“
خلال شهر نيسان الفائت من العام الحالي، شغلت قصة العاملة الأثيوبية لينسا ليليزا ناشطين وجمعيات معنية بحقوق الإنسان. كان ذلك تحديداً بعدما أخبرت الشابة في فيديو صوّرته من المستشفى أنها تتعرض للتعذيب والعنف والحرمان من الحرية في منزل كفلائها، وأنها لم تتقاضَ أجرها طوال أشهر، وهي لا تعلم إن كان يتم تحويل راتبها إلى بلادها فعلاً أم لا. هذه القصة سرعان ما تحولت إلى إعتذار لينسا من أصحاب عملها، فور إعادتها إلى منزل كفلائها.
الضبابية التي تلفّ ظروف تراجع لينسا عن إخبارها المصور الأول ضد كفلائها، دفع “اللوريون لو جور”[1] للتقدم بإخبار يفيد أنها ضحية إتجار بالأشخاص، إثر متابعة الجريدة للقضية. تحقيق الأمن العام في هذا المجال إنتهى إلى نفس نتيجة التحقيق الذي فتحه الأمن الداخلي. فالتحقيقان وثّقا تراجع لينسا عن إخبارها في الفيديو الأول المصور في المستشفى، وتأكيد معاملة كفلائها الحسنة لها.[2] النتيجة التي توصلت إليها التحقيقات بقيت محل تساؤلات كثيرة، لا سيما لناحية الضمانات التي حصلت عليها لينسا خلال الإستماع إلى إفادتها بصفتها “ضحية محتملة” لجريمة إتجار بالأشخاص. وبالحد الأدنى ما إذا أُخرجت من منزل كفلائها الذين إتهمتهم في البداية، أم أنها ما تزال مقيمة معهم حتى الآن. هذا الغموض تفاقم في ظل إمتناع المنظمة غير الحكومية المتابعة للقضية عن الإجابة على هذه التساؤلات، وأيضاً عن توضيح الدور الذي لعبته لحمايتها.[3]
تشكل قضية لينسا نموذجاً عن حالات تثير التساؤل حول مدى فعالية الحماية التي تتمتع بها ضحايا الإتجار بالأشخاص، وما إذا كانت جميعها تحظى بها. أبعد من ذلك، هي تدفع للتساؤل بشأن قدرة الضحايا، على الوصول إلى القضاء، وبخاصة الأجانب منهم، وهم عادةً ما يرتبط حل قضاياهم بترحيلهم. مسائل تحتاج إلى تحديد بشكل أوضح لفهم الآليات المتبعة لتأمين هذه الحماية، وكذلك إلى تحديد دور الجهات المشاركة في تطبيقها.
لهذه الغاية قابلت “المفكرة”، خمس منظمات غير حكومية، تعمل على تأمين الدعم والحماية لضحايا الإتجار بالأشخاص، أو تنفذ برامج وقائية في قضايا متصلة بهذا المجال، هي “دار الامل، عدل وحمة، كفى عنف وإستغلال، إنترسوس، وعامل”. حيث اتضح أن المنظمات غير الحكومية تحمل عبء هذا الملف على كاهلها في ظل صعوبات عديدة تتحمل مسؤوليتها الجهات الحكومية.
المنظمات غير الحكومية: صعوبة ردم الهوة الرسمية
تضع منسقة برنامج دعم المهاجرين ومكافحة الإتجار بالبشر في مؤسسة عامل زينة مهنا في حديث مع “المفكرة” “غياب آلية حماية موحدة من قبل الجهات الرسمية لحماية ضحايا الإتجار” في المرتبة الأولى ضمن الصعوبات التي تواجه عملها. “ما نحتاجه هو تأمين حماية رسمية، وأقصد أن تكون هنالك حماية متكاملة ضمن حلقة محكمة تمرّ بوزارتي العدل والشؤون الاجتماعية وتنفّذ عبر الأمن العام والداخلي والمنظمات غير الحكومية”، تقول المحامية موهانة إسحاق من جمعية كفى عنف وإستغلال. هذا النقص الجوهري، يؤدي إلى تقييد دور الأجهزة المعنية – لاسيما الضابطة العدلية والقضاء- في مكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص.
