يشهد لبنان منذ تشرين الأول 2019 أزمة مالية واقتصادية خانقة، أتت جائحة كورونا لتعمّقها. فخلال الفترة الممتدّة من تشرين الأول 2019 إلى آذار 2020، شهدنا إغلاق مؤسّسات عدّة كلّيّاً أو جزئياً وخسارة عدد كبير من الأجراء وظائفهم أو الجزء الأكبر من رواتبهم فضلاً عن تراجع العملة الوطنية.
وبتاريخ 15 آذار 2020، وبهدف مواجهة جائحة كورونا، أصدرت الحكومة مرسوم تعبئة عامّة نصّ على “وجوب التزام المواطنين البقاء في منازلهم وعدم الخروج منها إلاّ للضرورة القصوى”. كما نصّ المرسوم على “إقفال الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلدية والمصالح المستقلّة والجامعات والمدارس الرسمية والخاصّة باستثناء البعض منها لتلبية حاجات المواطنين، وتعليق العمل في الشركات والمؤسّسات الخاصّة والمحلّات التجارية على اختلافها ومكاتب أصحاب المهن الحرّة مع مراعاة الضرورة القصوى المرتبطة بالعمل بالتنسيق مع نقابات المهن الحرّة هذه”. وقد تمّ تمديد التعبئة العامّة مرّات عدّة مع إرفاقها أحياناً بإغلاق عام وضبط حركة التنقّل والانتقال.
وتبعاً لذلك، وتحديداً لفقدان العديد من اللبنانيين مداخيلهم كليّاً أو جزئياً فضلاً عن تراجع نشاطات الاقتصاد المنتج بشكل كبير وتوقّفها قسراً بموجب قرار حكومي، نشهد وبشكل متزايد تنامي أسباب النزاع بين عدد كبير من المستأجرين والمالكين، سواء بالنسبة للإيجارات السّكنية أو غير السّكنية. وقد زاد من ذلك التضارب الحاصل حول سعر الصّرف: فما هو بدل الإيجار في حال تحديده بالدولار الأميركي؟ هل يحتسب على أساس سعر الصّرف المعتمد من مصرف لبنان في المعاملات بين المصارف أم على أساس أسعار الصّرف المعتمدة في لبنان لدى المصارف أو الصرّافين، وهي آخذة في التعدّد مع فروقات هائلة بين السّعر والآخر؟ يكفي لإدراك ذلك أنّنا نشهد اليوم تفاوتاً في أسعار الصّرف تذهب من 1500 ليرة للدولار الواحد لتصل إلى 4200 ليرة في سوق الصرّافين وتقارب 9000 ليرة في “السّوق السّوداء”.
وعليه، نشهد في الوقت نفسه بروز ثلاثة معطيات تستوجب جميعها تدخّل المشرّع هي:
أوّلاً، لغط كبير حول قيمة بدلات الإيجار المحدّدة بالدولار الأميركي، في ظلّ تضارب أسعار الصّرف،
ثانياً، تهديد متصاعد لضمانات حقّ السّكن للعديد من اللبنانيين في ظلّ تراجع مداخيلهم، وتفاقم عدم التناسب بين هذه المداخيل وبدلات الإيجار، بما يمسّ بمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق دستورية في مقدّمتها حقّ السّكن. وقد زاد هذا التهديد جسامة في ظلّ تقاعس الدولة عن إنشاء الصندوق الخاص بمساعدة المستأجرين منذ 2014.
ثالثاً، لغط كبير حول مدى استحقاق البدلات وبخاصّة في ظلّ صدور مرسوم التعبئة العامّة، في مجمل المجالات الاقتصادية التي لم تستثنَ منه.
والملفت أنّه رغم جسامة هذه المعطيات، لا يحرّك المشرّع ساكناً. فلا نجد أيّ مسعى للتصدّي لأيّ من هذه التحديات أو التعامل معها بشكل جدّي، بما ينذر بتفاقم النزاعات بين مختلف المواطنين وتفاقم الفقر في مناطق عدّة في هذا الخصوص.
