحو، كيف بإمكان إزالة الإشارة للشخص المتضرر منها؟ هنا تكمن أهمية هذه الخطوة”.
وكان من الجميل رؤية بين جموع المتطوعين المساعد القضائي المتقاعد محمد موسى، الذي رغم تقاعده منذ سنوات جاء بكل ما أوتي من عزيمة للمشاركة في أعمال الترتيب وكان يشرف على عملية التدوين على الملفات الجديدة من قبل المتطوعين والمتطوعات ويشاركهم. يتحدث موسى عن المكان وفي صوته مزيج من الحنين إلى عمله والأسى لحالة الفوضى والإهمال الحاصل في المكان لكنه يتأمل خيراً من خطوة الجمعية.
أما اللافت فكان مشاركة متطوعين ومتطوعات أجانب في العمل. ويتحدث غيون الير من فرنسا عن مشاركته فيقول: “تعرفت على فرح العطاء بواسطة صديق وأحب فكرة المساعدة في إعادة تأهيل المكان”.
كما تحدثت جويس تساومين شيل وصديقها سباتر كومويا من الصين عن مشاركتهما وقالا: “نحن متطوعان في الجمعية ونقوم بتعليم التلاميذ من الإثنين إلى الجمعة وفي عطلة نهاية الأسبوع نشارك في أعمال إعادة التأهيل. نحن طلاب جامعة وهذه الخطوة تتيح لنا التعرف أكثر إلى المحاكم اللبنانية والمجتمع اللبناني”.
المكننة داخل عدلية بيروت
خلال تواجدنا هناك، لحظنا حضور الرئيس الأول جان فهد شبه الدائم. وفي حديث معه، أكد لنا أنه “يلازم الأعمال طوال الوقت إلا في حال جد عليه أمر ما فإنه يغادر لبعض الوقت ثم يعود. شو بدك أعمل بعمل”. يتوجه فهد بكلامه إلى رئيس الجمعية المحامي ملحم خلف، ثم يسأله على سبيل المجاملة والدعابة: “بدك حدا يجلي الأرض؟” مؤكداً أن كل شيء سيتم معالجته، بدءاً من معالجة النش داخل المخزن وصولاً إلى السعي إلى جدولة الملفات وحفظها وفق الأصول المعمول بها في المحاكم وفقاً للتقنيات الحديثة، أي اعتماد المكننة واستخدام أجهزة الكمبيوتر.
وكان لافتا أن ترى القاضي فهد الذي يشغل منصبه منذ 2012، يشمّر عن ساعديه ويشارك بأعمال التوضيب والترتيب مثل أي ناشط. وفي دردشة معه، اعتبر أن مشاركته في العمل هي “أضعف الإيمان”، وقال:”في العام 1985 تم قصف قصر العدل وجاء القصف على محكمة التمييز حيث دخل الصاروخ من الشباك وحرق الطابق الرابع. احترقت بعض الملفات وما تم إنقاذه، أحضر إلى هذا المخزن. الآن سوف نقوم بأعمال الجرد لكل الملفات لنرى الموجود منها وغير الموجود”.
وعن مشاركته شخصياً في العمل قال: “في النهاية أنا مواطن وعندما كنت في عمر المتطوعين والمتطوعات كانت لدي الاندفاعة عينها، في النهاية نحن نقوم بخدمة بلدنا. وإذا أصبحت بمركز المسؤولية، فهذا لا يمنعني من القيام بهكذا عمل. هو من أهم وأجمل الأعمال”.
“عمل نهار هم سنة”، بهذا المثل يحاول القاضي فهد تبديد إحساس التعب لدى المتطوعين والمتطوعات بعد ساعات من العمل المضني، مؤكداً أن المساعدين القضائيين سيقومون في الأيام العادية بالمساعدة خلال دوام العمل في مسألة مطابقة الملفات. ووسط الانهماك في العمل يعلن القاضي فهد أنه سيتم”اعتماد نظام المكننة وسيصار إلى القيام بـscanning لجميع الملفات ووضعها على أقراص مدمجة cd حتى يتم حفظها على نحو غير قابل للتلف إلى جانب النسخة الورقية. كما سيتم اعتماد نظام داتا المعلومات على الكومبيوتر التي تمكن أي مواطن من الوصول إلى ملفه في خلال ثوانٍ. وهذه الخطوة سوف يتم البدء بها في خلال ثلاثة أشهر، والعمل سيبدأ من الملفات الحديثة ثم ننتقل إلى الملفات القديمة التي يجري ترتيبها”.