تعتبر مهنا أن الوصول إلى آلية مُحكمة ليس بالمنال الصعب، لا سيما أن “الأرضية موجودة، وكل ما يجب فعله هو البناء عليها”. وهي تضيف أنَ “إنشاء وحدة لمكافحة جرائم الإتجار بالأشخاص تجمع كل الجهات المعنية أمر مهم جداً، لكنه يحتاج أيضاً إلى حصر الإختصاص بها، وتعزيز معرفة العاملين ضمنها بالنسبة للحماية”. لهذه الناحية تشير إسحاق إلى الموجب الذي يحمّله القانون لوزارة العدل بـ “توقيع إتفاقيات مع الجمعيات تتعلق بآليات الحماية”. بالتالي النقص هنا يتعلق بتطبيق القانون، حيث يتبين أن “كفى حاولت أن تصل إلى مثل هذه الإتفاقية لكن العمل مع الوزارة لا يتقدم حتى الآن، وفي كل مرة تقف الإتفاقية عند مرحلة تدقيق”.
يُلحظ أن وزارة العدل، منذ إقرار المرسوم المتعلق بـ “تحديد شروط التعاقد مع جمعيات ومؤسسات مساعدة وحماية ضحايا الإتجار بالأشخاص وأصول تقديم المساعدة” لم توقّع سوى إتفاقية واحدة لمكافحة جريمة الإتجار بالأشخاص مع جمعية كاريتاس، دخلت حيز النفاذ بتاريخ 2 كانون الثاني 2015[4]. غير أن هذه الإتفاقية لم تُجدد، فانتهت مفاعيلها بعد سنة واحدة.
وفقاً لمعلومات زودت بها المديرية العامة للأمن العام “المفكرة”، فإنها قد وقعت مع كاريتاس مذكرة تفاهم[5] تتضمن بنودها إجراءات حماية الضحايا. وتنطوي هذه الإجراءات على “إنشاء مأوى خاص بالضحايا يتمتع بالسرية المطلقة والحماية غير الظاهرة، معاملة أي ضحية محتملة للإتجار كما تعامل الضحية حتى إثبات العكس، نقل الضحية المحتملة إلى بيت الأمان بصورة فورية، اتخاذ كافة الاجراءات المتعلقة بتأمين الحماية الإجتماعية للضحية من الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية وغيرها، إجراء التحقيقات المختصة مع الضحية وفق أرفع المعايير، تتمثل هذه الإجراءات بوجود محام ومرشدة إجتماعية ومندوبة السفارة ومترجمة، إبقاء الضحية في بيت الأمان إلى حين إنهاء كامل إجراءات المحاكمة”.
بالمقابل، تمكنت “كفى”، وفق إسحاق، من تكريس صيغ تعاون مع الأمن العام والأمن الداخلي مبنية على إتفاقيات شفهية. بناءً على هذه الإتفاقات يتم تحويل ضحايا الإتجار إلى المأوى التابع لكفى، والذي لا يعلم بمكانه إلا الجهتان المذكورتان. المستند المكتوب الوحيد في هذا السياق هو “كتاب مشترك توقعه كل من كفى والمديرية العامة للامن العام التي تقوم بالإحالة، صيغته موحدة بين كل وحدات الضابطة العدلية”. بالمقابل، في حال كانت الضحية أجنبية ولم تحوّل من قبل الضابطة العدلية، تقوم كفى “بناءً على إتفاق شفهي مع الأمن العام، بإبلاغه عن وجودها في المأوى السري”. هذه الاتفاقات “تفيد بشكل خاص لناحية الضحايا من جنسيات أجنبية في حال مخالفة شروط الإقامة، فلا يتم توقيف الضحية ما دامت تلتزم البقاء في المأوى”. لكن عدم منح الضحايا إقامات قانونية يجعلهن حبيسات المأوى: “كفى لا تجبر أي ضحية على ملازمة المأوى، على أنها لا تستطيع أن تضمن لها عدم توقيفها في حال خروجها. نحن نخبرها عن المخاطر فقط ولها حرية القرار. لكن بالطبع، عادة ما تختار ملازمة المأوى والتنازل عن حقها بالتنقل، لأنها لا تملك خيارات آمنة أخرى” تقول إسحاق.