منع “الرهان” ضدّ الليرة ووجوب احتساب البدلات المحدّدة بالدولار الأميركي على أساس سعر الصّرف بتاريخ التعاقد
تتزايد النزاعات بين المستأجرين والمالكين بخصوص الإيجارات السّكنية أو غير السّكنية المحدّدة بدلاتها بالدولار الأميركي. وهذا النزاع ينشأ ليس فقط بفعل تضارب أسعار الصّرف، بل يشمل أيضاً مدى قانونية تحديد بدلات الإيجار بعملة غير العملة الوطنية بخاصّة في ظلّ سياسة ثبات سعر الصّرف. وفيما من المقبول وضع مؤشّر يسمح بأن يؤخذ ارتفاع المداخيل بعين الاعتبار، فإنّ تطبيق مؤشّر كهذا في ظلّ انهيار العملة الوطنيّة وتراجع المداخيل يحمل خطورة كبيرة حيث أنّه يشجّع الرّهان على تدنّي العملة الوطنية ويهدّد تمتّع المواطنين بحقّ السّكن على نحو يتناسب مع متوسّط المدخول الوطني. كما أنّه يهدّد إمكانية استمرار النشاطات الاقتصادية المنتجة ومعها المصلحة العامّة في إنعاش الاقتصاد واستعادة حيويّته، وهي مصلحة يجب أن تغلب طبعاً حماية الاقتصاد الريعي.
وهذا ما عالجته صراحةً تشريعات دول عدّة (منها فرنسا) معتبرة استخدام مؤشّر سعر صرف العملات الأجنبية في عقود الإيجار الداخلية باطلاً لمخالفته النظام العام. ففيما عمد الاجتهاد في مرحلة أولى إلى اعتبار البنود التي تعتمد مؤشّر سعر صرف العملات الأجنبية clauses « valeur- or » et « valeur- monnaie étrangère » باطلة بعد إعمال القياس بينها وبين البنود التي تفرض أن يحصل إبراء الدّين بعملة أجنبية clauses- or ou monnaie étrangère خلافاً لمبدأ ثبات القوّة الإبرائية للفرنك الفرنسي (العملة الفرنسية قبل اعتماد اليورو). وقد برّر الاجتهاد ذلك بأنّ بنوداً كهذه تفترض رهاناً على تدنّي سعر الصّرف. وإذ تردّدت بعض المحاكم الفرنسية بعدئذ في هذا الخصوص، حسم المشرّع ومعه الاجتهاد المسألة ابتداء من 4/2/1959 (تاريخ تعديل القانون الأساسي 30/12/1958) الذي اعتبر أنّ هذه البنود تعدّ قانونية فقط في حال وجود رابط مباشر بينها وبين موضوع العقد أو نشاط أحد الفريقين (نشاط مصرفي أو مالي مثلاً).
ومن هنا، ثمّة ضرورة لتدخّل المشرّع في اتّجاه اعتبار أيّ بدل إيجار محدّد بالدولار قبل 17 تشرين الأول 2019 على أنّه يحتسب على أساس 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أي سعر الصّرف الذي تمّ التعاقد في ظلّه.
حماية حقّ السّكن الدستوري
يشكّل حقّ السكن حقّاً أساسيّاً من حقوق الإنسان كما يتمتّع بقيمة دستورية إذ هو منصوص عليه في المعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الدّولة اللبنانية في مقدّمة الدستور.
وفي هذا المجال، اعتبرت اللجنة المعنيّة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أنّ “التكاليف المالية الشخصية أو الأسرية المرتبطة بالسّكن ينبغي أن تكون ذات مستوى يكفل عدم تهديد إحراز وتلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى أو الانتقاص منها. وينبغي للدول الأطراف أن تتّخذ خطوات لضمان أن تكون النسبة المئوية للتكاليف المتّصلة بالسّكن متناسبة، بصورة عامّة، مع مستويات الدخل. وينبغي للدول الأطراف تقديم إعانات سكن لأولئك الذين لا يستطيعون الحصول على مساكن يمكنهم تحمّل كلفتها، فضلاً عن تحديد أشكال ومستويات تمويل الإسكان التي تعبّر بصورة كافية عن الاحتياجات للسّكن. ووفقاً لمبدأ مراعاة القدرة على تحمّل التكاليف، ينبغي حماية مستأجري المساكن من مستويات الإيجار أو زيادات الإيجار المرتفعة على نحو غير معقول، وذلك من خلال اعتماد وسائل مناسبة (…).”