فرح العطاء: معا نستطيع
ما يميز رئيس جمعية فرح العطاء المحامي ملحم خلف هو ابتسامته التي لا تغيب رغم التعب والإرهاق والغرق في الغبار. ولعل هذه الابتسامة تنطلق من “الإيمان بما تقوم به الجمعية من عمل” فيقول: “اليوم نحاول أن نكون الرجاء داخل وطننا. إن القضاء هو حجر الزاوية لقيام الوطن. وهو رافعة الوطن وفقط من خلال القضاء سيتم خلاص لبنان. ودون قيام هذه السلطة لن يكون هناك وطن”.
أضاف: “إن جمعية “فرح العطاء” تسعى دوماً نحو العمل الجدي المميز الذي يذهب إلى عمق الأعمال اليوم من خبرتنا على الأرض ندرك أن هذا الواقع بحاجة لأن يتحرك أحد. فالمساعدون القضائيون كانوا يجهدون لأيام وأسابيع من أجل العثور على ملف لأن الولوج إلى المكان كان غير متاحٍ، من هنا قررنا المساعدة بالولوج والتمكين من الوصول إلى الملفات”.
وأكد خلف أن عمل الجمعية ينطلق من ثلاثة أمور أساسية هي: “أولاً، حس المواطنة المجرد من أي مصلحة ويتجسد في الخدمة المجانية. ثانياً، مساعدة الناس سيما الأشخاص الذين يبحثون عن ملفاتهم منذ عقود كي تتمكن محكمة التمييز من البت بها. ثالثاً القضاء وهو رافعة الوطن ونهضته وخلاصه”.
وعن سير الأعمال قال:”لدينا ما يزيد عن 35 متطوع/ة. وخلال الأسبوع هناك مساعدان قضائيان متقاعدان يساعدان في الملفات وكذلك هناك أيضاً أخصائيون في ترتيب المكتبات جاؤوا لمساعدتنا”.
يلفت خلف إلى أن”المكان كان في حالة يرثى لها ويحتاج لمن يأتي ويقوم بالهمم، نحن جئنا لنقوم بالهمم، هذا كل ما نقوم به”. وينوه خلف “بقرار الرئيس الأول جان فهد الذي أعطى كل التعليمات لتسهيل هذا العمل”، معتبراً أن قرار فهد “هو قرارٌ جريء وواضحٌ ويظهر أن المسؤولية هي بالشراكة مع الجميع”.
ويختم خلف قائلاً: “الوجع كبير ولكن اليوم نريد الحديث عن كيفية التغيير. هذا العمل يثبت أنه بالتعاون والتضامن هناك أمور قد نظنها كبيرة ولكن عندما نبذل جهدنا بها فضلاً عن الإيجابية تصبح يسيرة”.
خلاصة
تشكل مبادرة “فرح العطاء” في توضيب الأرشيف مبادرة جيدة جدا في إطار ضمان حسن سير المرفق القضائي وحفظ الذاكرة القضائية. وهي مبادرة تؤكد مرة أخرى أن القضاء هو شأن عام، وأنه يصعب أن تستقيم أحواله من دون تشاركية واسعة. ويؤمل أن تتوسع هذه التشاركية، فتتجاوز العمل التقني أو الخدماتي لتشمل إلى جانب ذلك، ضمان شفافية واستقلال القضاء.
مقالات ذات صلة:
المفكرة تنشر اقتراح قانون الإئتلاف المدني حول استقلال القضاء وشفافيته
ائتلاف مدني واسع من أجل إصلاح القضاء: مسودة مشروع قانون استقلال القضاء وشفافيته برسم الكتل النيابية والمرشحين
القضاء العادي في جميع محطاته: رسم بلون الماء
حين تجمّع القضاة في لبنان
“