عامل من جهتها لا تملك مأوى. وهي تحاول إيجاد تسويات مختلفة في موضوع الإقامات. تقول مهنّا أن “الحماية التي تقدمها عامل لا تؤثر على حرية العاملات، فنحن نعمل على الوصول إلى تسويات مع الأمن العام في حالات مخالفة الإقامة للتنزيل من قيمة الغرامات، وتسديدها لإستصدار إقامة للضحية”.
هذه الصعوبات وما تنتجه من تعطيل لآليات الحماية التي تحاول منظمات غير حكومية بناءها، ناتجة بشكل أساسي عن تقصير الحكومة في إقرار استراتيجية لمكافحة الإتجار. هذه الاستراتيجية تنتظر منذ سنوات إدراجها على جدول أعمال مجلس الوزراء.[6] وفي ظل عدم البت بأمرها، يبرز كتيب “دليل عملي حول مكافحة جريمة الإتجار بالأشخاص” المنشور من قبل معهد حقوق الانسان في نقابة المحامين في بيروت. وقد شارك في إعداده كل الجهات الحكومية المعنية: وزارة العدل، الداخلية والبلديات، الشؤون الإجتماعية، العمل، قوى الأمن الداخلي، والأمن العام والمجلس الأعلى للطفولة”.
لا يتضمن الدليل أي عنوان يشير مباشرةً إلى ضمانات متفق عليها أو آليات لتأمين الدعم والحماية. ولكن يمكن الإستدلال من خلاله على الحد الأقصى للحماية التي يمكن للضحية أن تصل إليها في الوقت الحالي. حيث يتضمن الدليل سؤالين: “هل تسأل الضحية عن مخالفتها للقانون؟ هل تستفيد الضحية من أية مساعدة؟”. والإجابة عليهما ضمن الدليل نفسه هي بمضمون البنود 8 و9 من المادة 589 من قانون العقوبات المضافة بموجب قانون الاتجار بالأشخاص.[7] ينطوي البندان 8 و9 على الإشكاليات الجوهرية في وصول ضحية الإتجار إلى الحماية. فالبند 8 يشترط على المشتبه بكونها ضحية إتجار، أن تثبت إنعدام إرادتها للقيام بالفعل المخالف للقانون.[8] وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة للضحية التي عادة ما يكون مصيرها – قبل الحماية- مرتبطا بالجاني. أما البند 9 فيحمّل عبء المساعدة والحماية لمؤسسات وجمعيات متخصصة تحال إليها الضحية بقرار قضائي.[9]
وهنا فراغ جديد يكرّسه هذا الدليل، حيث أنه لا يتضمن أي حل عملي يشكل ضمانة لمثول الضحية أمام القضاء.
القضاء لا يعرف قصص الضحايا
أولى إنعكاسات غياب آليات الحماية الرسمية، تبرز في حديث إسحاق حول منح الإقامات للضحايا الأجانب. فعدم منح الاقامات لا يؤدي فقط إلى خسارتهن حرية التنقل، إنما يخسرن قدرتهن على إكمال المحاكمة. وفقاً لـ إسحاق: “لا يلتزم الأمن العام بمنح إقامة لضحية الإتجار تلقائياً، وفي حال منحها في بعض الأحيان فتكون لمدة شهر، وفي أكثر الحالات فجاجة مثل قضية شي موريس منحن الضحايا ثلاثة أشهر”. ما يفاقم هذه المشكلة هو أن “القضاء يرفض ممارسة صلاحياته بمنح الضحية إقامة، وهو يحيل هذا الطلب إلى الأمن العام ليتخذ القرار فيه”. في مطلق الأحوال، تؤكد إسحاق أن الضحية “لا تٌمنح إقامة تسمح لها بالبقاء إلى حين إنتهاء المحاكمة، ولا حتى إلى حين مثولها أمام قاضي التحقيق حتى”.