من البيّن أنّ المداخيل تراجعت بشكل ملحوظ في لبنان خلال فترة التعبئة العامّة، ونتيجة الأزمة المالية والاقتصادية الحادّة، مما يستدعي تدخّل الدولة لتصحيح بدلات الإيجار بشكل يتماشى مع هبوط المداخيل.
كما ومن جهة ثانية، على الدولة التوفيق والموازنة بين حقَّي السّكن والملكية الدستوريَّين. فحقّ الملكية ليس مطلقاً بل هو حقّ يبقى مرتبطاً بوظيفة اجتماعية وفق العلّامة لويس جوسران ومن الممكن تالياً تقييده عملاً بالحاجة المشروعة لتوفير مساكن ببدلات تتناسب مع مداخيل الدولة والأفراد، وبكلام آخر ضماناً لحقّ السّكن الذي يضاهيه من حيث القوّة الدستورية. وهذا ما أكّد عليه المجلس الدستوري في قراَريه رقم 6/2014 ورقم 3/2017 الصادرين تباعاً بتاريخ 6 آب 2014 وبتاريخ 6 نيسان 2017.
ومن نافل القول إنّ هذا التوازن أصبح بحكم المفقود اليوم بعدما هبط الإنتاج والدخل العامّ في البلاد من دون أن تشهد بدلات الإيجار أيّ تعديل؛ هذا فضلاً عن أنّ بعض المالكين يسعون إلى فرض ارتفاع خيالي للبدلات (يتجاوز 100%) بفعل احتساب الدولار وفق أسعار صرف مرتفعة.
من جهة ثالثة، بفعل الانكماش الاقتصادي وحجز الودائع ووقف القروض السكنية وأيّ سياسة إسكانية، وعدم إنشاء الصندوق الخاص بمساعدة المستأجرين منذ 2014، بات قانون الإيجارات الجديد مخالفاً بشكل صريح للدستور. فالمجلس الدستوري كان استند للقول بدستورية قانون الإيجارات الجديد، ولردّ الطعنين المقدّمين في عام 2014 بوجه القانون بصيغته الأساسية (حيث اكتفى بإبطال بعض مواده)، وذلك المقدّم عام 2017 بوجه القانون التعديلي، على المبدأ نفسه وهو نجاح القانون في إحقاق التوازن بين حقّين مصانين دستورياً وهما حقّ الملكية والحق في السّكن. فإذاً، استندت دستورية القانون إلى الترابط والتكامل في الآليات التي يرسيها، خصوصاً آليَّتَي تحديد بدل المثل والحقّ في المطالبة بمساعدة الصندوق. فهذا الترابط والتكامل بين الآليات هو العنصر الأساسي الذي يرسو عليه التوازن الذي تحدّث عنه المجلس الدستوري، والذي شكّل الأساس للقول بأنّ القانون يوفّق بين حقّ الملكية وحقّ السّكن، وبالتالي أنّه دستوري.
عليه، يقتضي تعليق أحكام قانون تحرير الإيجارات (2/2017) بما يتّصل باسترداد المآجير لحاجات الهدم وإعادة البناء، وزيادة البدلات التدريجية، وتمديد المدّة المتبقية لتحرير الإيجارة بشكل كامل لفترة لا تقلّ عن ثلاث سنوات.