على الصعيد نفسه لا تؤدي التسويات التي تتوصل إليها عامل إلى حماية حق الضحية بالوصول إلى العدالة. وفقاً لمهنا، إن الحلول التي يتم التوصل إليها “تصطدم ببطء الإجراءات القضائية. فمتوسط المدة التي تبقى خلالها القضية أمام القضاء هي خمس سنوات، والضحايا عادةً ما يطلبن العودة إلى بلادهن في وقت أقصر”. لذا “كثيراً ما تلجأ عامل إلى حل الوساطة بهدف التسريع بالحل”. تضيف مهنا أنه “بالنسبة لوجود العاملات أمام القضاء، المشكلة أنهن كالنساء في قضاياهن، مذنبات إلى أن يثبتن العكس. من هنا فإن وصول العاملة إلى حقها الآن يتعلق بسرعة الملف ونزاهة القاضي وحياده، وحلّ هذه المسألة يرتبط بموضوع إستقلالية القضاء”.
إشكالية المثول أمام القضاء تتشعب في إتجاهات أبعد من عدم المثول أمامه. فهذه الحالة هي الأقل خطورة حيث يكون قد اعترف للضحية بصفتها هذه، وحصلت بالتالي على حد أدنى من الحماية. بالمقابل، وفي العديد من الحالات قد لا يعترف للضحية بصفتها، وهو ما يؤدي إلى نتائج متباينة تختلف وفقاً للحالة. وتتراوح هذه النتائج بين عدم وصول “ضحية إتجار محتملة” إلى الحماية بالمطلق وتركها لعيشها في الظروف نفسها، وهي الحالة المحتملة لـ “لينسا”. كذلك قد يؤدي عدم حيازة صفة الضحية، إلى تعرضها للتوقيف، وهو عادة ما يحصل في حالات مخالفة شروط الإقامة بالنسبة للأجانب، والذي ينتهي بترحيلهم. كما يمكن أن تتفاقم حالة ضحية إلى حد سجنها إثر عدم إعتبارها ضحية. وهي الحالة الأكثر شيوعاً بالنسبة للنساء في مجال الدعارة. هذه الإحتمالات تنتج بشكل مباشر عن تطبيق البندين 8 و9 سابقي الذكر، لا سيما في الحالات التي تمثل فيها “الضحية المحتملة” أمام الضابطة العدلية قبل وصول أي طرف آخر معني بالحماية إليها.
حماية هشة في ظل تعدد المعايير
إحتمال عدم وصول الضحية إلى الحماية يتفاقم في ظل عدم وجود معايير موحدة لتحديد من هي الضحية المحتملة، ولا صيغة موحدة لإحالتها إلى الحماية. فتصنيف الضابطة العدلية للضحية، لا يؤدي بالضرورة لإحالتها إلى جهات معنية بالحماية. وهذا ما تبينه جداول قوى الأمن الداخلي المتعلقة بحالات الإتجار التي تم التحقيق فيها خلال الأعوام 2015-2016 و2017. فهذه التحقيقات تظهر أن 24 شخصا من أصل 162 أحيلت بشكل مباشر من قبل الأمن الداخلي إلى جمعيات معنية بالحماية هي : منظمة كفى (ثمانية نساء) ومنظمة انترسوس (11 امرأة)، كما أحيلت سيدة لبنانية تعاني من إعاقة عقلية وقعت ضحية استغلال جنسي إلى جمعية السفينة بيت أم النور في البترون. فضلاً عن ذلك، سلّم ثلاثة أطفال إلى منظمات أخرى: طفلة لبنانية وقعت ضحية استغلال جنسي من والدها وسلمت إلى ميتم الشعراني، وطفلتان حديثتا الولادة من أم أثيوبية سُلمتا إلى جمعية مارتا ومريم بعدما اشتبه بإقدام والدتهما على بيعهما إلى لبنانيين بالمقابل، أحيلت 25 ضحية من ضمن المجموع نفسه (162) إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي من ضمن الجهات التي تحيل للمنظمات المحلية المعنية. بالمقابل، أحالت المديرية العامة للأمن العام 150 ضحية محتملة إلى “بيت الأمان” التابع لكاريتاس، من العاملات في الخدمة المنزلية وذلك نتيجة شكاوى تتعلق بالآتي: عدم دفع الأجور والعنف الجسدي (تعذيب وضرب وطعن وإيذاء وتهديد) والاستغلال الجنسي (اغتصاب وإرغام على ممارسة الدعارة وتحرش) والاحتجاز والحمل والإجهاض والمرض وعمل القاصرات وسوء المعاملة وكثرة العمل وتعدد الكفلاء وسوء وجهة الاستخدام والمنع من الاتصال. وقد أحيل الملف إلى القضاء المختص بالنسبة لـ 27 منهن، من ضمنهم خمسة ملفات تتعلق بعدم دفع الأجور. هذا ولم تتوفر للمفكرة معلومات واضحة عما إذا كانت العدد 150 هو مجمل الضحايا المحتملات المعروضة قضاياهن أمام الأمن العام.
إلى ذلك، فإن الضحايا يصلون إلى المنظمات المعنية بالحماية بطرق أخرى أبرزها وفقاً لما ورد في مقابلات المفكرة: لجوء الضحية نفسها إلى المنظمة، إحالتها من قبل جمعيات أخرى محلية، أو دولية لاسيما الأمم المتحدة، إتصال من قبل أفراد يبلغون عن الحالة. في هذه الحالات، أي عندما لا تكون الضحية محالة من جهة رسمية، تبرز ثغرة تعدد المعايير المتعلقة بتعريف ضحية الإتجار بالبشر المعتمدة من قبل المنظمات المعنية.
فبينما تعتبر “كفى” أن “العاملات، وبمجرد خضوعهن لنظام الكفالة، يصبحن ضحايا محتملات للإتجار بهن”، فإن “عامل” لا تتفق مع هذه الوجهة. وتشير مهنّا إلى أن “الأمن العام يعتبر أن أكبر نسبة ضحايا إتجار هي بين العاملات في الخدمة المنزلية، لكن بالنسبة إلينا لا رابط مباشر بين نظام الكفالة وجرائم الإتجار، لذا نفضل ملاحقة كل حالة على حدة من منشئها لنتأكد أنها ضحية إتجار”.
أما لناحية النساء في مجال الدعارة، فترى مهنّا أنها “أكثر حالة إتجار واضحة”. أما إسحاق فتطابق بين الدعارة وبين الإتجار معتبرةً أن “المرأة في هذا المجال ضحية إتجار سواء قالت أنها كانت مجبرة على ممارسة الجنس، أم أنها وافقت على القيام بهذا العمل”. لهذه الناحية، لا تتفق المساعدة الإجتماعية في “دار الامل” هبة أبو شقرا مع هذا الإتجاه حيث تعتبر أن “الدعارة فيها إستغلال بطبيعة الحال لكنها تختلف عن الإتجار”. وهنا تعتبر “دار الأمل” أن “عاملة الجنس تكون ضحية إتجار في حال كانت محتجزة أو في حال كانت لا تحصل على المال مقابل عملها، ولكن ليس كل شخص عمل في الدعارة يكون ضحية إتجار”. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مقاربة أبو شقرا لا تتفق مع القانون الذي يبقى أكثر إتساعاً لهذه الناحية. إلا أن ما يمكن فهمه جراء المقابلة، لجهة ما تريده “دار الأمل” من مقاربتها، فهو عدم حصر عملها بالمصنّفات ضحايا، إنما هو يشمل كل العاملات في مجال الدعارة، بما فيهن اللواتي لا تنطبق عليهن معايير ضحية الإتجار.
على صعيد ثالث، تلفت المحامية لينا شمعون من جمعية عدل ورحمة “الى وجود إلتباس في العديد من الحالات لناحية إمكانية الإتجار بالأشخاص الذين يتم تهريبهم من سوريا إلى لبنان حالياً، حيث يتم ابتزازهم واستغلال احتياجاتهم ورغبتهم بدخول لبنان، فيفرض على البعض تهريب مواد مخدرة أو مستندات مزورة”.
إذن يتقاطع تعدد المعايير، مع تعدد أساليب وصول المنظمات إلى الضحايا، لتنتج عقبة جديدة أمام حماية الكثير من الضحايا المحتملين، بشكل خاص في الحالات التي تكون فيها معايير المنظمة هي الركيزة الأساسية التي تحدد ما إذا كانت أمام ضحية إتجار أم لا. مسألة لا يمكن ضبطها ما لم يتم تحديد معايير موحدة ضمن آليات واضحة لحماية الضحايا والإشتراك في هذه المهمة.