وتقتضي الإشارة في هذا الإطار إلى أنّه تمّ تقديم اقتراحين إلى مجلس النوّاب خلال سنة 2019 بهدف تعديل قانون الإيجارات رقم 2/2017 في الشقّ المتعلّق بالإيجارات السكنية، واقتراح ثالث يقضي بتعليق العمل بهذا القانون والعمل مؤقتاً بقانون الإيجارات الإستثنائي رقم 160/92 وذلك لحين البتّ في كافة التعديلات التشريعية المقترحة. وبرّرت الأسباب الموجبة للاقتراح الأخير تعليق العمل بقانون 2/2017 بضرورة تعديله ليصبح “متناسباً مع الواقع اللبناني والثغرات الخطيرة التي أوجدها القانون وعدم تطبيقه الكلّي أو الجزئي” مع الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الصعبة للبلاد المترافقة مع ارتفاع أسعار العقارات وبدلات الإيجار مقابل تدنّي القدرة الشرائية وعدم رفع الحدّ الأدنى للأجور. كما ذكّرت الأسباب الموجبة بتقاعس الدولة عن إقرار أيّ خطّة سكنية أو بديل سكني، في ظلّ عدم قدرتها على إنشاء الصندوق أو الحساب وتمويله ممّا يعرّض شريحة كبيرة من المواطنين للتهجير والتشرّد. إلّا أنّ هذه الاقتراحات الثلاثة لا تزال عالقة في المجلس النيابي.
ونذكّر بأنّ قانون حماية منطقة الانفجار ودعم إعادة إعمارها (194) تضمّن مادة تمدّد عقود الإيجارات كلّها (السكنية وغير السكنية، العادية والاستثنائية) المتناولة عقارات أو أقسام في الأبنية المتضرّرة، بمفاعيلها كافّة لمدّة سنة كاملة اعتباراً من نشره. كما تضمّن فقرة تجمّد الإجراءات القانونية بحقّ المتأخّرين عن سداد القروض السكنية المتعلّقة بشراء منزل تضرّر، لمدّة سنة بدءاً من 1/8/2020.
حماية الاقتصاد المنتج وضرورة الإعفاء من بدلات الإيجار للفترة المشمولة بمرسوم التعبئة العامّة في مجمل النشاطات غير المستثناة منه
من الثابت أنّ جميع المؤسّسات التي تمّ تعليق العمل فيها وجدت نفسها أمام قوّة قاهرة تمنعها من الانتفاع من المأجور. وعليه، يكون بإمكان هذه المؤسّسات التي يعاني الكثير منها من صعوبات مالية فائقة، إثارة القوّة القاهرة للتبرّؤ من البدلات المستحقّة عن فترة التعبئة العامّة. كذلك بالنسبة للمؤسّسات غير المشمولة بقرار التعبئة العامّة، فلقد أثّر الحدّ من حريّة تجوّل المواطنين بناءً على قرار التعبئة العامّة بشكل أكيد على أعمالهم، وبالتالي على ظروف تنفيذهم لموجباتهم ممّا يشكّل أيضاً قوّة قاهرة بالنسبة إليهم. وقد اعتبر الاجتهاد الفرنسي أنّه يكفي أن تؤدّي القرارات الإدارية fait du prince إلى وضع المدين في استحالة تنفيذ موجباته في الشروط نفسها، لتشكّل قوة قاهرة. وهذا ما ذهبت إليه محاكم تونسية ومغربية.
ومن شأن هذا الأمر أن يفتح الباب أمام نزاعات قضائية لا تعدّ ولا تحصى، ما لم يتدخّل المشرّع لحسم الأمر بقانون يكرّس النتيجة السليمة لتطبيق مفهوم القوّة القاهرة المؤقّتة أي إعفاء هذه المؤسّسات من بدلات الإيجار عن فترة الإغلاق الإجباري.
يتّصل هذا الأمر أيضاً بالمصلحة العامّة والرؤية الاقتصادية المستقبلية، حيث لا يمكن تعليق العمل بالاقتصاد المنتج برمّته مقابل إبقاء الاقتصاد الريعي على حاله.
من جهة أخرى، يمكن لأصحاب المؤسّسات هذه التذرّع بقاعدة التمنّع عن التنفيذ الاجتهادية، أو بمبدأ حسن النيّة التعاقدي لتعليق دفع هذه البدلات عن الفترات المذكورة. وأحد وجوه مبدأ حسن النية يكمن في موجب كلّ فريق في العقد بتسهيل تنفيذ الطرف الآخر لموجباته.
لقراءة المقال مترجم إلى اللغة الانكليزية