الحكومة لا تموّل أيضاً
الجزء الثاني من إجابة الدليل سابق الذكر، عما إذا كانت الضحية تستفيد من مساعدة، هو البند 10 من المادة 586 من قانون العقوبات.[10] وهو ينص على أن “تصادر الأموال المتأتية عن جرائم الإتجار بالأشخاص، وتودع في حساب خاص لدى وزارة الشؤون الاجتماعية لمساعدة الضحايا”. كما ينص المرسوم المتعلق بتعاقد وزارة العدل مع المنظمات غير الحكومية على أن “تحدد في الاتفاق مهام الجمعية أو المؤسسة وشروط تنفيذها والمساهمة المالية التي تقدمها لها وزارة العدل سنوياً”. والحال أن آليتيّ التمويل معطلتان تقريباً، في ظل عدم وجود أي اتفاقية سارية المفعول حاليا وعدم إنشاء الصندوق لدى وزارة الشؤون الاجتماعية.
تقول إسحاق أنه “يفترض بموجب القانون أن ينشأ صندوق يموّل مساعدة الضحايا، وهو يحتاج إلى مرسوم لا معلومات لدي عن صدوره بعد”. هذا وتشير كل من جمعيات عامل، وكفى ودار الأمل إلى الصعوبات المالية، كواحدة من الصعوبات الأساسية في تأمين الحماية للضحايا. وذلك نتيجة إلقاء كامل العبء على المنظمات غير الحكومية في هذا المجال. تقول إسحاق أنه “لا يوجد دعم رسمي فالدولة تركت كل الثقل على الجمعيات لناحية التمويل والقدرات”. وفيما تشكل المسألة المالية إشكالية لناحية تأمين الحماية ضمن المآوي التابعة لكفى، فإنها تشكل عقبة بالنسبة لـ “عامل” أمام “إنشاء مشاريع أو منح الضحايا رأس مال يؤمن حمايتهن بعد إنتهاء برامج تأهيلهن الإقتصادي”. فعادةً ما تعمد عامل إلى “تمكين الضحايا إقتصادياً بهذه الطريقة، لكن الأمر يرتبط بقدراتنا المادية”.
من جهتها توضح أبو شقرا، أن مشكلة التمويل تمتد إلى كيفية التعامل معه، والحصول عليه على حد سواء: “منذ فترة، وهناك مبالغ طائلة تدفع على إصدار دليل من هنا وتدريب كادر من هناك، فيما ينخفض التمويل للعمل المباشر مع الضحايا”. إلى ذلك تتكلم أبو شقرا عن صعوبات خاصة بتمويل العمل الوقائي، “فدار الأمل تستقبل نساء عاملات في مجال الدعارة وتقدم لهن المشورة الإجتماعية والصحية والتأهيل الاقتصادي، لكن تمويل هذا العمل ينخفض بسبب الوصمة على عاملات الجنس”.
ماذا يحصد من يبلغ الحماية؟
يتراوح الدور الذي تؤديه الجمعيات الخمس التي قابلتها المفكرة بين الوقاية، وهو ما تضطلع به جميعة “دار الامل”، المتابعة النفسية والقانونية والإجتماعية والصحية ضحايا الإتجار، وهو ما تؤمنه “عدل وحمة وكفى وانترسوس وعامل”.
هذه المتابعة تستمر وفقاً لكل الجمعيات خلال مرحلة كافية لا تكون الضحية بعدها معرضة للخطر. وترتكز جميعها إلى إخضاع الضحايا لبرامج تأهيل تهدف لتمكين الضحية اجتماعياً واقتصادياً. وحدها كفى من بين الجمعيات الخمس، تدير مأوى لإقامة ضحايا الإتجار وهو سري. بالمقابل، يشار إلى أن جمعيات أخرى، منها كاريتاس، فهي تملك مأوى يقوم بالدور نفسه، لكن التواصل معها تعذر لأسباب مختلفة.
أما لناحية دار الأمل، فهي تعمل على تفعيل برامج “الوقاية من الوقوع ضحايا لجرم إتجار بالأشخاص”. تقول أبو شقرا أن الجمعية تنفذ برامج دعم خاصة بالأطفال تهدف إلى حمايتهم من الوصول إلى مراحل إستغلال. وهي تتضمن “التدريب على الحماية الذاتية، وتدعيم المدرسة والانخراط في نشاطات ترفيهية، إلى جانب التوعية على العنف ضد الأطفال”. اما لناحية النساء في مجال الدعارة، فتعتبر الجمعية أن إستقبالهن يشكل أولوية، وتستقبل أيضاً النساء المعرضات لخطر الإنخراط في هذا النوع من العمل، أو النساء المعنفات، والنساء بعد خروجهن من السجن.
تقول أبو شقرا أن “النساء يلجأن إلى مركزها للحصول على خدمة ما قد تكون قانونية أو صحية أو اجتماعية، لا تتمكن من الوصول إليها في أماكن اخرى بسبب الوصمة الاجتماعية”. تضيف أن “وجود مساحة آمنة تقدم الخدمات من دون تقييم أو اشتراط كونها ضحية إتجار، وبعيداً عن أي أحكام مسبقة، يؤدي إلى وقاية النساء من التحول إلى ضحايا للإتجار حتى في حالات ممارستهن للدعارة، وحمايتهن بهذا المعنى”.
- نشر هذا المقال في عدد | 56 | تموز 2018، من مجلة المفكرة القانونية. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
هل حقا نريد ردع الإتجار بالبشر؟ هل حقا نريد حماية ضحاياه؟
[1] وفقاً لمعلومات المفكرة من الأمن العام
[2]– بيان صادر عن الأمن العام إثر انتهاء التحقيق في قضية ليليزا: بالاستماع الى إفادة الاثيوبية صاحبة العلاقة، أفادت أنها تقيم وتعمل في منزل كفيلها منذ سبعة اشهر، وانها تعامل معاملة حسنة ولم تتعرض لسوء المعاملة وتتقاضى معاشها الشهري وليس لها بذمة الكفيل أي شيء، وأكدت أن سبب سقوطها من شرفة منزل كفيلها هو الانزلاق عن الكرسي اثناء نشرها للغسيل وليس لسبب آخر وأن الحادثة حصلت قضاءً وقدراً وهو ما أدلت به أمام مخفر محلة السقوط . وحول الفيديو أفادت انها قامت بالتكلم مع عمتها بعد حادثة السقوط واثناء وجودها في المستشفى بكلام غير صحيح لناحية سوء المعاملة والضرب والتعنيف والحبس وذلك بهدف فسخ عقد عملها والعودة الى بلدها(..)”
[3] – علمت المفكرة وقتها أن جمعية كاريتاس تابعت القضية، وحاولت التواصل مع المنظمة المذكورة لناحية قضية لينسا وأيضاً لناحية التحقيق الحالي، إلا أنها لم تصل إلى إجابات في المرتين.
[4] – جان دارك أبي ياغي، وزارة العدل وكاريتاس يوقعان اتفاقية لحماية ضحايا الاتجار بالبشر، مجلة الجيش، ناس وحقوق، العدد 357، آذار 2015.
[5] – رغم عدم تحديد المديرية العامة للامن العام تاريخ هذه الاتفاقية، من المرجح ان المقصود بها هو المرسوم رقم 14289 تاريخ 12-1-2005 المتعلق بابرام مذكرة تفاهم بين المديرية العامة للامن العام ورابطة كاريتاس لبنان – مركز الاجانب والهيئة الكاثوليكية العالمية للهجرة، لانشاء “بيت الأمان” لضحايا الاتجار بالبشر
[6] – لجنة حقوق الانسان استكملت موضوع الإتجار بالبشر، موسى: لاقرار مشروع الاستراتيجية العامة الموجودة في مجلس الوزراء منذ سنوات، الوكالة الوطنية الخميس 21 نيسان 2016>
[7] – تعديل قانون العقوبات بالقانون رقم 164/2011
[8]– لا تعاقب الضحية التي تثبت أنها أرغمت على ارتكاب أفعال معاقب عليها في القانون، أو أنها خالفت شروط الإقامة أو العمل إذا كانت أجنبية.
[9] – المادة 586 الفقرة 9 من القانون رقم 164/2011
[10] – المادة 586 (10) من قانون العقوبات المضافة بموجب قانون تجريم الإتجار بالأشخاص رقم 164/2011
“